اغصان زيتون
تلوح في الفضاء.. سعف النخيل الابيض يخفق عاليا.. الاف المسيحيين ترتفع اصواتهم بالتهليل.. .. مستحق ايها القديس.. مستحق .. مستحق.. مستحق.
الناس يستقبلونه بالهتاف.. وهو يبكي!
هم يعلنون ابتهاجهم و هو حزين! وجالت في نفسه هذه
الخواطر:
انه حمل ثقيل . كيف استطيع ان احمل كل هذا لوحدي؟
انني انسان ضعيف.. "لكن حينما انا ضعيف فحينئذ انا
قوي".. انت الذي تعمل كل شئ يارب.
واستلم الاسقف الجديد مهام منصبه.. وفي خطوته احتدمت
المشاعر المختلفةو داخله واختلطت بعضها ببعض.. صور متلاحقة .. ورؤى غريبة..
اغصان زيتون .. وصلبان..
مسامير و سعف نخيل.. وجنود.
.. وملاك بيده سيف من نار.. وفي يده الاخرى اكليل من ذهب
.
موسيقى خفية تهدر هدير البحر الهائج..
واصوات شياطين ترقص رقصة الموت.
شعب غفير وتضرعات وابتهالات.
وايد ممدودة نحو السماء.. ركب منحنية ودموع..
وفجأة يعم السكون..
رحماك ايها المصلوب..اننا نحيا في دائرة العناية الالهية.
نعم ولا تسقط شعرة من روؤسنا دون اذن منه..
+++
في ذلك الوقت كان الناس يتناقلون الاخبار الجديدة عن
الاضطهادات الشنيعة التى اثارها اريانوس والي انصنا الذي قام برحلة تجول خلالها في
بلاد الصعيد ليرى مدى تنفيذ اوامر سيده الامبراطور الخاصة بضرورة التبخير للاوثان
مع العمل على "تطهير الارض" من المسيحيين.
اجتمع الشعب في الكنيسة للصلاة صباح الاحد و ازدحمت
الكنيسة بالمصلين.. وكل يريد ان يسمع كلمات معزية من اسقفه الحبيب "الانبا
بضابا".
الانفعالات تعلو على كل وجه.
.. وجو الكنيسة له رهبة شديدة وكأنما الملائكة في حالة
طوارئ.. كل ملاك يحمل في يده اكليلا من ذهب.. مستعد لتلبية النداء...
رفع شاب اصبعه مستأـذنا و القى على الاسقف احتجاجا في
صورة سؤالا !
-
الاطفال يذبحون امام امهاتهم..
وتعذب النساء بلا رحمة..
الشيوخ يساقون كالنعاج.. والرجال يصلبون
ما الجريمة التي ارتكبها هؤلاء؟
دار الاسقف ببصره في فضاء الكنيسة وقال مخاطبا الجمع
ومجاوبا على الشاب:
يا اولادي .. ان كنا نتألم معه فلكي نتمجد معه..
وجميع الذين يريدون ان يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع
يضطهدون..
ماذا يفعل بنا الاضطهاد؟
انه قنطرة لنعبر سريعا الى حيث يوجد الرب يسوع..
حيث اكون انا تكونون انتم ايضا..
اتحبون انفسكن كثيرا يا اولادي؟
.. اذن "من يحب نفسه يهلكها.. ومن يبغض نفسه في هذا
العالم يحفظها الى حياة ابدية"
واخذ الاسقف يشجع الشعب ويقويه.. ووذكرهم بقصة الام
دولاجي واولادها الاربعة الذين ذبحوا على ركبتها..
....
ظهر التأثر العميق على جموع الشعب وهم يسمعون وزاد من
تأثرهم ان هذه الحادثة تمت من اشهر قلائل في البلدة المجاورة ل"قفط" وهي
"اسنا".
واستمر الاسقف يقول:
قلت لكم ان الاضطهاد قنطرة نعبر عن طريقها سريعا.. حيث
يوجد يسوع.
والان ايها الاحباء استودعكم المسيح.
واجبي ان اكون هناكبجوار اولادي.. اشجعهم ..
سأذكركم جميعا في صلاتي..
وداعا .. سأذهب حيث الاكليل..
وارتفعت اصوات الشعب هادرة..
لا تتركنا يا ابانا..
اجابهم الاسقف:
.. انني سأذهب لاكمل نقائص شدائد المسيح في جسدي لاجل جسد المسيح الذي هو الكنيسة
وارتفع صوت من
بين الجموع:
خذني معك ايها الاب .. شهوتي ان استشهد من اجل المسيح.
والتفت الاسقف الى مصدر الصوتواذ هو القس اندراوس ابن
خالته وزميل صباه بصحبته الاب خرستوذلو الذي اعلن عن رغبته هو ايضا في الذهاب
معهما الى اسنا!
وبكى الشعب وهو يودع اسقفه الحبيب
-2-
مدينة اسنا والوقت ظهرا. الشمس كقطعة ملتهبة من الجمر
احالت الجو جحيما لا يطاق.. تشتاق الى نسمة هواء واحدة فلا تجد .. وهروبا من وهدة
الشمس لجأ الناس الى الظل الذي لا تستطيع ان تحتمله هو الاخر..
همس .. وكلام حذر.. وعيون تتلفت هنا و هناك..
اريانوس الوالي يقبض على المسيحيين ويزج بهم في السجون..
ويعذبهم عذابات وحشية.. يقطع اوصالهم و يصلبهم على جذوع الشجر ويتفنن في تعذيبهم.
سار القديس بضابا في شوارع اسنا بحثا عن اولاده.. انه
يعرفهم من ملامحهم..
وفي الطريق رأى جنديا خشن المظهر يسوق امامه بعض
المسيحيين ويعاملهم بفظاظة .. فاقترب منه القديس و سأله :
-
ما الجريمة التي اقترفها هؤلاء حتى تعاملهم هذه المعاملة
القاسية؟
ظهرت علامات الدهشة على الجندى الذي رفع صوته ليرد على
الشيخ.. وقبل ان يهوى على وجه السائل توقف فجأة وارتعشت يداه.. وفي هدوء اجاب على
السؤال –بالكلام هذه المرة:
-
انهم مسيحيون..
-
وهل هذه جريمة ؟انهم يعبدون الله الحى خالق السماء
والارض!
-
ولكنهم يرفضون السجود لمعبوداتنا!
-
مصنوعات الايدي.. معبوداتكم؟! او هل يسجدون لما يصنعه –
البشر- بأيديهم؟
-
منهم انت؟ اذن تعال.. مهمتي ان اقبض عليكم!
وانضم القديس الى هذه الجماعة .. مهمته ان يشجع امثال
هؤلاء .. ويصلي لاجلهم.
وعندما مثل الجنود امام اريانوس الوالي بهذا العدد الضخم
.. سر بالاكثر لوجود اسقف بين هذا العدد الكبير!
-
اه من هؤلاء الاساقفة .. احضار اسقف واحد افضل من الف من
هؤلاء. واشار الى المسيحيين!
ودارت في مخيلة الوالي على الفور ذكريات انصنا واسقفها
الانبا اباديون فتملكه الغيظ وتمنى لو يثأر لنفسه الف مرة في اليوم!
قال له الانبا اباديون اثناء مناقشة دارت بينهما:
-
احترس على هذه الاوثان لئلا يسرقوها منك ويبيعوها؟
احس الوالي ان الاسقفه هزمه..
ونظر الوالي فوجد الانبا بضابا ماثلا امامه فصرخ في وجه
الجنود:
خذوه الى السجن .. قيدوه بالسلاسل من يديه ورجليه..
اتركوه خمسة ايام بلا طعام ولا شراب لعله يرجع الى صوابه.
وبعد خمسة ايام احضروه امام الوالي واذا بوجهه يضئ
بلمعان شديد .. كوجه ملاك.
ايها الساحر ؟ خمسة ايام بلا طعام و لا شراب وتبدو بهذا
المنظر؟
رويدك ايها الوالى اعمى البصيرة .. ان هذا الاسقف يمارس
الصوم الانقطاعي لايام عديدة بين الحين والاخر.
+++
حضر جندي ضخم الجثة وبعد ان ادى التحية العسكرية قال:
كل شئ على ما يرام يا سيدي الوالي
خرج الوالي بصحبة الحرس الخاص الى مكان فسيح خارج مدينة
اسنا كان يستخدم سوقا وقد ازدحم المكان بالاف المشاهدين. واقبل موكب المسيحيين
المقيدين بالسلاسل يحرثهم الجند شاهرين سيوفهم.. وفي وسط المكان كانت هناك نار
مشتعلة ترتفع السنتها الى عنان السماء، و ترى بعض الجنود يلبسون ملابس خاصة تحميهم
من وهج النيران ويمسكون باسياخ حديدية يتأكدون من وقت لاخر من شدة فعاليتها.
وفي مكان اخر بالقرب من النيران المشتعلة توجد الات التعذيب
المختلفة..
جلس الوالي في المكان المخصص له وجال ببصره حتى وقع على
الاسقف فطلب ان يؤتى به.
-
هه ، اما زلت في عنادك؟
-
عنادي.. في سبيل الحق ايها الوالي
-
اتمشي وراء رجل صلب على خشبة؟ اتركه وهلم قدم القرابين للالهة الخالدة..
-
هذا لا يكون . الهتك الخالدة هذه .. هل تستطيع ان تحمي
نفسها لو اراد احد سرقتها؟
وهنا تقدم جندي ولطم الاسقف على فمه وهو يقول:
-
كيف تجرؤ ان تكلم الوالي بهذه الوقاحة؟
اما الوالي فقد استشاط غضبا وصرخ مخاطبا الجنود:
-
خذوه . و لكن لا .. فلينتظر حتى يرى بعينيه كيف سأعذب
اتباعه..وصاح الوالي في الجند:
-
اريد وسائل جديدة في التعذيب .. اتسمعون؟
وبدأت عملية التعذيب
بوحشية .. ونظر الاسقف الى جموع المسيحيين وصاح يشجعهم:
-
الرب يحمل الالام عنكم .. والنار تتحول الى ندى!
وتهلل وجه الاسقف وهو يشير في كل اتجاه ويصيح:
-
الملائكة تملأ المكان ..ها انا ارى المسيح فاتحا احضانه
..
وصاح الوالي مخاطبا الجند:
-
اسكتوه – مشيرا على الاسقف – لم اعد احتمل صوته..
اخرسوه!
وتقدم على الفور ثلاثة جنود، اثنان منهما امسكا بيدي
القديس والثالث امسك بشعر لحيته وبكل ما
اوتى من قوة نزع جزءا كبيرا منها حتى سال
الدم غزيرا ولكي يمنع الجندي الدم المتدفق امسك بحفنة من الجير الحي ومزجها بالخل
ووضعها مكان الشعر المنزوع!
وتقدم الجنود ممسكين بالقس اندراوس والاب خرستوذولو
وساروا بهما للبدء في عملية التعذيب وعندما راهما الانبا بضابا صاح :
-
طوبى لكما .. انكما تسبقاني الى الاكليل .. اذكروني امام
الرب يسوع.. الذي سبق فتألم من اجلنا!
وصرخ الوالي في الجنود: الا يستطيع احدكم ان يسكته؟
وتقدم ثلاثة من اقسى الجنود واعتاهم، اثنان منهما امسكا
يدى الاسقف والثالث كان يحمل سيخا محمى وبكل قسوة وضعه على فم القديس وانتظر حتى
انتشرت رائحة لحم الشفتين المحترق. و ملأت المكان!
-
انجحت ايها الوالي في ان تجعل الاسقف الا يتكلم ..
انكواهم .. فالصمت قد يكون ابلغ من الكلام!
-
يا لعناد هؤلاء المسيحيين .. لا يرهبون قوة دقلديانوس
العظيم؟ اذن من يرهبون؟
وهنا خرجت كلمات متقطعة من فم القديس :
-
انهم يرهبون الله خالق السموات و الارض..والمسيحي البسيط
اقوى من دقلديانوس!
تملكت الوالي رغبة ان يثأر لكرامة دقلديانوس وفي الواقع
هو يريد ان يثأر لكرامته هو فقد احس انه اهين، فقال للاسقف: اترى كيف اعامل
المسيحيين؟ .. الذي رأيته الان شيئا لا يذكر ، سترى طرق تعذيب جديدة ابتكرت خصيصا
لاجلك انت .. انت بالذات!
قال الاسقف محاولا ان يكون كلامه واضحا خلال شفتيه
المحترقتين:
-
مسكين ايها الوالي
.. تهديداتك لا ترهبني، ان كل ما تفعله بجسدي هذا يشبه الندى الرطب الذي ينبت
الورد والفاكهة!
ولم يطق الوالي ان يسمع اكثر من هذا، فقام
وضرب عنق الاسقف بسيفه الخاص..!
وسار بضابا في موكب القديسين الشهداء في
الكنيسة المنتصرة!