في عشية عيد الميلاد المجيد في احدى السنوات من مطلع القرن السادس الميلادي، حين كانت مصر رازحة تحت الحكم الروماني، وكان الاباطرة قد اخذوا على عاتقهم التنكيل بالاقباط لانهم اصروا على ايمانهم الارثوذكسي، ورفضوا الانقياد الى الاريوسية او الملكانيين. ولكنهم كانوا يتمتعون بالحرية من وقت لاخر. في ذلك الحين لم يكن كيروس- او المقوقس كما يقال احيانا- قد آلت اليه مقاليد الامور ولميكن قد بدأ حملة الاضطهاد المرير الذي راح ضحيته عشرات الاساقفة والوف من الشعب.
اما المكان ففي احدى القرى الكثيرة الصغيرة التي انتشرت في اطراف الرقعة الخضراء غربي الدلتا. كانت القرية تطل على الصحراء الغربية حيث انتشرت جماعات الرهبان والمتوحدين في نتريا ووادي النطرون وفي الكهوف والمغاور الضاربة في بطن الصحراء .. لم تقع عين احد على هذه الاماكن، ولكن القصص تتواتر عنها وعن قاطنيها تحيط بسيرتهم هالة من القداسة حتى تتحول هذه القصص الى اساطير تتناقلها الالسنة والافواه في الاسواق والمدن القريبة. كان سكان القرية يغبطون انفسهم لانهم يجاورون البرية التي تبعث سفراءها من الرهبان القديسين الى الاسواق يبيعون عمل ايديهم لا يطلبون الربح بل الثمن الذي يفي باحتياجاتهم وما يفيض منه يتصدقون به على الفقراء من اهل القرية.
سحابة قاتمة
انطلق ابناء القرية الى كنيستهم في فرح وبهجة لا يعكر صفوها المخاوف والقلق كما يحدث في المدن الكبيرة حيث يتوقعون المخاطر من رجال السلطة او الزيارة المفاجئة التي يقوم بها الاسقف الملكاني بغية الايقاع بهؤلاء المصريين الذين تأصلت فيهم روح ابائهم من الفراعنة. ويظنون في انفسهم انهم سادة الدنيا واصحاب الفضل على العالم في نشر المعرفة والحضارة.
لقد استعد الكثير منهم للتناول من الاسرار المقدسة حتى يكون فرحهم كاملا، وسعادته لا تشوبها شائبة، فمثل هذه المناسبة السعيدة يلذ لهم ان يتمتعوا الى اقصى درجة، بما يتاح لهم من بركاتها وخيراتها وبدت الكنيسة وقد ارتدت ثوبا قشيبا من النور الذي ينبعث من مئات الشموع التي اتى بها اصحابها في نذورهم وفي تعلقهم بالعذراء الطاهرة التى اطلق اسمها على كنيسة القرية. لقد تميز بناء الكنيسة عن القرية كلها في هذا المساء بما يشع من الضياء وما احاط به من السرج حتى كان يلفت الانظار عن بعد، ويبعث احساسا بالرضا الى قلوب الناظرين.
ومن اقصى اطراف القرية اقبل مويسيس بقامته المديدة، وخطواته المتئدة، وقد تعلقت بياتريس الصغيرة بذراعه. تقفز وتتحدث ولا تريد ان تكف عن الحديث. ومن حين الى اخر تنشر بيديها فستانها الجديد في احساس بالزهو والاعجاب، ففي رأيها ان هذا الرداء الاحمر لا نظير له بين بنات القرية جميعا. كان مويسيس مع ابنته يكونان لوحة فنية معبرة لا ينقصها تناقض الالوان والاحاسيس : الرجل في وقاره الذي تكلله تلك العمامة او الطاقية او اذا شئنا الدقة هي لباس الرأس الذى يستمد اصوله من عادات المصريين القدماء والاضافات التي ادخلها الفرس واليونان والرومان. تحت هذه الطاقية يظهر شعر رأسه الذي خطه المشيب. اما ملامحه فقد اتسمت بالصرامة كأنه تمثال منحوت لاله من المعبودات القديمة، زم شفتيه كأنه يكتم ما يدور في نفسه فلا يستطيع احد ن يسبر غوره او يستكشف اعماقه، و سحنته السمراء لفحتها الشمس كثيرا وطويلا مما يقطع بأن حياته ليست هينة او لينة ولكنها حياة رجل يعمل عملا شاقا في المزارع والحقول.
اما بياتريس فكانت فتاة جميلة، يلمع الربيع في عينيها، و يموج الشباب في دمائها ترتسم على شفتيها ابتسامة جذابة تتحول من حين لاخر الى ضحكة رقراقة كالماء في جدول صغير كانت في ذلك تتقدم نحو شبابها بخطى سريعة، ومعالم الانوثة اخذت تنقلها من سن الطفولة الى النضج.و في براءة هى مزيج من سذاجة الطفولة وطموح الشباب كانت تنقل ناظريها بين حذاءها الجيد، والسوار الذي يتلألأ على معصمها، و الخاتم الذهبي الانيق في يدها. ثم تعود ترفع عينيها الواسعتين الى ابيها:
- بابا.. يبدو لى ان هذا العيد هو اجمل عيد في حياتي حتى الان.. كل شئ جديد. حتى كلامك فيه شئ جديد..
وانطلقت تثرثر وتتكلم لا تستطيع ان تكتم عواطفها الجياشة في صدرها. كان دبيب الامل واحساس السعادة يملأ قلبها بنشوة غامرة. كان دمها يجري اسرع مما كان يتدفق في ايام حياتها الرتيبة التى لا تكاد يختلف يوما عن اخر. كانت الاحلام الصغيرة تملأ رأسها الجميل وتلمع في نظراتها وهي تنصت الى ابيها يجيب من وقت لاخر : كل سنة وانت طيبة يا ابنتي.
كانت بياتريس تستقبل عامها الخامس عشر. صغيرة الجسم لكنها كثيرة الحركة تتميز طلعتها بذلك الجمال الهادئ الوديع الذي يتلون بحمرة الخفر والحياء، فيزداد جمالا وجاذبية. البعض يرى فيها صورة العذراء، واخذ هذا اللقب يتداول فيما بينهم. كان شعرها الجميل ينسدل على كتفيها في حبائل طويلة يتكسر عليها ضوء الشمس.. ولكن الشئ الذي لا يمكن ان تخطئه العين تلك المسحة الحزينة التي تسود ملامحها فتبعث في النفس شعورا بالاشفاق والرثاء ... لماذا؟
... ليس من السهل ان تجد لذلك تفسيرا او تعليلا شافيا... هل هي الوحدة القاتلة التي تحياها؟ فقد كانت وحيدة ابويها.. او لانها يتيمة الام؟ فقد ماتت امها و هي لا تزال طفلة، و اصبحت في رعاية عمتها التي تتميز بشئ من الشدة. ومع ان قسوتها لم تكن صريحة الا ان معاملتها تنم عن بغض دفين. كثيرا ما كانت بياتريس تجلس مفكرة على فراشها تحاول اماطة اللثام عن هذا اللغز، تحاول لن تدرك كنه هذه الكراهية دون جدوى. ان عمتها لا تقصر في شاردة او واردة من امورها تهتم و تعني بكل صغيرة وكبيرة، و لكن تلك اللمسة السحرية التي يضفيها الحب لا وجود لها فيما تفعل او تقول. رعايتها جافة، نظراتها جامدة، كلماتها جادة لا يلونها الحس، تفتقر الى ذلك النغم العذب الذي ينساب مع الشعور الذي يدغدغه الحب. وحين يعييها التفكير، كانت تستسلم للنعاس الهادئ حتى الصباح.
... ليس من السهل ان تجد لذلك تفسيرا او تعليلا شافيا... هل هي الوحدة القاتلة التي تحياها؟ فقد كانت وحيدة ابويها.. او لانها يتيمة الام؟ فقد ماتت امها و هي لا تزال طفلة، و اصبحت في رعاية عمتها التي تتميز بشئ من الشدة. ومع ان قسوتها لم تكن صريحة الا ان معاملتها تنم عن بغض دفين. كثيرا ما كانت بياتريس تجلس مفكرة على فراشها تحاول اماطة اللثام عن هذا اللغز، تحاول لن تدرك كنه هذه الكراهية دون جدوى. ان عمتها لا تقصر في شاردة او واردة من امورها تهتم و تعني بكل صغيرة وكبيرة، و لكن تلك اللمسة السحرية التي يضفيها الحب لا وجود لها فيما تفعل او تقول. رعايتها جافة، نظراتها جامدة، كلماتها جادة لا يلونها الحس، تفتقر الى ذلك النغم العذب الذي ينساب مع الشعور الذي يدغدغه الحب. وحين يعييها التفكير، كانت تستسلم للنعاس الهادئ حتى الصباح.
لا شك ان اباها كان يملأ عليها حياتها، بما يتميز به من وفرة في عطاء الحب والعطف.. ما ان يراها حتى يطفح وجهه بالبشر والبهجة، و مع انه لا يتصف بالمرح الا انه قل ان تراه عابس الوجه او مقطب الجبين. و مع ذلك فقد ذاع عنه انه منطو على نفسه، لا يسرع ولا يرحب معاشرة الناس. و لعل هذا هو السبب الذي حدا به ان يختار بيته في اطراف القرية حيث تبدأ الصحراء الواسعة، يمتد فيها البصر فلا يبلغ مداها، و لكنه كان هادئا راضيا باسرته الصغيرة يمتلئ قلبه فرحا كلما اقلت نحوه بياتريس تقفز وتثرثر كعادتها، تحدثه عن كل ما يقابلها في يومها... ينصت اليها في سرور وهي تركن الى صدره وترفع رأسها الى عينيه حتى تستشف مدى استجابته لهذه الاحاديث التي تتدفق على اذنيه.
لقد اتته في هذا اليوم ودموعها في عينيها، فحدجها بعينيه
مستفسرا، و بادرته هي بسؤالها:
-
صحيح يا بابا انك كنت في الدير؟
كان السؤال مفاجأة لا يتوقعها، ودارت رأسه وهو لا يعرف
بماذا يجيب. و لكنه تمالك قواه وحاول ان يسألها بصوته القوي ولكن لم تفتها لهجته
الواهنة وصوته المنخفض وهو يقول:
-
و لماذا تسألين؟
واسرعت تجيب، وقد تعلق نظرها بعينيه: كنا نأخذ درسا عن
القديسين مكسيموس و دوماديوس اولاد الملوك، الذين تركوا العالم و الثروة والملك،
واتوا لكي يعيشوا في البرية المجاورة لنا. وعند هذه النقطة نظرت الى ادونيس بنت
العمدة بنظرة احتقار، و هى تقول:
-
انهما لم يرجعا
عن نذرهما او يطلبا امور العالم كما فعل .. ابوك!!
وتجهم وجه
مويسيس واضطربت ملامحه وتسارعت دقات قلبه وقد احس ان الارض تميد عند قدميه واخذت
تخيم على وجهه سحابة داكنة هي مزيج من الغضب والالم .. حاول بسرعة ان يستبدلها
بالهدوء والبشاشة ولكن بياتريس لم تستطع ان ترى اباها على هذه الصورة، فاسرعت
ترتمي على صدره تدفن فيه رأسها و هى تقول:
-
هل غضبت يا ابي ؟ سامحنى و اغفر لي.
ولكنه ربت على رأسها ومسح بيده على شعرها ورفع وجهها
بيده وهو ينظر الى عينيها الدامعتين و هو يقول: لا تغضبي. غدا سأذهب الى المدرسة
واقابل المعلم واتفاهم معه في هذا الموضوع.
ثم مد يده في حنان لكي يمسح الدموع التي بللت وجهها، وامسك
بيدها الصغيرة التي اختفت في يده الضخمة، وقادها الى حجرتها حيث فارقها مودعا عند
الباب . ودلف منفردا الى حديقة بيته الصغيرة لكي ينفرد بنفسه و يلم شتات ذهنه .
ولكنه قبل ان يغلق الباب عادت بياتريس تسأله في شئ من الدلال :
-
بابا .. هل تتركني الليلة اصلي وحدي؟
وخفف من سرعته ، و استدار اليها يجيب في رفق وحنان : لا
يا حبيبتي، سوف نصلي معا ثم نذهب الى الكنيسة معا، غدا عيد الميلاد. كل سنة وانت
طيبة.
وحين استقر به المقام في الحديقة، جلس في ركنها القصي
يسرح ببصره بين اشجار النخيل التي تفصل بين الصحراء و بيته..وتسللت اشعة الشمس بين
الاغصان المدلاة من اغصان الشجر والتي تجلل حافة الاوراق بهالة من الضوء الاحمر..
ثم هبت نسمة من الهواء البارد اصطدمت بجسمه النحيل فسرت رعشة في اعضائه ولكنه لم
يشعر برغبة في مغادرة المكان.. كأنه لم يحس وكأن روحه قد انسحبت من جسده و تجرد من
كيانه.. لم يكن هذا هو جسده الذي يرتعش من للفحات البرد وهبات الريح. لقد انتفض
جسده من قمة الرأس الى اخمص القدم و لكنه لم يبرح مقعده، و لم يتزحزح من مكانه و
كأنه تمثال من حجر تثبتت عيناه في محجريهما يمد بصره الى الامام و لا يرى شيئا.
لم ير براكسيا شقيقته وهي تقبل نحوه، متشحة بثيابها
السوداء كالمعتاد. اتت وانكمشت عند قدميه جالسة ثم قالت بصوت اقرب الى البكاء :
ماذا بك يا اخي؟ ونظر اليها ولم يتكلم. ولكنها عادت تقول : لقد سمعت ما قالته
بياتريس.. لقد مضى زمان طويل على ها التاريخ.. ماذا نعمل؟ .. هذا قضاء الله وارادته.
ولم يدعها تستفيض في هذا الحديث، فقال : اسمعي يا اختي!
ان الماضي لا يؤلمني.. ولكن ما ذنب هذه المسكينة البريئة حتى يعايرونني بخطيتي؟
لماذا تصبح حياتي عثرة لها.
ثم خفض رأسه و هو يردد : يارب ارحم.
وعادت براكسيا تجيبه في نبرات حادة صارمة: ألم اقل لك من
البداية ان تتركها و شأنها؟ اما يكفيك العار الذي جلبته امها عليك؟ مسكين يا اخي
.. برئ بلا ذنب. كما اثق في وجودي الآن، انا متأكدة ان الام ارتكبت جرمها مع شخص
اخر.. وانت الذي تجني الثمر المر.. لماذا لم تترك هذه البنت .. انت غير مسؤول
عنها..
وتحرك مويسيس في ضجر، ورفع يده مقاطعا وقد ارتفعت نبرات
صوته في غضب: اسكتي.. لا تعودي الى هذا الحديث. ولكنها عادت في اصرار تقول: اما
يكفيك المحاكمة .. والاتهام .. لطخوا اسمك بالخطية .. اهانوك واحتقروك. حتى رئيس
الدير الذي كان يحبك و يقدرك لم يقبل ان تصلي معه شماسا.
وفي لهجة حازمة صارمة : براكسيا .. كفاك هذا الحديث. قلت
لك لا داعي لاثارة الشجون والاوجاع. صدقيني لست حزينا من اجل ما حدث .. فلتكن
ارادة الله.. لقد اعطاني العزاء في هذه الصغيرة. اعطاني بياتريس لكي تكون ابنتي..
اي عزاء هذا و اي نعمة هذه من الله!! صحيح ان امها ماتت حزينة النفس منسحقة الروح
. وعلى فراش الموت اعترفت بالحقيقة وطلبت ان سامحها واصفح عنها.. واشكر الله لقد
غفرت لها .. فليرحمها الله ويرحمني انا ايضا. لقد تركت ابنتها وديعة بين يدي.
اصبحت ابنتي واحببتها من كل قلبي .. عند كثرة همومي في قلبي تعزياتك يارب تلذذ نفسي.
انها تشاركني في كل شئ. امتزج قلبها بصلواتي، فتداركتنا مراحم القدير وامتلأ قلبي
بالسلام.. سمعتها تصلي من اجلي ومن اجلك. تطلب من القدير ان يحفظني ويحفظك. هذا
القلب النقي الطاهر هو عزائي في هذه الحياة. تعلمت امورا ما كان يمكن ان اعرفها في
حياة الوحدة والبرية.
واخذت براكسيا تقلب يدها في يأس وفي عجب، و في رأسها
تدور التساؤلات مع الحيرة. كيف يستطيع مويسيس ان يحتمل كل هذا؟! اما كان يمكنه ان
يترك الفتاة لعائلة امها ويتزوج بامرأة اخرى من عائلة محترمة لها مكانتها؟ لماذا
لم يرجع الى مجمع الرهبان بعد موت الفاجرة؟! عجيب ان يرفض نصحها ولا يقبل
اقتراحاتها.. ويشكر الله على ما حدث ؟! ويسرع الى بياتريس يضمها الى حضنه كأنه
يخشى ان تختطف منه ويأخذ رأسها الصغير بين يديه و يقبلها في حنان بالغ يكاد يمتزج
بدموعه.
ولم يشأ ان يسترسل في هذا الحديث المض، فقد كان صدره
يضيق كلما تواردت هذه الذكريات . كان الألم والحزان يعصران قلبه فيستسلم للدموع
يغسل فيها وخزات الالم. ثم يعود فيرفع عيناه الى السماء ويتمتم ببعض الكلمات يسكب
فيها روحه وقلبه امام الله في صلاة، لا هي بالكلمات ولا هي بالصمت.. لعلها مزيج من
هذا و ذاك.. همهمة لا يدركها من يسمعها بل لعلع هو نفسه لا يستطيع ان يقدم لها
معنى او تفسيرا.. هي انغام تنساب مع الاحاسيس التي تغمر كيانه كله..
نظر الى براكسيا نظرة طويلة فاحصة ردتها صرامتها عن
معاودة الكلام و بعثت فيها شئ من الرهبة. كانت نظراتها بعيدة تأتي من بعيد وتمتد
الى افق مجهول لا نهاية له. ليس لها مدى و لا غاية، ليست تائهة و لا شاردة و لكنها
لا تستطيع متابعتها او تقصيها. لقد حاولت ان تسبر غوره وتصل من عينيه الى قلبه
وتفهم ما يعتمل في صدره.. كانت تريد ان تتحسس جراحه وان تحدد معالم صبره وايمانه
ورضاه ولكنه كان امها سرا مغلقا، لغزا غامضا لا تعرف كيف تميط عنه اللثام.. لا
يردد الا كلمات الشكر حتى في احلك الظروف.
نظرة الى الوراء
منذ اعوام طويلة وبالضبط منذ خمسة عشر عاما عندما ولدت
الصغيرة بياتريس التهبت القرية بشعلة من الثورة والغضب واجتاحها فيض من الحنق
والسخط على مويسيس ذلك الشاب الذي كان يتميز بالهدوء والدعة. و مع انه كان قد
انتظم في سلك الرهبنة فقد اتهمه العمدة في ذلك الحين بالاعتداء على الارملة
المسكينة تاييس. وقيل في هذه المناسبة انه تذرع بصورة الرهبنة وسمات الهدوء والدعة
حتى تنفتح امامه الابواب ويكرم الناس وفادته ويطلبون دعواته و صلواته. و قبل ان
تثور القضية لم يدر في خلد احد شك او ريبة في زياراته لهذه الاملة او غيرها ولكن
التعليقات القاسية اخذت تطارده من ذلك الحين وتؤكد ان الشيطان كان ثالثهما عندما
يجتمعان.
وهناك قلة من الناس لم تستطع ان تقبل الاتهام ولكنهم لم
يستطيعوا ايضا ان يدافعوه فقد كان يعوزهم الدليل. كانوا يعرفون عنه ورعه وتقواه بل
لعله اخذ نفسه بالوان قاسية من النسك وبالغ في التشدد والتدقيق مع انه كان لا يزال
تحت الاختبار كطالب رهبنة بين فريق من اترابه الذين لجأوا الى برية شيهات يتتلمذون
على شيوخ الرهبنة التي أسسها القديس مقاريوس الكبير. وكما جرت العادة كان لابد له
ان يتمم عملا يدويا واستطاع ان يتقن ضفر السعف في فترة قصيرة. وسمح له مرشده
الروحي ان يبيع انتاجه في سوق القرية ويبتاع احتياجاته. ووضع مويسيس في قلبه ان
يخصص قدرا معلوما من ال مال الذي يكون معه على الفقراء والمساكين. ولما كان لا
يعرف احدا فقد عول على الاستعانة بشماس من الكنيسة لكي يرشده الى هؤلاء ولكن
الظروف تكفلت بهذا الامر دون ان يطلب هذه المعونة فبعد ان باع عمل يديه احس ان
هناك حركة غير عادية في القرية. كان الناس على عجل من امرهم وعرف بعد ذلك انهم على
حقلا في تسرعهم لانهم كانوا على موعد في الكنيسة للصلاة على رجل في مقتبل العمر
قيل انه لم يمض على زواجه سوى اشهر قليلة وانه ذهب الى المدينة لامر ما و في زيارته لاحدى الكنائس فوجئ بجند الرومان يطوقونها ثم يعملون السيف في رقاب
المصلين فاخذت الحيرة بتلابيبه ولكن السيف كان اسرع اليه وهكذا ترك الارملة تاييس
تجتر مشاعر الحزن ولوعة الفراق وغصة الحداد و سأم الوحدة.
ومنذ ذلك الوقت دأب على زيارة الارملة بعد الفراغ من
شئون يومه يواسيها ويعزيها ويترك لها ما يساعدها على مواجهة اعباء الحياة حتى كان
هذا اليوم –عشية عيد الميلاد- حين حمل اليها بعضا من مستلزمات العيد عسى ان يدخل
الى قلبها شيئا من الفرح فـ "هذا هو اليوم الذي صنعه الرب فلنفرح و نبتهج فيه
بالله مخلصنا". ولم يكد يدخل بيت الارملة حتى احس شيئا من الوجوم يسود البيت
ولكنه نسب ذلك الى عادات النساء الثكالى في ليالي الاعياد.. ورغم هذا السكون
العميق و الوجوم الثقيل فلم يفته ان تاييس قد اعتنت بمظهرها اكثر من المعتاد فرانت
على شفتيه ابتسامة راضية لانه احس ان هذا التغيير ان دل على شئ فهو يدل على شئ من
العزاء وان تاييس الحزينة المرة القلب قد اخذت تسدل ستائر النسيان على احزانها وان
جروحها قد بدأت تندمل. ثم ان العيد على الابواب وجميل منها ان تستقبل العيد
بالفرح.
لقد لاحظ انه حتى في حديثها سرت نغمة من المرح المغتصب
لم يألفه من قبل وغاب عنه جفاف الكلمة والتصنع وهي تقل : اذا امنتظرت الى ما بعداس
فسوف اقدم لك كأسا من الخمر المعتق لعلك لم تذق مثله طول ايام حياتك.
وفي هدوء اجابها باتزانه المعهود باقتضاب: لو...!
ثم
اخرج من جيبه بضع وريقات كان قد نسخ فيها جزءا من رسالة القديس يوحنا الاولى، و
بدأ يتلو اياتها حتى توقف حين سمع صوت طرقات عنيفة يمزق الهدوء السائد، وترامت الى
اذنيه اصوات الغضب و صياح الساخطين و قد اختلطا بطرقات الايدى و ركل الارجل على
الباب و لكنه استطاع ان يتبين كلمات متناثرة بعضها نداء على تاييس و بعضها سباب
وشتائم مفزعة تقترن باسمه هو ... واخذ منه العجب كل مأخذ والتفت الى تاييس في نظرة
متسائلة.. لم تجبه بكلمة، بل اربد وجهها وامتقع واستحالت تلك الحمرة من بشرتها
البيضاء الى صفرة الموت واختفت من وجهه نضرة الحياة و اتسعت حدقتاها فزعا و رعبا واندفعت نحوه تتشبث باكمامه الواسعة
تطلب الحماية و الامان. و ماتت الكلمات على شفتيه و اخذ يردد في صوت خفيض : "لا
تدخلنا في تجربة".
وانهار الباب تحت ايدي الطارقين و ارجل الراكلين ووجد
مويسيس امامه جمهرة من الرجال.. اراد مويسيس ان يسألهم عما يريدون ولكنه قبل ان
ينبس ببنت شفة كانوا قد التفوا حوله و امسكوا بتلابيبه و قادوه الى بيت العمدة..
داروا به شوارع القرية .. رأى كثيرا من الوجوه التي يعرفها ولكن احدا لم يجرؤ على
التعرض لهذا الوكب.. اراد ان يفكر فيما عسى ان يقول، اراد ان يقدح زناد فكره لعله
يصل الى قول يهدئ ثائرتهم.. عجز عن هذا
تماما و شعر ان رأـسه يكاد ينفجر فاستسلم لمشيئة القدير .. و سار معهم كحمل وديع
او كشاة تساق الى الذبح.. لا لن يتكلم او يدافع عن نفسه.. و ان تكلم فهل هناك من
يصدق قوله؟ .. و ان دافع فمن الذي سيبرره؟ الله وحده يعلم الحقيقة كلها و هو وحده
يستطيع ان يبرره اذا شاء.. و متى شاء! لتكن ارادته اذا.. لن يجاوب بخير او شر..
اما عن العواقب فسيقبلها مهما كانت.
وفي دار العمدة تشكلت محاكمة ساذجة برئاسة العمدة وكان
العمدة هو الذي وجه اليه تهمة الزنى .. كانت التهمة قاسية وكانت شهادة الشهود اقسى
فقد كان بعضهم على صلة بمويسيس ويعرفون الكثير عن اموره المستترة وخدماته الخفية
لهم و للاخرين.. ولكن لم يقل اي منهم كلمة انصاف.. نظر اليهم يشهرون به، حتى
خدماته وصدقاته كان لها تصوير شائن روع له قلبه و انخلعت ضلوعه. في بعض الاحيان
كانت تتحرك في قلبه كوامن الحقد و الغضب و يفكر في الدفاع عن نفسه. ولكن هل يتحدث
عن مزاياه و احساناته؟ هل يعلن خدماته الطيبة التي ينكرونها ويتنكرون له بسببها؟
هل يذكرهم بكلمات السلام التي رد بها السعادة الى
بيوتهم؟ هل يعلن كم من المال قدم لمعونتهم؟ هل يعيد الى ذاكرتهم كيف كان يسهر على
مرضاهم يعالجهم؟ و اخذت تتراءى امامه وتراود عقله اعمال محبته لهم.
حتى تاييس! حضرت و اعترفت امامهم ورأسها مطاطئ الى الارض
ان هذا الرجل اغواها و استهواها حتى اخطأت معه!! لقد اوشك ان يطلب من الله في هذه
اللحظات ان تفتح الارض فاها و تبتلعه و تخفيه عن وجوه الناس وعيونهم التي تقتحمه
في حقد وكراهية وازدراء لكنه اثر الصمت ورفع عينيه الى السماء في ضراعة وللحال
اشرقت اساريره و غمر روحه سلام عميق.
واراد العمدة ان يحسم الامر، وقرر انه سيستعمل الرأفة مع
مويسيس فلا يرفع امره الى السلطات الرسمية وقرر الاكتفاء بأن يصلح الرجل والمرأة
اثمهما وان يكفرا عن خطأهما بالزواج. وصعق مويسيس .. كيف يتزوج و قد نذر التبتل؟ و
كيف يستأنف حياته في البرية؟ .. انه سيحرم من حياة الوحدة. هل هذا مصيره.. يعود
الى العالم و تكون له زوجة و اولاد؟ هل ينقض عهده مع الله؟ مستحيل! و لكن ماذا
عساه يفعل ازاء كل ما حدث وازاء كل هؤلاء؟ فخاخ الشيطان و مكائد العدو.. يحيط به
شرذمة من الاشرار كل منهم ينظر اليه شذرا ويمسك بيده حجرا يريد ان يرجمه به. ويكون
حجره هو الاول.
كان مويسيس مسلوب الارادة تحت رحمة هؤلاء العتاة.. و لكن
شيئا ما كان ليهدئ روعه. الشعور بالسلام لم يفارق قلبه . و لم تمضي دقائق قليلة
حتى حضر القسيس العجوز ليقيم مراسم الزواج. وحين سأله القسسيس عما اذا كان الزواج
قد تم بناءا على رغبته خرج من فمه صوت كفيح الافعى ، نغمة طويلة بلا معنى و لكن
الجميع فهموا انه اجاب بالايجاب.. كان يحيا تلك الدقائق في غيبوبة وربما كان فاقد
الوعى.. تمت مراسم الزواج و انطلق مويسيس مع عروسه الى بيت الزوجية مذهولا .. ومضى
الوقت طويلا يحلق بروحه بعيدا عما حوله لا يتكلم و لا يتحدث . رفع عيناه الى تاييس
في نظرة طويلة فاحصة مستفسرة فخفضت عيناه وحولت وجهها عن نظراته الملتهبة.. واغرقت
عيناه بالدموع ثم انهمرت كالسيل .. اخيرا نهض الى فراشه و هو يتمتم بصوت مسموع:
الله يسامحك.. لكن اسمعي ان لا يمكن ان انقض عهدي مع الله . عهد البتولية.
و مضت حياتهما في صمت ثقيل . لم يفاتحها في هذا الامر
ثانية حتى ولدت تاييس مولودها وكانت فتاة جميلة اسمياها بياتريس وغمرها مويسيس بحب
ابوي دافق واعتنى بتربيتها . كان يكد و يشقى، يعود كل يوم في اخر النهار مكدودا و
لكنه ينسى تعبه و شقاءه حين يحتوي بياتريس في حضنه ويصلي صلاة الغروب. كانت
الصغيرة لا تفهم شيئا من الهمهمة التي تنفرج عنها شفتاه ولكنها كانت تتشبث به
بذراعيهاوتطوق عنقه وهو يواصل صلاته العميقة الحارة. كانت ترى الدموع تسيل على
وجهه فتمد اصابعها الصغيرة لتمسحها او بالحرى تنشرها على وجنتيه.كان جسدها الرقيق
يرتفع و يهبط مع صدر ابيها و تتلامس مع قات قلبه واناته المحرقة توشك ان تمزق صدره
فتمد ذراعيها الصغيرين حول كتفيه ثم تدفن رأسها في عنقه و تضمه اليها كأنها تريد
ان تحمى اباها من خطر داهم.. حتى ينتهي من صلاته و يفتح عيناه فتنظر الصغيرة
اليهما ثم تنخرط في البكاء فيضمها الى صدره و يحاول جاهدا ان يغتصب قهقهة عالية
فلا يخرج الا صوت اقرب من البكاء منه الى الضحك.
حتى اتى اليوم الذي سقطت فيه الام قريسة للحمى و في صبر
وجلد اخذ مويسيس يسهر على رعايتها ويبقى الى جوارها يداعب الصغيرة حتى تغمض عيناها
و تستسلم للنوم الهادئ و الاحلام الساذجة. لم يفكر في الشكوى او الانين و لم يطلب
معونة من احد الا شقيقته براكسيا التي اتت و اقامت معه حتى تعينه على هذه المشقات.
طالما جلس الى جوار زوجته يستمع الى هذيانها و هي محمومة فيأخذ الالم و الرثاء
بمجامع قلبه وهي تردد في كلمات ومقاطع لايبدو بينها رابطة او علاقة: مظلوم يا
مويسيس.. اخطأت سامحني.. سامحني.. كان كل شئ رغم انفي.
اعتراف كاذب.. اسأل العمدة .. آه العمدة.. سامحني يا
ابي. ثم تذهب في غيبوبة عميقة صامتة. و مويسيس بجوارها يرقبها تتلوى من الالم حينا
و تخلد الى الراحة حينا اخر. ذهبت نضارة وجهها وعلتها صفرة باهتة شاحبة. غارت
عيناها و انطفأ منها بريق الحياة. كان جسدها الواهن حلبة من الصراع بين الموت
والحياة . لم تكن الحمى وحده التي تكتكم انفاسها ولكن رغبتها في الحياة كانت تلفظ
انفاسها الاخيرة. لم يجرح مويسيس احاسيسها يوما ولكن صمته الهادئ كان يجثم على
صدرها كحجر رحى.
واسرع مويسيس الى قسيس القرية لكي يعود هذه المسكينة و
يتمم لها "مسحة المرضى". و عندما افاقت قليلا واستردت وعيها غادر مويسيس
الحجرة حتى ييتيح لها فرصة الاعتراف.. بعد قليل عاد مع بياتريس عندما دعاهما
الكاهن و مسحهما بـ "الزيت المقدس" ايضا. ولم يفت مويسيس اثار الدموع في
عيني القسيس وقد تعلقت باهدابه كما لم تغب عن ملاحظته قول الكاهن: الله يسامحني و
يسامحها.
ومع غروب شمس ذلك اليوم انطلقت روح تاييس الى باريها
ووقف مويسيس امام الجثمان المسجى على الفراش وبكاها و هو ينظر الى السماء يطلب
راحة لها ونياحا مع القديسين.. يارب التمس رحمتك لها ولي و للصغيرة بياتريس..
السحاب
واتجه بعد ذلك الى رعاية بياتريس يقدم لها كل ما يملأ
قلبه من حب وعطف وحنان، حتى انه بعد ايام قليلة بدأت تنسى محنتها. كان ابوها هو كل
شئ في حياتها، وامتزجت حياتها بحياته. وصارت بياتريس مصدر عزائه، في صحبتها كان
يشعر وكأن نسيما هادئا يتهادى في اعماقه و يملأه بالسلام.
حين كان يجلس الى اخته،وكانت براكسيا لا تنفك تصب جام
غضبها على هذه المحبة العجيبة التي تلحظها في علاقة مويسيس بالصغيرة بياتريس. كان
مويسيس حازما في انتهارها مذكرا اياها ان نعمة الله التي يلمسها كل يوم في رزقه
وعمل يديه انما مرجعه الى هذه الصغيرة. كان يردد الدعاء لها كلما سنحت الفرصة
لذلك، حين يودعها قبل ذهابها الى المدرسة وعند عودتها و بعد صلواتها وكلما قامت
بعمل يريح قلبه ويثلج صدره. في صلواته كان يستودعها في حضن القدير فلا يمسسها سوء.
الاحتفال بعيد الميلاد
في ذلك اليوم اتجهت صوبه وهي تقفز وتحجل وتناديه: بابا.. بابا..
هلم لقد اعددت كل شئ. واجابها في ذهول:
- كل شئ! .. كل شئ عن ماذا؟
وامسكت بيده ووضعتها في كلتا يديدها و هي تجلس الى جواره
وتهز قدماها في مرح وهي تقول: كل سنة وانت طيب يا بابا .. غدا عيد الميلاد. . تعال
و انظر ما اعددته لوليمة الميلاد التي سيحضرها بنات الكنيسة .. ألم نتفق على ذلك؟
وسارع يجيبها على الفور: آه.. صحيح.. لقد تذكرت.. شكرا
لك يا حبيبتي.
ثم نهض قائما وهو يقبلها وتبعها الى حيث اخذت تحكي له
عما صنعت وما اعدت. وكانت هذه هي المرة الاولى التي يتبع فيها هذا التقليد. في
السنوات الخالية كانت بياتريس تزور صديقاتها في العيد وترى بيوتهم مزدحمة، يتجمع
كل اطفال الاسرة يمرحون ويلعبون طوال يوم العيد، اما هي فكانت تعود الى بيت ابيها
فارغا موحشا لا احد فيه سوى مويسيس وبراكسيا في وجوم وصمت. وعندما تدخل هي يداعبها
قليلا ثم يتركها اما عمتها فلا تزيد على التحية الرسمية "كل سنة وانت
طيبة" ثم يخيم السكون القاتل فيجثم على انفاسها.
وفي احد الاعياد عادت من عند صديقتها هيلانة بعد ان قضت
يوما سعيدا مرحا . اشتركت مع بقية الاطفال في الاحتفال بالعيد وانشدت معهم اغاني
الميلاد المبهجة وكانت بياتريس تمتاز بصوتها الرخيم الجميل، فناداها ابو هيلانة
ورفعها لكي تقف على المائدة وطلب اليها ان تغني بعض الحان الميلاد. واحاط بها
الجميع صغارا وكبارا في صمت وهدوء يستمعون وينصتون ويرددون معها القرار حتى اذا ما
انتهت من الانشاد لم يملك الجميع انفسهم من التصفيق وهتافات الاستحسان. فلما عادت
الى البيت في ذلك اليوم سألت و ألحت في السؤال عن اسرتها و اقاربهم عن اصدقائه
ومعارفه واخذ يحاورها و يداورها ونجح في ان يحول اهتمامها الى الشياء اخرى.. ماذا
كان يمكنه ان يقول لها؟
هل يصارحها انهم قاطعوه واحتقروه واهانوه..؟ كأنه مجرم
اثيم .. انه لا يستطيع ان ينسى كيف يتحاشوه حتى لا يردوا تحيته وسلامه.. حتى مرشده
الروحي في الدير انقطع عنه ورفض زيارته بعد ما كان من امر محاكمته وزواجه ونقض
رهبنته. لقد ذهب يوما يسعى الى مرشده فلم يقبله..
وعندما استعاد مويسيس هدوءه قال لبياتريس: ولكن قولي لي
من هو قريبك، كما يعلمنا الكتاب ؟
ولمعت عينا بياتريس وهي تقبل التحدي واجابت على الفور: هو
كل انسان مهما كان..
وابتسم مويسيس وعاد يسألها : وماذا تقولين عن الايتام؟
فاجابت بياتريس: هؤلاء هم اخوة الرب نفسه. كما قال الرب
"كل ما فعلتموه باحد اخوتي الاصاغر فبي قد فعلتم"
وبدت على مويسيس علامات الرضا والارتياح. ومر بيده
النحيلة على جبهته ثم على رأسه الاشيب وهو يقول: اذا فيمكنك ان تحتفلي بالعيد
معهم. وبدأت المشاورات حتى اتفقوا على الاسماء التي يمكنهم دعوة اصحابها الى
الاحتفال بالعيد معهم.
كانت بياتريس ما زالت تثرثر كعادتها عما اعدته من طعام
وتتحدث عن مذاق ومزايا كل صنف .. ثم عن برنامج العيد.. وعن التراتيل والاناشيد
الجديدة.
وطاب قلب مويسيس ثم اشترك معها في صلاة الغروب.
وبعد ان ارتدت ثياب العيد اصطحبها هى و شقيقته وتوجهوا
الى الكنيسة.
وفي ركن من الكنيسة انزوى مويسيس يشترك بقلبه وروحه في
صلاة القداس الغريغوري الذي كان يرتله الكاهن في فرح وابتهاج. لم يستطع مويسيس ان
يجلس في الصفوف الاولى او يقف وسط فرقة المرتلين ..
وعندما انتهى القداس خرج من الكنيسة تتأبط ذراعه بياتريس
وتسير الى جواره براكسيا وحولهم جموع الناس من اطفالهم يجرون ويقفزون و يمرحون
يتبادلون التهاني وحلو الاماني. قليل من الناس وجهوا التحية اوالتهنئة لمويسيس حتى
اقاربه وابناء عمومته لم يكلفوا انفسهم بذلك. ولكن اصدقاء وصديقات بياتريس التفوا
حوله في فرح وبهجة. واخلى مويسيس يدها حتى تنطلق ولم يفته ان ينبه عليها الا تذهب
بعيدا ..
الكلمة الاخيرة
وفي باكر العيد ولم تكن الشمس قد طلعت بعد والسماء تسبح
في بحر من السواد تحف به غلالة رقيقة من الضوء الخافت والسكون يشمل الكون كله
وقطرات الندى تلمع فوق اوراج الشجر.. ولا يقطع هذا السكون سوى كلمات مويسيس
الهادئة عندما قام مع بني النور ليسبح رب القوات. ينظر من نافذته فيرى يوما جديدا
فتبتهج روحه بالشكر ولا يجد الكلمات التي تتوافق مع شعوره فيصمت ويستغرق في النظر
الى هذا الجمال.. السماء تتحجث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه.
وتملمت بياتريس
في فراشها وفتحت عيناها لترى اباها وقد اولاها ظهره فصار ككتلة من الظلام
في مواجهة النور وتسحبت في هدوء ووقفت الى جواره تنظر الى السماء ثم مدت يدها
لتمسك باطراف اصابعه وهي تركع على الارض. وجثت وهي ترشم علامة الصليب وتقول: هلم
نسجد.. هلم نسأل المسيح الهنا.
ثم نهضت من سجدتها والتصقت بابيها الذي طوقها بذراعه وهو
يرفع عيناه الى السماء ويطلب بركة اليوم المقدس..
ولم تكد الشمس تغمر الارض بنورها حتى سرت الحرارة والدفء
وامتلأ البيت بالاولاد والبنات يحملون اللعب في ايديهم ويتبادلون الهدايا وترتفع
قهقهتم بسبب وبدون سبب. يضحكون لانهم سعداء. يموجون بالفرح في انحاء البيت و
يستقبلهم مويسيس بوجهه البشوش وابتسامته الراضية وبياتريس تقفز بينهم تصافح هذا
وتعبث مع ذاك وتعطي اخر من حلواها وتأخذ اخرى الى عمتها براكسيا لكي تصلح من
هندامها وزينتها. حتى براكسيا تخلت عن صرامتها وخشونتها لكي تفسح مجالا للمرح و
السعادة وبدأت بياتريس ترتب الاطفال حولها وسرعان ما ارتفعت اصوات التهليل .. واهتز البيت كله بانغام
التسبيح.
ولكن.. ران على وجه بياتريس سحابة من الضيق بعد فترة.
ولم يغب عن عيني ابيها المدربتين ما ألم بها من قلق. فتقدم نحوها و سألها :
ما بك يا بنيتي ؟ ماذا يقلقك؟ هل بك شئ؟
واخذ يدها بين يديه واحس ان حرارتها مرتفعة واضطرب قلبه
و هو يسألها في قلق:
- هل تحسين بشئ؟
- هل تحسين بشئ؟
- - ابدا. لا شئ على الاطلاق. كل ما هنالك ان ايلارية تأخرت
عن الحضور و لا اريد ان نتناول الكحك والحلوى الا اذا اكتملنا.
فوجئ مويسيس وهو يسمع اجابتها ولكنه قال:
- -
وهل دعوت ابنة العمدة ايضا؟ هل نسيت ما قالته لك
من يومين وكيف اتيت غاضبة؟
ولكن بياتريس ضحكت وقالت:
- -
هذا صحيح ولكن هذا لا
يمنع ان نسر ونفرح بهذا اليوم الذي صنعه الرب. هل نسيت
يا بابا نشيد الملائكة : المجد لله في الاعالي..
وعاد يسألها:
- - و لماذا لم
تحضر؟
قال هذا
السؤال وقلبه يخفق خوفا من ان يتطرق الحديث الى الماضي و مآسيه. و لم يسترد هدوءه
حتى قالت:
- - يقول الاولاد ان اباها مريض.
وتذكر مويسيس انه لم ير العمدة في الكنيسة كالمعتاد. فهل
يذهب لزيارته..؟!! انه الرجل الذي حاكمه بعنف وقسوة، و ظلمه. بسط اليه يده يطلب
الدفاع عن نفسه فلم تلن له قناة. هو الذي وصمه بهذا العار بين اهل القرية جميعا..
وهز مويسيس رأسه يرفض هذا الفكر ويطرد هذه الخواطر
الشريرة. أليست هذه تذكار الشر الملبس الموت.. لقد مضى وقت طويل منذ ان صفح عن كل
هذا و غفر للعمدة من كل قلبه. فليذهب اذا الى دار العمدة. واحس برغبة جارفة لفعل
ذلك، فنادى على بياتريس وبادرها قائلا: بياتريس. افرحى والعبي مع اخوتك اما من جهة
صديقتك فسأذهب الى العمدة لاطمئن على صحته .. ما رأيك؟ ولم ينتظر حتى يتلق جوابا
بل انحنى و قبلها في جبينها وهو يردد كل سنة وانت طيبة.. ثم مضى الى حال سبيله ..
لا يلوى على شئ .. يداهمه خوف مجهول وقلق لا يفارقه.
ووصل الى البيت الكبير وقد ازدان بالزينات ولكن اصوات
الفرح كانت خافتة هزيلة. وعندما ولج الباب كان البيت يغص بالضيوف والوافدين من اهل
القرية وغيرها من القرى المجاورة ورفع يده بالتحية وعيناه صوب حجرة النوم حيث كان
المريض راقدا ومع انه لم يجل بعينيه وسط الضيوف فقد شعر من حركاتهم انهم يفسحون له
الطريق نحو حجرة المريض ووجد نفسه يتجه اليه ويقف عند عتبة الباب . في الحجرة
الفسيحة والى جوار الفراش جلس القسيس العجوز وقد اصاخ السمع للمريض. الا انه كان
يقاطعه من حين لآخر لكي يتحدث اليه في لهجة آمرة حاسمة.
لقد اندهش بعض الضيوف لمقدم مويسيس فعهدهم به انه يحيا
في عزلة بعيدا عن الناس وتغامز بعضهم يسترجعون الماضي، ولكن البعض اقبلوا في لهفة
واضحة الى مويسيس قائلين: ان العمدة كان
يطلبك من لحظات، ولعل الخادم الذي ارسله في طلبه يدق بابه في نفس الوقت. تعجب
مويسيس وتساءل عن السبب . لقد مضت خمس عشرة سنة منذ ان جرت محاكمته وكان هذا هو
اللقاء الاخير مع العمدة، و انقطعت كل رابطة بينهما.. بل لعل العمدة كان لا يحب بل
يرفض ان يلتقيه. فالعمدة كان معروف عنه الصرامة.
واتجه مويسيس الى العمدة .. فوجئ الكاهن برؤياه فنهض من
مقعده وهب العمدة من فراشه مذعورا كالملسوع او كأن ملاك الموت قد هبط عليه ليأخذ
روحه على عجل. ولكن مويسيس تحدث في نبرة هادئة وصت رقيق موجها كلامه للقسيس ثم
للعمدة: السلام لك يا ابي .. كل عام وانتم بخير .. الرب يعيد عليكم هذا العيد
بالفرح والسلام.
كان من الواضح ان العمدة في حالة اعياء شديد، لا يستطيع
القيام من فراشه. خفت صوته وضعفه حتى صار اقرب الى الهمس.ولكنه الان تحامل على
نفسه ونهض متثاقلا من فراشه واخذ يخطو بعض خطوات مترنحة بعيدا عن الفراش حتى توسط
ابناء القرية في مواجهة مويسيس واطال النظر .. فخيم على القاعة صمت عميق وكأن على روؤس الواقفين الطير و تعلقت عيونهم
بالعمدة ومويسيس و امسكوا انفاسهم. ماذا يمكن ان يحدث؟
وعقدت الدهشة
السنة الجميع حين جثا العمدة على ركبتيه وانحنى برأسه على قدمي مويسيس وانفجر
باكيا وهو يصرخ: اخطأت اليك.. سامحني. ظلمتم. اغفر لي.
اخذ يهي بهذه الكلمات كالمحموم بينما وقف مويسيس مصعوقا
وقد تسمر مكانه من هول المفاجأة وفي سرعة البرق لمعت في ذهنه الحقيقة.وعادت الى
ذاكرته كلمات تاييس وهى تحتضر، فتقلصت عضلات وجهه وانطبعت الصرامة على ملامحه..
لقد ادرك اخيرا انه كان يحتمل اثار الخطية التي ارتكبها العمدة.. العمدة الذى
ادانه وحكم عليه.
ولكن العمدة تشبث بثياب مويسيس ورفع وجهه مخضبا بدموعه
وهو يكرر في اصرار: اخطأت اليك .. سامحني. سأعترف امام الجميع انك برئ.. انت قاسيت
الكثير .. لقد ظلمتك.. سأعترف امام الجميع ببراءتك مثلما ادنتك امام الجميع..
ولكن مويسيس اشار اليه بيده، ولم يدعه يكمل حديثه بل
امسك به بيديه ورفعه لينتصب قائما وه يقول: لا عليك يا رجل.. فليرحمنا الله. ليغفر
لي ولك..
بعد ساعات قليلة من هذا اللقاء العاصف. وكان مويسيس
بمعونة الضيوف قد حملوا العمدة الى فراشه وهو عاجز عن الكلاموالحركة ثم اغمض عيناه
وغطّ في نوم عميق ولم يفتح عيناه بعد ذلك.
اخذ مويسيس ابنته بياتريس الى الكنيسة و اشتركا معا في
الصلاة من اجل الراحل العزيز .. صليا بدموع من اجله وعندما شاعت احداث ذلك اليوم
ذهب كثير من رجال القرية لزيارة مويسيس لكي يطلبوا صفحه عنهم وغفرانه لاساءتهم
ولكنهم فوجئوا بالمنزل فارغ. لقد مضى الى حيث لا يعلمون.