حينما سأل يهوذا السيد عمن الذي يسلمه كان يمكن الا يجيب، ولكنه اجاب دون ان يعي بقية التلاميذ عن شخصية مسلمه.
هذا السرد الروائي يصف لنا كيف كشف الرب يسوع عن مسلمه دون ان يعلم بقية التلاميذ.
+++
التفت يسوع لتلاميذه وقال لهم:
شهوة اشتهيت أن آكل معكم هذا الفصح قبل أن أتألم. إني أقول لكم إني لا آكل منه بعد، حتى آكله جديدًا في ملكوت الله..
ثم أمسك المعلم بالكأس الأول من عصير الكرم، وشكر الله على ثمار الحقل، وأعطى تلاميذه قائلًا:
مبارك أنت الإله الأبدي الذي فديت الشعب. مبارك ملك الوجود، خالق ثمار الكرم.
تقدم يوحنا أصغر الموجودين بالسؤال التقليدي للمعلم:
لماذا يا معلم تختلف هذه الليلة عن أي ليلة أخرى؟
فقص يسوع قصة التحرُّر من عبودية فرعون والفداء بالدم، ولكنه قصَّها بطريقة جديدة جعلت أندراوس يتذكر قول معلمه يوحنا المعمدان عن يسوع "هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم كله"، ثم سبَّحت جماعة التلاميذ الجزء الأول من الهاليل (مز 113، 114).. وشكر المعلم، ثم قدَّس الكأس الثانية، وبعد هذا أخذ المعلم كسرتين من الخبز وكسر الأولى ووضعها على الثانية وشكر الله الذي أخرج القمح من الأرض، ثم مرَّر كسرة الخبز على الأعشاب المرة وغمسها في حساء الفاكهة وأكلها، وأخذ قطعة صغيرة من لحم الحمل فأكلها، وتبعه تلاميذه كل منهم ينتزع نصيبًا من لحم الحمل ويأكله، وعظم منه لا يكسر، وبين الحين والآخر يزدرد كل منهم بعض الأعشاب المرة.
وكان من المفروض أن يتقدم أحد الخدام أو أصغر الموجودين بطست في يسراه وإبريق في يمينه للجماعة ليغسلوا أيديهم ويستكملوا طقس الفصح، ولكن التلاميذ فوجئوا بالمعلم ينهض من العشاء يخلع ردائه، ويأخذ منشفة يئتزر بها.. أمسك الأبريق وصب الماء في المغسل، وحمل المغسل إلى تداوس أقرب واحد منهم، وركع أمامه يطلب منه مدَّ رجليه، فأطاع تداوس في خجل، وراح يسوع يفك سيور الصندل، وأمسك بالقدمين المتسختين بتراب الأرض وغسلهما بالماء الدافئ وجفَّفهما بالمنشفة، ورغم أن يوحنا حاول القيام بهذا العمل إلاَّ أن المعلم لم يسمح له بذلك قط.. ومن يطيق ومن يحتمل أن السيد يركع أمامه كعبد ليغسل أقدامه؟! كل منهم يأبى هذا ولكن أين المفر؟! ما عدا يهوذا الذي مدَّ قدماه بدون استحياء إذ ماتت فيه الحياة، وأمسك السيد بقدمي يهوذا يربت عليهما في حنان بالغ وكأنه يريد أن يقول له:
"أقبل قدميك لا تُلقي بنفسك في الهلاك.. يا يهوذا يا إبني.. أنا سائر في درب الموت بإرادتي.. فلماذا تجلب على نفسك حكم الموت يا يهوذا؟!..
غسل يسوع أقدام يهوذا رغم علمه في أي طريق سعت هاتان القدمان الليلة الفائتة..!!
أما بطرس الذي فاض قلبه بالحب لسيده فإنه لم يتململ مثل بقية إخوته من الآباء الرسل. بل منع رجليه عن السيد قائلًا:
- يا سيد أنت تغسل رجلي..؟! لا يكون هذا ابدا.
وبرقة بالغة قال يسوع:
- لست تعلم الآن ما أنا أعمل يا بطرس، ولكنك ستفهم فيما بعد.
- لا .. لن تغسل رجلي أبدًا.
- إن كنت لا أغسلك يا ابني فليس لك معي نصيب..
وبسرعة خاطفة مدَّ بطرس قدميه ويديه وأحنى هامته وهو يقول:
- كلاَّ يا سيد كلاَّ.. ليس رجلي فقط بل أيضًا يديَّ ورأسي وكل جسدي.
- الذي قد أغتسل ليس له حاجة إلاَّ إلى غسل رجليه بل هو طاهر كله. وأنتم طاهرون وليس كلكم..
وبعد هذا أخذ يسوع رداءه واتكأ وهو يقول:
- أتفهمون ما صنعت بكم؟
عمّ الصمت بينما تعلَّقت أعين الجميع ببطرس بعد أن تكلم معه المعلم عن ارتباط هذا العمل بالنصيب الصالح، ولكن ولا بطرس أدرك ما يجري، ولهذا لم يكن لديه لا إجابة ولا نصف إجابة.
فقال يسوع: أنتم تدعونني معلمًا وسيدًا وحسنًا تقولون لأني أنا كذلك. فإن كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض، لأني أعطيتكم مثالًا حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضًا. فتململ يهوذا قائلًا في نفسه: مالنا وشغل الخدم والعبيد؟
ثم أردف يسوع قائلًا:
الحق الحق أقول لكم أنه ليس عبد أفضل من سيده ولا رسول أعظم من مرسله.. الكبير فيكم ليكن كالأصغر، والمتقدم كالخادم، لأن من هو أكبر؟.. الذي يتكئ أم الذي يخدم؟. أليس الذي يتكئ؟ ولكن أنا بينكم كالذي يخدم.. أنتم الذين ثبتم معي في تجاربي. إن عملتم هذا فطوباكم إن عملتموه..
حدث هذا بينما وقف " لوسيفر " مشدوهًا وشياطينه قد اعترتهم الحيرة، لأنه استعصى عليهم فهم فكر الاتضاع، فنظروا باشمئزاز وقال لوسيفر لملائكته: ألم أقل لكم أنه مجرد عبد، ولا يزيد عن كونه عبدًا، ولذلك قام بعمل العبيد.. أليس حسنًا أننا حركنا حبيبنا يهوذا ليبيعه بثمن عبد.. آه أيها العبد.. إنني في لهفة من أمرك.. عندما تقطر دماءك.. دماء العبيد على صليب العار.. لن تستطيع فكاكًا يا يسوع من فخ الصليب الذي أعدَّدته بحكمتي!!
واضطرب يسوع بالروح، ولأول مرة يفتح ملف التلميذ الخائن المرائي، ويتنهد قائلًا:
الحق الحق أقول لكم إن واحدًا منكم سيسلمني..
حقًا كان المعلم يعلم أن يهوذا سارق ولص يسلب الأموال التي تضعها السيدات الثريات في الصندوق، ولكنه ستر عليه طويلًا سترًا يفوق الوصف، وربما همست بعض النسوة في أذن بطرس بما يجري، ولعل بطرس لفحه بنظرات الريبة والشك، حتى توقع الخائن أن المعلم سيطالبه بتسليم حساب وكالته، مع أن المعلم قد مكَّن له الحب إلى درجة تفوق الخيال، وإزاء حديث المعلم صمَّ يهوذا أذناه وكأنه لم يسمع شيئًا، أو كأن الموضوع لا يخصه، وبدا الذئب في ثياب الحملان، وتناسى أنه بالأمس سعى إلى رؤساء الكهنة يعرض عليهم تسليم حمل الله، وهم فرحوا به جدًا وأعطوه ثلاثين من الفضة، فعاهدهم على تسليمه، ولاسيما أنهم أقنعوه بأنه من المستحيل أن يكون يسوع هذا الذي ينادي بمحبة الأعداء هو المسيا.. إنه يود لو يُضيّع الأمة ويخرب الهيكل.. آه لو همست يا يهوذا في أذن سيدك بأنك أنت الذي اتفقت مع القيادات الدينية على تسليمه، لخلصك سيدك من الفخ الذي أمسك بك، ولكن للأسف الشديد فإنك يا يهوذا اتخذت من هيروس مثلًا أعلى لك، ذاك الذي من أجل الأقسام ذبح المعمدان.
أما التلاميذ الأطهار فقد وقع عليهم الخبر وقوع الصاعقة، فاغتموا وأصابهم الأسى والأسف والحزن العميق، وكلمات يسوع الرزينة المؤثرة ترن في آذانهم، ففقدوا الثقة في أنفسهم، لأن ثقتهم في معلمهم فاقت ثقتهم في أنفسهم، ونظروا إلى بعضهم البعض نظرات الحيرة والتساؤل، ولم يجرؤ أحدهم على الاعتراض ولا بطرس ذاته، فما دام يسوع قال هذا فلابد أن يحدث هكذا.. تُرى مَن منا سيسلمه؟!
ورفع يعقوب بن حلفا إصبعه في مذلة وانكسار قلب قائلًا:
- هل أنا يا رب؟
وصمت المعلم، وصمته هذا لم يمنع بقية التلاميذ من طرح ذات السؤال:
- هل أنا يا معلم؟.. هل أنا يا سيد؟!.. هل أنا يا رب؟!..
عجبًا لتلاميذ بسطاء يشكُّون في أنفسهم ولا يشكُّون في أخيهم الذي كان لصًا، وتبًا لك يا يهوذا لأنك وأنت صانع هذا الأمر بعينه تركت أخوتك يتعذبون في شكوكهم، وكان بإمكانك أن تريحهم وتربح نفسك.. لماذا يا هذا دفعت بنفسك في زمرة القديسين وأنت لست بقديس؟! ومالك تضع نفسك في مجمع الأطهار وأنت لستُ بطاهر؟!
بل وأكثر من هذا أن يهوذا ظنها تسلية، فكل واحد يقول له:
- هل أنا يا رب؟
والمعلم صامت لا يجيب، وإذ ملأ الشيطان قلبه وغطى الرياء حياته، قرَّر أن يسأل ذات السؤال مع استبدال كلمة يا رب بكلمة يا سيد، فقال:
- هل أنا يا سيد؟
ولا عجب فإن الخطاة "يقتلون الأرملة والغريب ويُميتون اليتيم. ويقولون الرب لا يبصر إله يعقوب لا يلاحظ" (مز 94: 6، 7).
وكان لابد للسيد أن يجيب، لئلا يظن يهوذا في جهله أن المعلم يجهل أمره، وإذ أراد المعلم أن تصل الإجابة إلى يهوذا فقط دون بقية التلاميذ حفاظًا على مشاعره. صمت قليلًا ثم همس في أذن يهوذا الجالس عن يمينه دون أن يسمعه أحد:
- أنت قلت.
ولم يلحظ أحد من التلاميذ ما قاله المعلم ليهوذا الذي تصنَّع الاتزان والهدوء، وكأنه أصم لم يسمع صوت المعلم، وتساءل يهوذا في نفسه: ألعل أحد رآه بالأمس وهو يدخل إلى قصر قيافا، وأخبر المعلم بما كان؟!
وتململ بطرس في جلسته، فهو لابد أن يعرف من الذي سيسلم سيده.. أنه على استعداد تام للفتك به وليكن ما يكن، فأي عار أن يخون التلميذ معلمه؟! ومع انفعالاته هذه، فإنه لم توآته الشجاعة ليسأل المعلم عمن هو، فمنذ قليل أسكته المعلم عندما احتج على غسل الأرجل، فآثر بطرس الصمت كمدًا، ولكنه لم يحتمل، فأومأ للتلميذ الصغير الجالس عن يسار المعلم، وفهم يوحنا وأطاع، وهمس في أذن معلمه:
- من هو يا رب؟
ولم يشأ المعلم أن يرد ليوحنا سؤالًا، ولم يشأ أيضًا أن يعرف بطرس من هو، ولا يريد أن يفضح يهوذا أمام الجماعة، فبحكمته الإلهية ضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد، إذ همس في أذن يوحنا دون أن يسمعه أحد:
- الذي يغمس يده معي في الصَّحفة هو يُسلّمني.
وقد كان من أدب التلاميذ أنهم متى لمحوا يد السيد تتجه إلى الصَّحفة رفعوا أيديهم، أما يهوذا إذ سكنه شيطان الكبرياء كان يزاحم معلمه في الصَّحفة، وربما يكون الشيطان قد صوَّر له أنه هو الأحق برئاسة هذه الجماعة، وصمت يسوع حتى ازدرد يهوذا ما في فمه، ولكي يؤكد ليوحنا ذات المعلومة همس في أذنه قائلًا:
- هو ذاك الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه..
وإذ كان الطقس يُفرض أن رب العائلة يغمس لقمة في صَّحفة الفاكهة ويعطيها للابن الأكبر أو أكبر الحاضرين، فعل يسوع هكذا، وغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا الذي أنتفخ ونفش ريشه أمام أخوته، وكأنه يقول لبطرس الذي طمع في مكانه منذ قليل: أنظر تقدير ومعزَّة وإحترام المعلم لي.. فمن أنت حتى تطمع في مكاني ومكانتي؟!
وكان الشيطان يغوي ويناوش يهوذا من الخارج، أما بعد اللقمة فقال لوسيفر لأحد أتباعه العتاولة: أدخل إلى يهوذا، فهوذا قلبه مكنوسًا مزينًا، فتربع على عرش قلبه، وشكّل فكره، وأجعل نظراته زائغة، وأفقده القدرة على التركيز.. هوذا أنت تعرف مهامك.
أما يوحنا ففهم وأدرك.. تأثر جدًا وتأسى في نفسه.. ختم على الأمر ولم يفصح، واجتهد كثيرًا حتى لا تفضحه مشاعره، وقال في نفسه: ياللهول.. يهوذا الذي وهبه السيد سلطانًا على الشياطين، حتى كان يطردها ويزجرها وينتهرها، يبيع نفسه للشيطان، ويصير مأوى للشياطين ولكل روح نجس.. يالحزن النفس وكسرة القلب!!
قال يسوع:
- ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه، ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يُسلَّم ابن الإنسان.
إنها محاولة أخيرة لعل يهوذا يرجع إلى نفسه، ويدرك الأمور على حقيقتها.. إن ابن الإنسان سيمضي كما هو مكتوب، بحسب مشورة الله المحتومة.. نعم هذا سيتم يا يهوذا.. سيتم سواء سلمتني أو لم تفعل، فلماذا تزج بنفسك يا تلميذ في طريق الخيانة البشعة؟!!
حينئذوقال يسوع بصوت مسموع:
- يا يهوذا.. ما أنت فاعله فأفعله بأكثر سرعة.
وقال بطرس في نفسه:
- ألعل المعلم قد أرسله في مهمة عاجلة لشراء احتياجات العيد..
وقال تداوس في نفسه:
- لعل المعلم يكون قد أرسله في مهمة تخص الفقراء.
وأدرك يهوذا أن المعلم يعرف الأمر كله، وأن كل أوراقه صارت مكشوفة، فتضايق جدًا، وشعر كأن شيطانه يلف حبلًا حول رقبته، ويخنقه، لذلك أدار ظهره للجالسين وانطلق كالسهم الطائش، بنظرات زائغة ويدان مرتعشتان، وعقل فقد اتزانه، ويده على جيبه تتحسَّس الكيس الجلدي الخفي وبه ثمن الخيانة.. خرج يهوذا وكان الوقت ليلًا، فغاص في ظلمة الليل البهيم منطلقًا إلى بيت قيافا حيث طريق الهلاك.
كتاب "كنت معه هناك" - حلمي القمص يعقوب