سيرة البابا ميخائيل الاول
(١)
وهطلت الامطار:
واحتدم نقاشهم الى اليوم العاشر دون جدوى وهم يحاولون اختيار المرشح الذي يشغ الكرسي البطريركي.. وفجاة يصرخ واحد منهم:
- ان لم يحضر اجتماعنا الانبا مويسيس اسقف اوسيم فلن تنجح مهمتنا!
واقتنع الحاضرون فارسلوا في طلب القديس الاسقف الذي كان يمضي بضعة ايام للاستشفاء في دير ناهيا بالقرب من الجيزة.. وجاء القديس معهم الى كنيسة الانبا شنودة ببابلون حيث يعقد الاجتماع.
وانصت القديس الى حوار المجتمعين، واصواتهم وهي تتلاحم تنخفض تارة وتعلو ترة اخرى.. ثم في هدوء وتؤدة قال لهم:
- علينا يا اخوة، ان ننقطع للصوم والصلاة في عزم وحرارة.. واني واثق ان الله سيرشدنا ويدبر رعاية كنيسته.. ولينصرف كل واحد الى مكانه ولمدة يوم كامل .. ثم نعود بعدها للتشاور ..
كان الانبا مويسيس غارقا في صلواته والليل يمضي الى نهايته حين دخل اليه تلميذه في شئ من الحياء .. ولكن الرؤيا التي راها تلح عليه..
- اغفر لي يا ابي .. لقد تجرات على الدخول حين احسست انكلا تزال مستيقظا. لقد اوحى لي الملاك لاخبرك، ان الراهب الذي اختاره اله للرعاية، هو ميخائيل المترهب بدير ابي مقار.
ويعتدل الانبا مويسيس في جلسته، فقد كان يعرف تماما صلاح ذلك لرجل ووداعته.. وقا لتلميذه الطيب:
حقا هو ملاك الرب الذي اوحى اليك بهذا الاقتراح! انه راهب كفء للقيام بهذا العمل.
++
واجتمعوا في الصباح، ودارت الناقشة هادئة وهادفة.. فقد وقف احدهم دون علم بما حدث مع الانبا مويسيس او تلميذه.. واخذ يسرد فضائل الراهب ميخائيل المقاري، وناشد الحاضرين ان يختاروه، .. وهنا تكلم الانبا مويسيس وشرح لهم رؤيا الملاك.. فارتاحت القلوب. اذ سمع الله لصلاتهم وقبل صومهم.. وفي الحال تشكل وفد من الحاضرين لذهاب الى دير القديس مقار لاحضار الراهب المختار.. المزمع ان يجلس على كرسي مارمرقس!
وتمت المفاجاة التي طمانت القلوب.. فبينما يقف الوفد على عتبة الدير، حتى يتقابل مع وفد اخر كونه رؤساء الاديرة، واجمعوا ان يكون على راسه الراهب ميخائيل، ليسند اليه مقابلة الوالي في امر الجزية الباهظة التي فرضها عليهم سلفه.. وانضم الوفدان معا الى الفسطاط وهم يترنمون بالمزامير ويشكرون الرب!
واجتمع الوفدان امام حفص بن الوليد .. وكان لهما ما ارادا.. ولكن الذي ملا القلب بالتعزية، ا الوالي حين التقت نظراته بالراهب ميخائيل ظل يتفرس في وجهه بضع دقائق، ثم قال:
- حقا ان هذا الرجل اختاره الله ليرعاكم، فخذوه واذهبوا به بسلام!
**
وركبوا معه السفينة في طريقهم الى الاسكندرية ، وهم اشد ما يكونون اغتباطا.. والجموع فوق شاطئ النيل تتزاحم لتحيي الرجل الذي سيودع الله فيه سر الرعاية.. وعند اوسيم، ينضم الانبا مويسيس الى الركب البابوي.. وساروا الى الاسكندرية وسط مظاهر التكريم والحفاوة .. وكان الموكب الى الكنيسة المرقسية تحف به جكموع الشمامسة والكهنة، وهم يحملون الشموع والمباخر ويرفعون الاناجيل والصلبان .. وما كاد الموكب يخطو بضع خطوات داخل الكنيسة ، حتى تهطل الامطار مدرارا، بعد انقضاء سنين، لم تر فيها الاسكندرية قطرات الامطار .. فكانت فرحة الشعب فرحتين، واحساوا ان الله قد رضى عن شعبه، وارتفع لهتاف .. وسط كل مظاهر الفرح الروحي الذي انسكب بغزارة على القلوب سيم ميخائيل الراهب ، بطريركا على الكرازة المرقسية فاصبح البطريرك ال 46 لرسول المسيحية في ديارنا..
حدث هذا في عام 735م
+
اروع مواقف الوطنية:
استبد جور الوالي .. ووقف البابا معتازا امام ما طلبه منه .. فلم يكن معه شئ ن المال .. فالقى به في سجن بارد مظلم.. فجوة منحوتة في صخرة.. لا يدخلها هواء ولا يسطع فيها شعاع شمس .. ولم يكتف الوالي بهذا ، بل طوق عنق البابا ميخائيل بطوق من حديد، وثقل كلتا قدميه بقطعة من خشب.. وكان على الانبا ميخائيل ان يتحمل هذا المصير البائس. وربما ارد الله ان يخفف من وطاة هذا المكان المظلم، حين زج الوالي معه باسقفين هما الانبا مويسيس اسقف اوسيم والانبا ثيؤدورس اسقف بابلون. وظل الثلاثة في وسط تلك المهانة يرفعون قلوبهم الى الله .. ويدون الحاظهم الى فوق .. معتازين مكروبين مذلين.. لا يملكون من مال الدنيا شيئا .. لكن كان لهم الايمان الذي يبدد ظلمة هذا الدهر وظلام ذلك المكان..
وامعانا في اذلالهم .. زجوا معهم في اليوم التالي بعدد غير قليل من اشرار حكم عليهم .. وعندما تبين هؤلاء الاشرار ان الذي يمضي الوقت معهم في هذا المكان هو البابا ، اهتزت فيهم ضمائرهم.. واقبلوا على توبة عميقة.. اما هو فقد طيب قلوبهم اذ فتح امامهم باب الرجاء العظيم.. وهكذا في عمق الظلمة يخرج البابا هؤلاء القوم الى النور ويطلقهم الى الحرية!
.. ويندفع لدى الوالي، واحد من المسيحيين، ومن المقربين اليه.. فيستدعي الوالي البابا من السجن .. بعد ان امضى شهرا كاملا .. ويتكلم الانبا ميخائيل امام الوالي .. في هدوء وقوة.. بوجه باسم وصفاء وقامة معتدلة لم يحنها الذل وبكلمات اقوى من السيف..
- ليس عندي مال .. ولكن عندي الابناء!
دعني اطوف بالبلاد اجمع لك ما تريد!
وهذا كل ما استطيع ان افعل!
.. ويوافق الوالي .. ويذهب البابا الى صعيد مصر .. يصنع الخير ويثبت المسيحيين ويطلب المال.. ويجمع بقدر ما يستطيع .. فقد فتحوا قلوبهم واعطوا ما تمتلك ايديهم .. وعاد يحمل الى الوالي ما جمع وان كان ليس بالقدر المطلوب!
ودخل الفطاط حيث دار الولاية . وكان الطبيعة ارادت ان تعيد للرجل كرامته.. فحدث زلزال اثار الرعب في القلوب.. ولعل هذا ما جعل الوالي يقبل ما جمعه البابا في هدوء .. وبعدها يذهب البابا الى كنيسة ابي سرجة حيث يقيم القداس الالهي .. ويرفع ذبيحة الشكر للاله القادر..
ولكن شيئا ما غير الاحداث ، ورفع البابا ميخائيل في نظر الوالي والخليفة، فقد حدث ان استشاط ملك النوبة غضبا حين سمع بقصة البابا، واذ ظن انه لا يزال بالسجن، جرد جيشا قويا وزحف به نحو مصر.. واستطاع ان يدخلها ويصل الى مشارف الفسطاط، وهنا حين اسقط في يد الوالي ارسل في طلب البابا.. وذهب الانبا ميخائيل ليقابل الجيش الرابض، في روح عالية من الوطنية.. ويرده الى بلاده .. وينهي خلافا كان ممكنا ان يحدث .. بدافع عميق من حبه للوطن! ويسمع عبد الملك بن مروان بهذا الموقف المشرف.. ويعظم هذا الامر في عينيه فيزداد اعجابا بالبطريرك .. ويعود السلام الى كنيسة الله!
ويمضي البابا الذي اختاره الله، وقته وهو يشيد الكنائس التي هدمت، ويشدد القلوب التي ارتاعت.. ويرفع انظار شعبه الى الاله المصلوب القادر ان ينجي من الموت ويمنح السلام لانه واهب السلام ورئيسه!
*
(3)
من مطرانية الجيزة
الدولة الاموية توشك ان تلفظ انفاسها.. البركان ينفجر في كل مكان .. الحكم في طريقه الى بني العباس بعد ان ظل معقودا لبني امية.. ويرفع ابو مسلم العلم الاسود الذي للعباسيين، يزحف ويسقط الولايات واحدة تلو الاخرى.. وتتداعى حصون مروان فيذهب الى مصر في محاولة يائسة لجمع شمله. ولكنه يجد مصر ثائرة في كل مكان من ور الولاة وفسادهم.. البشموريين يقاومون الوالي على شكل حرب عصابات غير منظمة، ووالي الاسكندرية يعلن الاستقلال يريد الانفراد بحكمها!!
يرسل مروان حوثرة اشد قواده بطشا لقمع الثورة في الاسكندرية، وينجح حوثرة. ويذيق الشعب القبطي بالاسكندرية الوان العذاب، ويزج بالكثيرين في السجن. يفرض الضرائب الباهظة .. ثم يقبض على الانبا ميخائيل ويضربه ويلقي به في السجن.. ومن هنا تتجدد متاعب الرجل.. ويصل العبايون يتعقبون مروان داخل الاراضي المصرية فيرسل مروان في طلب حوثرة.. والغرب ان الخليفة وسط كل هذه المتاعب، يصر ان يذيق البابا ومن عه العذاب، وهو في حشرجة الموت!
ويعود حوثرة الى مروان ولكنه لا ينسى ان يوصي احد ضباطه بالانبا ميخائيل ومن معه ، ليرافقهم الى الفسطاط مركز الولاية.. والضابط ياخذ الطريق الاكثر امانا .. فيركب الانبا ميخائيل مركبة تقله الى الفسطاط.. وتمر المركبة باوسيم حيث يقف اسقفها الانبا مويسيس ينتظر قدوم البابا، فقد اخبره سكرتير البابا بك شئ واسرع اليه.. ويصرخ القديس الانبا مويسيس في المحيطين حوله:
من شاء ان ينال اكليل الشهادة فليتبعني.. لطالما تمنيت هذا اليوم ! وينضم الى الانبا ميخا الاسقف الشيخ وسكرتير البابا وقارئ من دير الانبا مقار.. لتصل بهم المركب الى الفسطاط .. تحمل موكب الشهداء دون سفك دم.. في عوزهم وكربهم وذلهم!
ومروان في فساده وغباوة فسوقه، واذ يجد العباسيين يدركونه، يحرق الفسطاط بمن فيها، .. وفي قسوة لا ينس ان ياخذ معه الانبا ميخا ون معه، يعبر بهم النهر الى الضفة الاخرى.. وينصب هناك خيامه .. ليقف وجها لوجه امام جيش العباسيين.
لا يفصلهما الا النهر الخالد!
***
.. حدث هذا في 26 يوليو..
وعلى ضفة النهر الخالد في شمس يوليو المحرقة.
وعلى مراى ومسمع من الجميع .. ينصت مروان الى وشاية احد رجاله.. ويثور غضبا على الانبا ميخائيل.. ويقرر اذاقته العذاب! فقد امر باحضارهم .. وظل يوسعهم ضربا وسخرية . ثم جردهم من ملابسهم.. وتركهم عراة يقاسون وهج شمس يوليو المحرقة .. ولم يكتف بهذا بل اخذ ينتف لحية الانبا ميخا في غير شفقة!
ويزداد جنون الخليفة مروان .. ففي اليوم التالي امر باحضار البابا.. ويذهب السياف الى خيمة البابا.. ويامره بفظاظة ان يتبعه . ولكن الانبا مويسيس يمسك بالبابا ويوجه كلمته للسياف:
- حي هو الرب اني لا افترق عن ابي الروحي. لقد اليت في نفسي ان اتبعه حيثما سار!
وبينما كان السياف يحاول اقناع الشيخ الوقور الانبا مويسيس ، اذ برسول ثان يحضر من قبل الخليفة، ليحضر الجميع.. ويساق الكل الى حيث يوجد الخليفة.. في مهانة وفي عوز . ويقفون بلا سند امام بطش الخليفة.. ويجهز السياف الات التعذيب .. فلم يكن الخليفة قد استقر على راي في طريقة قتلهم!
وتقف الذبائح الطيبة .. في هدوء واستسلام عذب للموت.. وظل كل واحد يستعد للاستشهاد..
الانبا مويسيس يركع امام البطريرك.. يطلب منه الحل..
الكهنة يركعون امام الاسقف يطلبون منه الحل..
العلمانيون يركعون عند اقدام الكهنة يطلبون الحل..
ويرفعون اياديهم فتتعانق علىشكل صليب. وه اشد ما يكونون قوة امام الموت.. قلوبهم تردد:
مستعد قلبي يا الله، مستعد قلبي!
.. كان مشهد الرجال يثيرالشفقة في قسى القلوب .
ولكن قلب مروان كان اقسى ن الصخر.. ولم يرجع الخليفة عن قراره بقتلهم الا حين دخل ابنه اليه ليكلمه:
- تمهل يا ابي قبل ان تمس هؤلاء باذى.. فنحن الان في ضيق عظيم. وقد تضطر للهرب الى السودان. ولسودانيون اولاد روحيون لهذا الشيخ الوقور. فلو انك قتلته او الحقت به الاذى، فانهم سيرفضون ايواءنا.. بل قد يعمدون لى الاخذ بثأره!
واقتنع مروان بكلمات ابنه وامر بحبسهم في زنزانة خلف ثلاثة ابواب حيث الظلام الدامس والهواء الخانق.. وهناك في هذا المكان مكثوا ينتظرون مصيرهم على يد خليفة، ملك الحقد قلبه .. ويتكلم الانبا ميخا بكلمات التعزية.. ويرفع قلبه في صلاة:
يا ربي اسمع صلاتي واصغ الى تضرعي..
بامانتك استجب لي بعدلك.. لان العدو اضطهد نفسي
اعيت في روحي، تحير في داخلي قلبي..
اسرع اجبني يا رب.. فنيت روحي. لا تحجب وجهك عني..
**
ووصل الشر الى مداه .. فقد ترك مروان جنوده للنهب والسلب.. دنسوا البيوت وامتدت ايديهم بالاساءة الى كل اح.. وحتى الاديرة لم تسلم من عبثهم وجورهم.. قتلوا الرهبان واحرقوا الاديرة.. حتى صعد الى الرب صراخ شعبه.. فيعبر العباسيون المخاضات بعد ان خبرهم بها بعض الاهالي وقد ضاقوا ذرعا بمروان.. وعبروا الى الضفة الشرقية .. وانهوا حكم الدولة الاموية.. وانتقل الحكم من بني امية الى بني العباس.. وقتل مروان وهرب ابنه الى الحبشة.. ونسى مروان البابا ميخا ومن معه.. وعندما تاكد المسلمون الذين ضاقوا بمروان انه لن يعود بعدما غربت شمسه، فتحوا الابواب وواطلقوا سراح البابا وصحبه. وساروا معهم في وسط موكب الابتهاج الى دار المطرانية، حيث يقيم الانبا بطرس مطران الجيزة..
كان هذا في ليلة الاحد الاول من مسرى المبارك حيث يستعد المسيحيون لصوم العذراء..
واكرم العباسيون الانبا ميخا . واعطوه الحرية اللائقة له.. ومن دار مطرانية الجيزة.. خرج يشدد انفس المؤمنين ويشيد الكنائس ، ويعمر الاديرة، ويخدم الملك المسيح.. الذي نظر الى ذله ونجاه!
عن كتاب: جهاد القديسين ، الارشيدياكون رمسيس نجيب