31 ديسمبر 2014

قصة الارغن العتيق

صنع هذا الارغن في برلين سنة 1983 وقضى القرن العشرون كله في فلسطين، وها هو اليوم يشهد بزوع عاما جديدا. في بداية العام كان لقائي معه.

قلت له: حدثنا يا أرغن عن أول انطباعاتك عن مدينتنا بيت لحم!
قال: لقد رأيت بيت لحم أكبر مما توقعت… فأنتم ترتلون دائما عن بيت لحم، القرية الصغيرة. ولكنني فوجئت أن عدد سكانها تجاوز الأربعة الآلاف، كما وكانت الكنيسة التي وضعت فيها، كنيسة الميلاد، من أجمل كنائس المنطقة برمتها، ولكن ما أحزنني هو قلة أعداد المرتلين والذين بلغ عددهم الأربعين عضوا فقط، كما ولم يكن ترتيلهم حسبما توقعت، بل جاء باهتا ..
هنا قاطعت الأرغن قائلا:
إن قصتك مثيرة، ولكن أخشى أن مفهومك عن الوقت يختلف عن مفهومنا اليوم، فلقد عشت أنت في زمن كان الحكواتي يجمع الناس يقص عليهم قصص ألف ليلة وليلة لساعات طويلة، دون أن يبدوا حراكا، ولكن في عصر التلفاز الوضع تغير… فإذ أكملت أنت قصتك على الوقع ذاته، أخشى أن يظن القراء بأن قصتك ستصبح كالمسلسلات المكسيكية، لا من حلقتين بل من مائة حلقة وحلقة، فهل بإمكانك الاختصار…
قال: وماذا تريد أن تعرف عني؟
قلت: خبرني عن رحلتك الأخيرة إلى الولايات المتحدة.
- لقد كانت حياتي صعبة… وعشت بمرض مزمن في رئتي، بل كان عندي مشاكل في التنفس، ففي القديم ..القديم كان الشباب ينفخون يدويا في رئتي الهواء كي أستطيع التنفس والصفير، ولكن ومع مرور الوقت تراجعت حالتي هذه، فأتوا لي بطبيب ألماني، قال أن هناك موتورا كهربائيا لا بد وأن يربط بي فيضخ الهواء آليا إلى رئتي… فربطوني به… وتحسنت حالتي كثيرا، إلا أنني عدت وانعكست وصار الجمهور يلاحظ تدهورا في حالتي الصحية، فقد خشن صوتي بل ومع مرور الزمن أصبح صوت الشهيق والزفير أعلى عندي من صوت الترنيم، فقلت في نفسي… ما الفائدة، لقد خدمت لمائة عام، فاركن واسترح ونم في أمان... وهكذا صار، فانزويت على نفسي وانطويت على ذاتي وعشت وحيدا، لم يزرني فيها أحد بل راح الغبار يتكاثف علي رويدا .. رويدا، وقلت في نفسي لا بد أن يأتي يوم يظن القسيس بأنك قد أصبحت عبئا على الكنيسة ومصدر إزعاج فيتخلص منك فتنتهي قصتك في المزبلة…
ولكن وفي أحد الأيام زارني طبيب أمريكي قال بأن هناك أملا في شفائي ولكن الأمر مكلف… ورزقني الله بالعديد من المتبرعين الذين جعلوا مما تيسر لهم لينفقوا على عملية قيل لي أنها ستعيد الشباب إلي… وفعلا جاء الطبيب وشرحني إلى قطع، ودفعت في صناديق نقلت بواسطة سفن حديثة ليست كتلك التي جئت بها الى فلسطين، فنقلت من ميناء حيفا إلى ميناء بوسطن، ومن ثم بناقلات سريعة وعملاقة إلى ولاية منيسوتا حيث وضعت في مزرعة بل معمل وهناك أجريت لي عملية جراحية استمرت زهاء الأشهر الستة اشهر، حيث أصلحت صفاراتي القديمة الخربة، وزرعت لي أعضاء جديدة كثيرة، ونلت حياة جديدة… وأصبحت في ليلة وضحاها، أصبحت خلايا جسدي تعمل بالتقنية الرقمية، وهي تقنية القرن الحادي والعشرين. جرى دم جديد في عروقي وكان الله قد كتب لي أن أعيش قرنا آخر…
وهنا رأى الأرغن في عيني فرحة ممزوجة بالحزن، فتابع كلامه:
أنا أفهمك… فأنت تفرح معي بأنني قد تجددت، كما يفرح الأب مع ابنه الضال الذي كان ميتا فعاش …
ولكنني أفهم حزنك… ربما تود لو كان بإمكان الطب البشري أن يزرع في الإنسان خلايا رقمية فيعيد له شبابه…
بل لا تتصور يا بني ما يدور أحيانا كثيرة في مخيلتي… دوري صعب ودعوتي ليست بالسهلة … أن أعزف لطفل وليد جديد يوم معموديته "يا رب طفل قد أتاك.."، وأن أعزف له يوم زواجه "أحضر هنا يا ربنا…"، ومن ثم أعزف له يوم دفنه "أمكث معي يا سيدي…"
ليس سهلا أن تتعود على أناس، تحبهم، ومن ثم تفارقهم… ولكن هذه سُنة الحياة، وأعزي نفسي بالقول بأن عزفي وترنيمي إنما يروحان عن النفس ويدخلان إليها السرور…
قلت: لله اسرار في خلقه… فنحن الآن على أبواب عام جديد، وقد رحت تتحدث عن الموت…
قال: "من لا يفهم الموت، لا يعرف الحياة … 
قلت : حدثني عن أصدقائك.. هل كان لك أصدقاء أكثر…
وهنا صمت الأرغن قليلا، أخذ نفسا عميقا وكأنه راح يرجع بمخيلته إلى حياته القديمة ليتذكر، ومن ثم قال لي:
لقد منحني الله أصدقاء كثيرين، أخلصوا لي كل الإخلاص.. بل إن حياتي من دونهم هي هباء ليس إلا…
قلت: " أنا أعرف أن الصداقة أمر شخصي، قد لا تريد أن تتحدث عنه علانية.
قال: لا بل دعني أحدثك باختصار عن بعض اللحظات التي لا تنسى لي مع أصدقائي…
فهنا ومع صوت صفاراتي تم نظم العديد من الترانيم التي ترنمونها دون أن تعرفوا تاريخها… اسألوني أحدثكم…
فلا أنسى مثلا الفرحة التي غمرت احد اصدقائي وهو يرنم:
" يا نفس قومي بالعجل  ها قد بدت شمس الصباح
  اتركي التواني والكسل واسعي إلى رب الصلاح"
لقد صرخ بغتة وهو يعزف على صفاراتي: وجدتها … وجدتها، وكان يحلو له العزف كل يوم في الصباح الباكر، وكأن اليوم لا يحلو له بعيدا عن أنفاسي…
بل وهل تعرف أن هذا الصديق بعينه كان قد نظم في هذه الكنيسة وعلى أنغامي ترنيمته المشهورة:
" كنت أسيرا في الأنام ، والعدل قاض بالقصاص
 ففكني فادي الأنام ، وقال لي نلت الخلاص…
وينقصني الوقت كي أحدثك عن ترانيم القس سعيد عبود، ووديع خوري وإبراهيم ووديع عطا، وأن أنسى فلن أنسى المرحوم توفيق سرور خاصة بجوقته الرنانة في أسبوع  الآلام، أو جوقة أبواقه الرخيمة، صباح عيد القيامة. وماذا أقول عن المرحوم فهمي الهواش وكرستا نصرالله، أو عن الأستاذ ميخائيل زبانة أو فهد أبو غزالة أو جورج أبو دية وغيرهم… بل يسرني أن قد أصبح لي أيضا أصدقاء جدد من الولايات المتحدة الذين أرجو أن نلتقي وأطرب على معزوفاتهم…
قلت: لله اسرار يا أرغن.. قصتك جميلة تشد لها النفوس، ولكن هل من نصيحة في صباح هذا اليوم الأول من السنة الجديدة، هل من نصيحة تسديها إلينا؟
لم يتوان الأرغن، بل نظر إلي متفحصا إن كنت سأعمل بنصيحته، وقال لي من دون تردد:
"الحياة غنوة…الحياة غنوة، قد تملأها بالبكاء والعويل، وأعرف أنكم ايها البشر تحبون البكاء على الأطلال، ولكن الحياة غنوة "بإمكانك أن تجعل منها كابوسا … صراعات زوجية في الصباح والمساء، مشاحنات ومخاصمات مع الأهل والأصدقاء، كراهية وبغضاء، حرب وصدام… ولكن الحياة غنوة تستطيع أن تجعل أنغامها حلوة، أنت العازف وأنت الناظم، وأنت المايسترو..
أنت تتحكم بزمام الأمور… إذا لم يعجبك اللحن القديم، إجلس وأكتب لحنا جديدا…
ودعني أنهي بنصيحة ثانية:
أكثر من الترنيم … فالترنيم يجدد قوة الإنسان، إذا كنت فرحا فترنم… ولكن إن كنت حزينا، وحيدا، مريضا، خائفا، حائرا، محتاجا، تعبا فترنم أيضا…
فالترنيم هو سر الحياة… لذلك الأبدية سنقضيها بالترنيم لا تجعل شيئا في الدنيا يسلبك ترنيمك…
بل اجعل وقت ترانيمك يكون هو وقت حياتك.
وهنا قاطعته: وقلت له: "أرى يا أرغن أنك واعظ مؤثر… وسأعدك: أنني سأرجع لأسمع منك مرة أخرى… ولكن الان أستودعك الله…" وتركته وكلماته تطن في أذني…
"لا تسمح بأن يسلبك أحد ترنيمتك… "
وقلت في نفسي: "هذا سيكون شعاري للعام الجديد.". 
منقول بتصرف عن:       
      www.mitriraheb.org

22 ديسمبر 2014

في البدء كان الكلمة..


الكلمة أحد الأسماء الرائعة لربنا المعبود، والتي تُظهر لاهوته، ويرد أربع مرات في الوحي المقدس، كلها في الأصحاح الأول من إنجيل يوحنا (يو1: 1، 14).
و«الكلمة» هو الأقنوم المُعبِّر عن الله وعن فكر الله، ولا يمكن أن نعرف الله إلا بواسطته؛ فقد عبَّر في الخليقة عن حكمة الله وقوته ومجده …
وعبَّر في الفداء عن محبة الله وبره …
وسيُعبَّر في الدينونة عن قداسة الله وعدله.
تبارك اسم إلهنا الذي «صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا ... مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً» لأن «النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ ... َبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا» (يو 1: 14، 17).
إن «الحق» بنوره الكشاف يكشف للإنسان ماهيته ومصيره، ويظهرهما واضحين. و«النعمة» تقف شاهدة له بأنه، رغم كل الشر الذي عاشه، وعلى حساب استحقاقات شخص آخر – الرب يسوع المسيح – يمكن أن تكون البركة الأبدية من نصيبه.
«الحق» يُشخِّص الداء، و«النعمة» تُقدِّم الدواء.
«الحق» يُظهر حقيقة الإنسان، و«النعمة» تُعالج تلك الحالة التي أظهرها الحق.
«الحق» يضع الخاطئ في مركزه الصحيح، و«النعمة» تأتي به الى الله.
و«الحق» الذي يُبين ويُقرر مطاليب الله، يزداد بهاءً ولمعانًا لارتباطه بالنعمة.
و«النعمة» التي تسدد إعواز الخاطئ، يزيدها جمالاً أنها مرتكزة على الحق.

فايز فؤاد 

منقول من مجلة نحو الهدف

12 ديسمبر 2014

حواء الثانية - رؤية جديدة للحياةِ!!..


هناكَ تبدأ الأرضُ والبحارُ وسماءُ السّمواتِ، روحًا من روحِ الله على الغمرِ ..
وتصيرُ المرأةُ - بروحِ الإلهِ - حياةً منهُ... 
تصبحَ حواء المرأةُ هي أمَّ كل حي، ام الحياةِ، وحياةَ الحياةِ!!.
لِمَ المرأةُ؟!...
لأنّ حواء الثانية من روحِ الله اخذَتْ الحياةِ!!. 
لأنّها، منذُ مولدِها من بتوليّةِ الحبِّ الإلهيِّ، تطايرتْ طفلةً على درجاتِ الهيكلِ مغرّدةً بيقين: 
هذا بيتُ إلهي!!... هذه منازلُ ومساكنُ أبي!! هنا أُودعْتُ لأصيرَ، به، مسكنًا له، إذ أسكنني روحَهُ القدّوسَ، وكانت محبة الهي حياةً لي، منهُ أنطقتني "النّعمَ" الكونيّةَ، الّتي صيّرتني مسكنا للإلهِ الطّفلِ المتجسّدِ منّي أنا إنسانةَ الحياةِ... إنسانةَ التدبير الإلهي الّتي اختارني منذُ بدءِ الدّهورِ... إنسانةَ الوعدِ الإلهيِّ!!.
+++
هكذا تفتّقَتِ الحياةُ الجديدةُ من الموتِ العتيقِ!!.
إذ كانت حوّاءُ القديمةُ عديلةَ الرّجلِ في الموتِ فانها صارت في العذراء حاملةً روحَ الحياة.
امرأةُ العهدِ القديمِ أتاها الرّجلُ... عرّفتْهُ "بالثمرة المحرمة"... "هنا بدأ السقوط"!!.
وناحَ الكونُ إذ التقى السّقوطان!!.
ارتعدَتْ وخافَتِ الأرضُ!!. إلى أينَ نذهبُ بهذَين؟!.
ها إنّهما بدأ برميِ أقذارِهما في وجهِنا، في البحارِ، في مغايرِ ومخازنِ المياه!!. في العِلْمِ الّذي قزّموه حتّى التاع الإنسانُ  من هاجسِ الصّراعِ لأجلِ البقاءِ... هوّلوا همَّهُ من استنباطِ إشاراتِ الحياةِ، للولوجِ في الضّوءِ، الدّاخلِ في عتميّةِ حسِّهِ الجسديِّ ،
وإذ صَيَّرَ جسدَهُ انفعالاتِ نزواتِ حسِّهِ... صارَ أسودَ الرّوحِ والرّؤيا والعينِ والنّظرةِ إلى كيانِهِ...
صار قردًا في عينِ أمِّهِ الأرضِ...
انعطَفَ على ذاتِهِ... علا... علا... حتّى طالَ العتماتِ الجحيميّةَ في أعمقِ غمرِ روحِهِ، محوِّلاً كيانَهُ إلى خطايا.
ثمَ سكنَ... بل استراحَ في ما خلَقَهُ هو واحب عملَ يدَيهِ، عاشقًا ذاتَهُ!!...
وإذ سقطَ في تطويبِ معرفتِهِ، أسقطَ الله في كُنهِ عدمِ المعرفةِ، في جَهْلِ أحكامِ الكونِ حولَهُ... في الغوايةِ.... في اللّامنظورِ... في اللّامُدْرَكِ... فَقَدَ الرّوحَ... وإذْ أضاعَ ذاتَهُ... ماتَ!!!...
هكذا ماتَ الإنسانُ!!...
ونظرَتْ حوّاءُ صِنْوَها تخشَّب... فألقَتْ بجسدِها على جسدِهِ... نفخَتْ فيه روحَ الحياةِ... نَفَسُها الّذي من نَفَسِهِ أعادتْهُ له ليحيا!!. كرّرَتِ المحاولةَ مَرَّةً... مَثْنى وثلاثًا!!.
فاستفاقَ على طعمِ جسدِهِ في جسدِها ونَفَسِهُ في نفسِها...
أحسَّ بلهيبيّةِ نارِ الجحيمِ الّتي سقطَ فيها وهو وحدَهُ... أمّا الآنَ فصارَ الجحيمُ جسدَ حوّاءَ امرأتِهِ منذُ السّقوطِ...
وصرخَ الكونُ حولَ الجدَثَين... "من يُخَلِّصُنا من جسدِ الموتِ هذا؟!"...
و"بنورِكَ نعاينُ النّورَ"... ؟؟!!... لا!!.
بالموتِ صارَتِ الحياةُ كذبةَ الموتِ الّتي عشقَها الإنسانُ!!. بموتِ الرّجلِ والمرأةِ، صارَتِ الحياةُ كذبةَ البقاءِ... صارتِ الحياةُ موتًا!!...
صارتِ الحياةُ الجديدةُ العتيقةُ موتًا!! وصارَ الإنسانُ بالموتِ لا يعرفُ إلاّ الموتَ!!. موتَ الآخرِ وموتَ ذاتِهِ!!...
وصَوَّتَ الإلهُ!!... "أين أنتَ يا آدمُ؟!".
لم يُجِبْ آدمُ صوتَ الإلهِ... خافَهُ!!. خافَهُ لأنّه سقطَ في حوّاءَ جسدِ الموتِ!!. خافَ لأنّ أولادَه صاروا أولادَ الموتِ يتناسلون الموتَ الّذي وُلدَ منه، فعاشَهُ حتّى ثمالةِ الاختناقِ، حتّى ولّد الموتِ ذاته وجوده منه!!. صارَ جسدُ حواءَ مطرحًا لاستقبالِ بذرةِ الإثمِ... بذرةِ الموتِ... وماتَ الكونُ!!...
وَمَرِضَتِ المرأةُ!!. مرضَتْ فتاةُ الموتِ!!. مرضتْ حوّاءُ بمرضِ الموتِ!!. بمرضِ الإحناءِ والانحناءِ تحت سطوةِ جسدِ الموتِ الّذي لبسَتْهُ... صارَ لباس الموتِ حياتَها المائتةَ في الرّكضِ وراءَ جسدِ الحياةِ لتلقى موتَ كلِّ ما أنجبَهُ جسدُها من أطفالٍ وأفعالٍ وأفكارٍ!!.
وإذ أحاطَها الموتُ وصنعُ يدَيها منذُ بداءةِ الموتِ فيها ومعها... غضبَتْ... عَنُفَتْ!!..
صمتَتْ... ثم تجرّأتْ حوّاءُ على الإلهِ... قاتلتْهُ بحسِّها... بكلماتِها... بأفكارِها... بشأوِها عليه... وصرخَتْ به: لماذا خلقتَني هكذا يا الله؟!... مولودةً من الموتِ، لأعودَ إليهِ كلّما أولَدْتُ الحياةَ لأجدَ الموتَ يتآكلُني وذريّتي، أفكاري وكليّةَ أفعالي؟!...
كيف آذيْتُكَ؟!... كيفَ ولماذا كافأتَني هكذا؟!... يا الله؟؟...
لم يُجبْها الإلهُ!!، لم يجبْ كِذْبتَها!!  التّي خانتْهُ بها... تَرَكَتْهُ ميتًا في موتِها، حتّى لم يعُدْ فيه روحٌ لحياتِها بل صارَ الموتُ خاصيَّتَها... اسمَها وحياتَها!!... صارَ الموتُ من الإلهِ لها ولذريّتِها... صارتْ هي تموتُ فيهِ كلَّ لحظةٍ!!. تحيا لتموتَ... لِتُنبِعَ الموتَ في كلّيَّتِها.
ماتَتْ وأماتَتْ إلهَها فيها!!.
وبكَتِ الأرضُ نواحَ المرأةِ الّتي صارَتْ من دونِ اسمٍ!!.
والتمعتِ السّمواتُ بنارِ جحيمِ الحياةِ المائتةِ الّتي خرجَتْ من أحشاءِ حوّاءِ (مريم) الموتِ وأفعالِ (مرتا) أختِها الّتي آلَتْ للموتِ أيضًا وأيضًا!!...
ما القصدُ الإلهيُّ؟! ما النّيّةُ؟!... لم الحياةُ؟!. من يُرْجِعُ النّورَ إلى العتماتِ الظَّلِمَةِ؟!... ألا من صوتٍ يصرخُ: أعطني حياتي، أطلق يدَيّ من الظلمةِ وظلالِ الموتِ؟!.

+++
وكان على الحياةِ المائتةِ أن تعودَ إلى بداءتِها!!. إلى ما قبلَ الموتِ!!. إلى الولادةِ الّتي ليسَتْ من العدمِ... وليستْ من رحمِ امرأةِ السّقوطِ ولا من حوّاءِ وآدمِ الموتِ!!.
وصرخَ الإلهُ... ليكن كلُّ شيءٍ جديدًا!!.
وصارَ صمتٌ!!. غلَّفَ السّكونُ الكونَ... لفَّ الغمامُ الأرضَ بأَكملِها... ألبسَها حلّةَ البياضِ!!.
من حلمِ موتِ الحياةِ المائتةِ تلكَ استبانَ نجمٌ جديدٌ التمعَ من عمقِ البحارِ الّتي ماتَتْ... لتعودَ الحياةُ إلى المغارةِ بعد أنِ انهدَمَ سقفُ السّمواتِ على الأرضِ!!!...
وكانَ على الحياةِ أن تولدَ الآنَ من حشا الإلهِ الطّفلِ "الكلمةِ"...
انهمَرَ مطَرُ الغسلِ ليصيرَ الأبُ جديدًا... وصارتْ دموعُ عذريّةِ امرأةِ الحبِّ البتوليِّ الجديدِ مريمَ... سقيَ الأرضِ والأرحامِ والقلبِ والرّوحِ الجديدِ...
صارتْ دموعُ مريمَ العذراءِ غسلَ تنقيةِ آدمَ وحشا حوّاءَ!!.
صارَ، بالغسلِ... بماءِ الرّوحِ، كلُّ شيءٍ جديدًا!!...
لأنّ اليومَ اليومَ تولَدُ المرأةُ الأمُّ، العذراءُ مريمُ!!... الّتي حملَتْ سقوطَ حوّاءَ في كيانِها، آتيةً بها، فيها، إلى هيكلِ الرّبِّ لتسمعَ كلامَهُ... وكان يسوعُ يُعلِّمُ في أحدِ المجامعِ يومَ السّبتِ... وكان على مريمَ أن ترافقَهُ لتسمعَ كلامَهُ!!...
اليومَ صيّرَ يسوعُ الكلمةَ العتيقةَ جديدةً!!.
أتتْهُ المرأةُ... امرأةُ الموتِ... امرأةُ السّقوطِ...
المرأةُ الحاملةُ روحَ المرضِ المميتِ الّذي أناخَها لئلاّ تستطيعَ أن تنتصبَ البتّةَ... انقَضَّ عليها روحُ المرضِ المميتِ - روحُ الحيّةِ الشّيطانِ، قاتلِ الحياةِ- فأفقدَها الحياةَ... انحنَتْ بمرضِها لا لتعاينَ النّورَ، بل لتعودَ إلى أرضِ الموتِ الّتي منها أُخِذَتْ والّتي أماتَتْها قرونٌ لا تُحصى ولا تُعدُّ...
اليومَ مريمُ البتولُ... حوّاءُ النّورُ وكلمةُ الحياةِ... تأتي!!...
اليومَ رأى يسوعُ حوّاءَ المرأةَ الميتَةَ عبرَ السّقوطِ بانحنائِها إلى الموتِ آتيةُ لتسمعَ كلامَهُ... "فلمّا رآها يسوع، دعاها وقالَ لها: إنّك مُطْلَقَةٌ من مرضِكِ... ووضعَ يديه عليها وفي الحالِ استقامَتْ"...
رسمَها يسوعُ المسيحُ، بوضعِ الأيدي، كاهنةً ملوكيّةً للعهدِ الجديدِ بمريمَ البتولِ، فأعلَتِ الرّأسَ إليهِ!!.
عرفَتْهُ ربَّها إلهَها... خالقَها... سيّدَ حياتِها (وعريسَها)... "فمجّدَتِ الله"...

الأمّ مريم (زكّا)- رئيسة دير القدّيس يوحنّا المعمدان- دوما – لبنان.

11 ديسمبر 2014

الاعتراف في الكنيسة الأرثوذكسية



بما أنني قبطي ارثوذكسي، سأتناول موضوع الاعتراف من منظور الأرثوذكسية. وأنا أدرك أن هناك العديد لا يعرفون الكثير عن الكنيسة الأرثوذكسية وإيمانها القديم الجميل.
الاعتراف هو سر يتم من خلاله غفران خطايانا، ويتم استعادة علاقتنا بالله وبالآخرين. فمن خلال سر المسيح تشفي تلك الكسور التي تحدثها الخطية في الروح ويستعاد ثانية الشعور بمحبة الآب لأولئك الذين فقدوها.
في حين انه يمكننا أن نعترف مباشرة إلى الله، وحتى بعض الايات في الكتاب المقدس تكشف أنه ينبغي لنا أن نفعل ذلك، فإننا كثيرا ما نجد أننا بحاجة إلى المساعدة والمشورة في التغلب على الخطايا ذاتها التي قمنا بالاعتراف بها. ولذلك، فإننا نعترف في وجود الكاهن الذي نسميه أب الاعتراف، وجها لوجه.
نحن لا نعترف إلى الكاهن. بدلا من ذلك، نحن نعترف الى الله "في وجود" الكاهن الذي، هو "شاهد" على صدق توبتنا. الذي بعد أن يسمع اعترافنا يقدم المشورة الرعوية عن كيف يمكننا تحسين حياتنا والتغلب على الخطايا التي اعترفنا بها. تماما مثل الطبيب الذي يقوم بتشخيص المرض ويصف العلاج.

الحروب الروحية على مستوى العقل والقلب:
جلست خارج مكتب اب اعترافي في انتظار دوري لأعترف. خالجني اثناء ذلك افكار عن خطاياي الكثيرة. وحينما اقترب دوري للدخول بدأت أحاول تهدئة نفسي من خلال إقناعها أن اب الاعتراف هو مثل الأب الطبيعي وعليّ ان انظر اليه هكذا. وسرعان ما اخذت مئات من الأفكار تغزو عقلي وتندفع متخبطة بطريقة مريعة وكأنها تصطدم بعنف احدها بالآخر. بعد بضع دقائق أصبحت خدرا بسبب هذه الأفكار، مختبئا منها داخل ذهني كما لو كانت نوعا من حشد غاضب.
ظللت في هذه الحرب الذهنية حتى نبهني صوت مألوف لأذني. انه صوت اب اعترافي الذي ناداني بلطف، "بىتر، مرحبا بك! لقد افتقدتك كثيرا، تفضل بالدخول." عادت عيناي إلى الواقع وأنا انظر مرة أخرى الي الارض التي كنت احدق فيها طوال الوقت. افقت وسرى داخلي شعور لا ينضب من الحزن استنفدني عاطفيا، وأنا أحاول أن أبدأ بالاعتراف ولكن لا شيء يتبادر إلى ذهني وأنا أجلس هناك. وكأن الخطايا التي كانت في ذهني لا مكان يمكن العثور عليها فيه، كما لو كانت الأفكار التي غزت ... هذا الحشد الغاضب تسبب في فوضى وبلبلة ودمر كل شئ في طريقه. وجدت نفسي أتراجع إلى طريقتي في الاعتراف حينما كنت صبيا صغيرا واقول أشياء مثل، "أنا فعلت اشياءا سيئة، انا قلت كلمات بذيئة، انا تعاملت مع الناس بشكل سيء". ولكن هذا لم يكن شيئا جديدا بالنسبة لي. هذا هو في الواقع ما يحدث لي في كل مرة أحاول أن اعتراف.
البعض ممن يقرأ هذا، يفترض أن كثير منا إن لم يكن معظمنا يشعر ببعض القلق عادة قبل أن يذهب الي الاعتراف. إذا كان هذا هو السبب كنت شعرت به ملقى عن كتفي وعلى سبيل الواقع، ما كنت وجدته مشكلة كبيرة الى هذا الحد. المشكلة الحقيقية يمكن ان اقتفي اثرها إلى عندما كان عمري 6 أشهر.

المشكلة: ماذا يكون الشعور بوجود الأب؟
أتذكر شعورا غريبا انتابني من جهة اب اعترافي عندما كنت طفلا بين 6 و 7 سنوات من العمر. وأود أيضا أن اذكر أنه ما ان لاحظ اب اعترافي أنني اشعر بعدم الارتياح حتى قال لي شيئا كان صادما بالنسبة لي والتصق بي حياتي كلها. أنه لم يلتصق بي كفكرة في ذهني ... انما بقى عالقا بي بمثابة شوكة في قلبي. قال لي: "انظر اليّ كما لو كنت أبوك، لأنني سوف أحبك مثل أب يحب ابنه". بالطبع في براءة طفولتي، ابتسمت واومأت ببرأسي موافقا، ولكن بعد ما استقر ما قاله في ذهني وقلبي شعرت بالكثير من الارتباك كلما حاولت أن أجد معنى هذه العلاقة الأبوية. في تلك الليلة حفرت هذه الافكار عميقا فى ذهني ووضعت شوكة في قلبي ... في تلك الليلة شعرت ان عمري 100 سنة على الرغم من انني لا ازال ابدو للناس انني مجرد طفل.
مات والدي عندما كان عمري 6 أشهر لذلك ربيت من قبل مناضلة ونبعا فائضا من الحب والعطف، اعني والدتي. كان إخوة امي دائما حولي وكنت قريبا جدا لهم. وكانوا الشخصيات الوحيدة من الرجال في حياتي في ذلك الوقت، لذا في بحثي عن العلاقة بين الأب والابن سألت أمي إذا كان يمكن أن أدعو كل واحد منهم على حد سواء بلفظة "والدي"، ودون تردد كما لو أنها عرفت ان عاصفة من الأفكار والعواطف في ذهني وقلبي وافقت. لقد دعوت كل منهم "أبي" منذ ذلك الوقت. وتعلمت أن أحبهم أكثر من كونهم مجرد أعمامي، ولكن ثمة شيء كان لا يزال في مفقودا. كانت أمي تبلغ ال 22 من عمرها عندما تزوجت، وانجبتني، وتزوجت مرة اخرى عندما كان عمري 12.
المعرفة والادراك- أنا المشكلة والخطأ فيّ انا:
لم استطع التعامل مع الافكار المتدافعة داخل عقلي، ومرت ايام وانا اوجه أصابع الاتهام وإلقي اللوم على الجميع من حولي. ثم كان يوم عندما اخذت عاتب الله عتابا شديدا ، شعرت شعورا غريبا في داخلي. شعرت به انه كان دائما هناك بالقرب منيولا اراه، ادركت كم كنت اعمى. كما أدركت ما هو عليه من الحنان والحب الدافق. لم أشعر بنفسي الا وعيني مليئة بالدموع، سقطت على ركبتي، لأنني كنت ابنا يصرخ الى والده. أنا كان اعاتبه لأنه لم يسمح لي أن أشعر بمحبة الأب الجسدي ورعايته والذي في الواقع وفره لي بمقدار أكثر جدا مما يمكن أن يتصوره عقلي الصغير.

أنا الآن عمري 26 عاما ولم يمض وقت طويل حتي أدركت ان هذا الغضب الذي سمحت له أن ينمو داخل عقلي وقلبي. أدركت انني كنت مستهلكا بافكار ارضية. كنت انظر الي الأطفال الآخرين، والأصدقاء، والاحظ التفاعل بين الاطفال وآبائهم بينما كنت أعمى عن ان ارى ربي إلهي ومخلصي يسوع، أبي الذي في السموات الذي يقدم لي ليس فقط محبته ولكن كل بركة وكل شيء من خلال النعمة التي يحافظ بها على حياتي، هذه الحياة التي احبها الله بما يكفي لخلقها ورعايتها. كنت مشغولا جدا بإلقاء اللوم على الآخرين مما جعلني لا افكر وانظر إلى نفسي، وادرك أن المشكلة كانت فيّ.

أنا محبوب من الآب، لذلك أنا أحب:
الناس يسألوني دائما وحتى يسألون إخوتي الاصغر مني - غير الاشقاء - لماذا انتم متقاربين جدا، وكيف اصبحنا هكذا، ويذهب البعض لاكثر من هذا اذ يعتبرون ذلك امرا غريبا. لم أكن أعرف لماذا هذا حتى الآن. الفجوة العمرية بيني و أختي الصغيرة 10 سنوات وبيني واخي 15 سنة وهو ما يعني أنني عليّ العناية بهم. في بحثي عن الشعور بمحبة الاب، كنت اقدم لهم محبة دون وعي.
قد تسأل كيف يكون ذلك ممكنا؟ انه ببساطة، كما يقول الكتاب المقدس "نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولا" (1 يوحنا4: 19).
أنا لن أكذب وأقول إنني لم اعد اتساءل وحتى لم اعد اتوق لمعرفة كيف تكون العلاقة مع الأب الأرضي الذين أود أن الخروج معه، والمرح بجانبه ، وسماع نصائحه. هذا الجزء قد يكون مفقودا، ولكن لا أستطيع أن أقول ايضا انني لا أعرف ما هو شعور ان يكون لك أب، وان تكون محبوبا منه، وموضوع رعايته. أنا قانع وممتن وأنا أعلم أنه لن يزعجني ذلك الشعور مرة أخرى.

مقال مترجم

موضوعات متصلة:

10 ديسمبر 2014

فقراء.. ولكن


   ... حين طابت لباسيليوس المعيشة هناك فى الدير، رفض الرجوع الى امه و اخته، وارسل اليهما متوسلا ان يتركاه فى الدير ليكمل حياته فيه .

   لم تكن امه تتوقع انه لن يعود من تلك الزيارة، و لذلك سمحت له ان يرافق زملاءه الخمسة فى رحلتهم الى الدير، و اما هم فقد عادوا بعد ستة ايام، و اما هو فقد تشبث بالحياة هناك و امسك بقرون الدير.

  وكان سنه لا يتجاوز السادسة عشر حين ارسل لها يقول:

..."علمت انك تحبين القديسين و ترفضين مجد العالم و مظاهره وعلمت انك رغبت سابقا فى الالتحاق بدير القديسة يوستينا للراهبات حينما كنت لا تزالى صغيرة و لكن اسرتك الحت عليك و توسلت فقبلت الزواج ....

وعلمت انك شغوفة بسير الاوائل و جل اهتمامك ان اكون واحد منهم ...

فهلا سمحت لى ان احقق غايتى و امنيتك من قبل؟ ارجوكى و اتوسل اليكى و اقبل قدميكى لا تدعى رابطة الدم تحول دون سعادتى و سلامى" .

    وحالما وصلت اليها هذه الرسالة صرخ نداء العاطفة داخلها و صرعها فقامت لفورها تسعى الى الدير فى نفر قليل من العائلة..

    وفى الطريق احتاج الامر الى المبيت... و حدث فى تلك الليلة ان رأت ولدها قابعا فى حضن شيخ مهيب وقور تبدو عليه سيماء القوة والاتضاع معاً، عرفت فيه القديس ثيؤدوسيوس شفيع الدير المذكور ورأت كلاهما فرحين وسمعتهما يرددان لحناً تعرفه هى جيداً ثم رأت سيدة تحاول أن تنتزع ولدها من بين يدى الشيخ، والشيخ بدوره يتوسل إليها أن تتركه.

   واستيقظت من النوم، وبدت ساهمة طوال اليوم، ما عسى أن يكون هذا الذى رأت؟!

   عندما وصل الركب إلى الدير علم ابنها، فهرب الى المغارة التى كان يسكنها قبلاً البار أبوللو، ولم يرد أن يقابلها لكن أب الدير نصحه بالحضور، وقد كان له فى ذلك غاية. وهى أن يعرف مدى محبة باسيليوس للدير، وإصراره على الحياة فيه وقدرته على ضبط عواطفه.

   وحالما رأته أمه جرت نحوه كالمجنونة وإتفجرت باكية تحتضنه وتغمغم بكلمات غير واضحة، وأما هو فقد كان ناظراً لأعلى متماسكاً رزيناً، ثم انسحب برفق من قبضتها وأخذها وأجلسها إلى جواره وتركها دقائق ريثما تكفكف دموعها. وأما هى فأردفت تقول:

 - هل هُنّا عليك بهذة البساطة..؟

 - لا يا أمى فمحبتكم ما تزال فى قلبى ثابتة.

  - فلماذا تركتنا ونحن أحوج ما نكون لك فى هذه الأيام، ألعلى ضايقتك فى شئ؟

  - أبداً يا أمي.. وأنا أثق فى أن اللـه معك وهو يعولنا جميعاً.

  - (وقد لانت قليلاً) ما رأيك فى أن تأتى معنا، وسأتركك حالما تتزوج أختك!

  - بارك اللـه فى أفراد العائلة

  هنا وتدخلت إبنتها لتقول فى وداعة: لا تلقى بالاً إلىّ يا أمى فسعادة أخى أمر يهمنا أيضاً، وأرى أنه من الأنانية أن نسعى لراحتنا فقط.

  ثم تدخل الرفاق أيضاً ليثنوا باسيلى عن رغبته، ولكنه بوداعته وحجته جعلهم يتراجعون..

  وعادت الأم لتبكى قائلة: إذاً تعالى امكث معى حتى أموت وتدفننى ثم بعد ذلك إفعل ما يحلو لك!

   واختجلت المشاعر فى داخل باسيلى ولكنه ضبط نفسه وكظم الألم النفسى فى داخله، وصمت قليلاً حتى يستعيد شجاعته وهدوئه ثم قال: (ربنا يطول لنا فى عمرك) وعادت لتبكى وتقرع صدرها وتقول: لن أغادر هذا المكان إلا وأنت معى..

   فابتسم باسيلى قائلاً:

   إذاً إبقى معنا!

   وهنا دخل الأب أغسطينوس ليستأذنهم فى أن يتركهم باسيلى قليلاً.

   وإلى أن حلّ المساء لم يكن باسيلى قد عاد لهم.. وأما هم فاستعدوا للنوم، وعادت الأم ترى فى نومها نفس المشهد الذى رأته فى الطريق إلى الدير، نفس الشيخ ونفس السيدة التى تحاول أن تنتزع ابنها من بين يديه.

   ولست أعلم ما حدث بالضبط.. إذ عندما استيقظت باكراً، أيقظت أفراد المجموعة وحثتهم على

مغادرة الدير. وفيما هم يجمعون متاعهم كانت هى قد أخذت ورقة وقلماً وراحت تكتب:

  "ولدى وقرّة عينى:

  نزلت على رغبتك وكأنى تركت قلبى هنا ودمى، لا عن رضى ولكن رغماً عنى، وقسر إرادتى، ومنذ الآن لن تكون لى خصومة مع اللـه.. ولكن خصومتى ستكون مع نفسى، فإذا حققت مرادك من المجئ إلى هنا، فقد أثلجت قلبى حية وأرحت عظامى فى قبرى، تركت قلبى عندكم.. وتركت أنت ذكراك لى، سأجاهد ما بقى لى، حتى أقدمك ذبيحة عقلية للمسيح، فإن أنا مت فلى رجاء: أن تذكرنى فى كل ترحيم بالقداس الإلهى..

  الرب أعطى والرب أخذ ليكن اسم الرب مباركاً..

                                                                                        " المسكينة أمك" 
   وفى ركن من القلاية وقف باسيلى مدمع العينين وهو يمزق رسالة فى يده، وقد بقى شارد الذهن لبضعة أيام قبل أن ينسى ما حدث، وينظر إلى الأمام.
  كان الأب مرقس - وهو الأب الروحى للدير - قد تجاوز الأربعين من عمره حين تبنى باسيلى منذ أن دخل إلى الدير، واعتبر أنه لازال عجينة طيعة يمكنه تشكيلها حسبما يريد، فابتدأ معه منذ البداية ينصحه ويرشده ويساعده فى اقتناء الفضائل، يركز على فضيلة المحبة مثلاً خلال السنوات الثلاث الأولى.. ثم الاتضاع ثم..  
  وأخذ على عاتقه أن يراقبه عن كثب ويوجهه أولاً بأول، ويعلمه كيف يواجه الأفكار وكيف يتخلص من هجمات الشيطان. ثم كيف يخطب ود ومحبة من حوله. 
وتتعجب.. كيف بسهولة ويسر قد صار خادماً للكل، ويجد سعادة كبيرة فى مساعدة الآخرين وكيف كان يجول يصنع خيراً.

   وأما دراسته للأسفار فقد جعلها سراً لا يعرفه من حوله كذلك فقد حفظ بعض الأسفار عن ظهر قلب.. ولكن أكثر ما برع فيه هو أقوال الآباء وسيرهم، وكان سيل منها يتدفق عبر فمه على الدوام.. كذلك كانت له علاقات قوية ببعض القديسين.

   ومرت سنوات وسنوات، وباسيليوس فرح بحياته فى الدير ينمو باطراد يوماً بعد يوم حتى لقد كانوا يسمونه "عروس الدير".

   ولكنه على أية حال لم يسلم من التجارب والاهانات تلك التى يسمونها إكليل الراهب. فى البداية كان يتضايق من الداخل، دون أن يظهر شيئاً من ضيقه لمن حوله.. كانت الآية الذهبية التى تداعب شفتيه على الدوام "طلبت وجهك - وجهك يارب أنا التمس".

  ولكنه اعتاد مع الوقت ألا يتأثر من الخارج أو من الداخل بل صار يتقبل كل ما يحدث بهدوء وبساطة..

  حدث ذات يوم أنه نسى أن يمر على قلاية أحد الآباء ليعطيه نصيبه من الفاكهة، فقابله فى اليوم التالى، ووبخه بشدة واتهمه بالتقصير وبأنه مرائى ومخادع وكذّاب.. فصنع له الأب باسيليوس مطانية.. وأما الآخر فقد استخف به! فعاد إلى قلايته يبكى وهو يصلى ويقول:

"اغفر لى يا رب فقد أعثرت أخى، واضطررته للوقوع فى الخطأ.. اقبل توبتى، وليقبل هو الآخر توبتى".

  وكان يقول لنفسه أيضاً فى مثل هذه الظروف.. "لو كنت صالحاً لما تضايق منى (فلان) ولو كنت حكيماً لتصرفت على نحو أفضل.."

  حدث أيضاً أن كلّفه رئيس الدير ذات مرة، بإحضار بعض الخوص من مكان به نخل كثير يبعد عن الدير حوالى كيلو مترين، وحدث عند عودته وكان ليلاً أن هاجمه أثنان من اللصوص وهجما عليه وأوسعاه ضرباً، آملين أن يأخذوا ما ظنا أنه يخفيه بين طيات ملابسه - ولكنهم عادوا فتركوه والدم ينزف من بعض أجزاء من جسمه..

   وأما هو فأخذ طريقه إلى الدير فى بطء حاملاً حزمة الخوص. وقد لازم الفراش ثلاثة أيام قبل أن يستعيد قوته.

   وعاش سعيداً.. فى ملء التعزية وسلام القلب، يشعر أن يومه أفضل من الأمس وغده سيصير أفضل من يومه واقترح عليه الأب مرقس - أبوه الروحى - أن يدخلا معاً مرحلة أخرى من الجهاد، فاتفق معه على أن يتصور الأب باسيليوس نفسه وقد ألمّت به بعض التجارب الجسدية.. من ذلك أن يتصرف على اعتبار أنه أعمى!

  فكان يختار بعض الأوقات التى تخلو فيها بعض الممرات والسلالم من الحركة ومن الآباء.. ثم يمشى بها كأنه فاقد البصر، ويستعمل فى ذلك عصا ترشده، كذلك كان يتدرب فى قلايته على أن يأكل وهو مغمض العينين .. ويصلي كلك ويقضي بعض أموره..

    وجدير بالذكر ان أحد الآباء في ذلك الدير قد فقد بصره نتيجة ندرة الطعام..
   ومن  هنا عكف الأب باسيليوس على حفظ أجزاء أكثر من الكتاب المقدس و المزامير والتسبحة وأقوال الآباء يتلوها عن ظهر قلب.
   وتخيل أيضا أنه أعرج .. وجرب أن يمشي بعصا يتوكأ عليها, وتعلم من ذلك أن يسير بهدوء بعد أن كان قد حاول مراراً ولم يستطع إذ كانت حمية الشباب تجعله يمشي بنشاط زائد.. وهكذا جرب أن يشارك المعوقين حياتهم بالنية .. وصار مستعداً لأي تجربة يسمح له الله بها..  
        ومر باسيليوس على كل اعمال الدير تقريباً , أخذ بركتها و بذل مجهوداً كبيراً في كل موضع.. فقد عمل (بالمجمع) لفترة تزيد على السنتين .. لم يكتفي خلالها بتجهيز طعام الآباء والضيوف و العمال فحسب , وإنما أهتم بصفة خاصة بالشيوخ و المرضى, كان يعرف أنهم يحتاجون إلى أنواع معينة من الطعام وطرق خاصة في تجهيزه..
   وكان يمكنك في تلك الفترة أن تراه وهو يحمل طبقاً إلى قلاية هذا.. وخبزاً إلى ذاك.. وينتظر ثالث حتى يأكل..
   كان أسعد ما يكون عندما يطلب إليه أحد الآباء شيئاً خاصاً , ثم يدعو له بالبركة.. والأبدية .. ولذلك أعتاد أن يعمل كل يوم حتى آخر النهار, وبين حين و آخر كان يتسلل إلى قالايته يصلي تارة و يقرأ تارة..
   كذلك عندما عمل في المخبز .. وفي مزارع الدير . زاشتهر ببشاشته وحكمته في إستقبال زائري الدير، ولباقته في صرف الذين لا يستطيع الدير إستقبالهم واستضافتهم , لقد كان صورة مشرفة للدير، ومثلاً حياً للمسيح المنظور، وكما إعتاد الزائرون السؤال عنه, إعتاد هو أيضاً الهرب من الضيوف, عندما أسند إليه الدير عملاً آخر لا يتعلق بالزوار.
    كان نشيطاً محبوب، غيوراً, أحب التسبحة وعشقها. وأحب أن يكون أول الحاضرين في الكنيسة بعد دق الناقوس, وفي محبته للكنيسة استأذن الأب الكنائسي في أن يدخل في الخفاء لينظف الهياكل, ويزيل بقايا الشمع ويرتب الكتب ويمسح الأيقونات, ويسرج القناديل,كما إعتاد مساء كل يوم أن يمضي إلى الكنيسة ليتبارك من جسدي القديس ثيدوسيوس والقديس بارثلماوس الشهيد , والمرور أيضاً على الأيقونات لتقبيلها.
    وروى عنه الأب مرقس, فقال أنه كان يخصص وقتاً في كل يوم ليصلي فيه لأجل العالم ... لأجل الحروب و الزلازل و المجاعات .. ومن أجل المسجونين و المرضى و الفقراء, والذين في الضيقات, وكان يشعر أنها مسئولية يجب أن يحملها على كاهله وأن يكون أميناً فيها..

-2-
   وإزاء هذا النمو المطرد في حياة هذا الأب والظهورات الكثيرة التي كان يتمتع بها، والقامة التي وصل إليها .. بدأ الأب مرقس يخشى عليه, فإستدعاه ذات يوم ليقول له:
  حياتك الروحية في خطر , ويلزم لإنقاذها أن تحتمل ما أشير به عليك.
   فأنحنى الأب باسيليوس خاضعاً منصتاً و قال: سوف أطيع صوت الله على لسانك يا أبي .. فقداستك علّمني سابقاً أن الطاعة تخليني مسئولية الطريق.
   قال الأب مرقس: إذاً أنصت إليّ جيداً.
   كان الأمر بالنسبة للأب باسيليوس مفاجأة غير متوقعة وتجربة لم يمر بها شخص من قبله، ولكنه قبل دون تردد واستعد للقيام بالمهمة.
    فقد كان عليه أن يترك الدير ويتجه  نحو إحدى المدن متخفياً في صورة إنسان عادي كباقي الناس ،يبحث عن عمل و الجدير بالذكر أن الرهبان في ذلك الوقت لم يكونوا يرتدون ثياباً مميزة،بل كانوا يظهرون في أية ثياب , كما كانت عادة إطلاق اللحى منتشرة بين العامة من الناس في ذلك الوقت أيضاً.
    كانت هذه هي المرة الأولى التي يترك فيها الدير .. فقد عاش فيه مدة ثلاثة وعشرين عاماً لم يغادره مرة واحدة ..
    ولذلك بهرته الأضواء والزحام والحركة الدائبة والأصوات الصاخبة غير المنقطعة في مدينة ماتيان.
    في اليوم الأول وقد كان متعباً من طول السفر, جلس بجوار بحيرة صغيرة ريثما يستريح .. ثم غافله الوقت فإذا بالليل يرخي سدوله .. فمد الأب باسيليوس يده إلى الصرّة الصغيرة التي حملها معه من الدير فأخرج شيئاً يشبه السجادة وآخر يستعمل كغطاء .. كان كلاهما مرتقاً لكنهما نظيفان.
     وبعد أن قدم صلاة ورشم ذاته بعلامة الصليب ورشم كل الجهات من حوله استسلم للنوم, وتعجب عندما أستيقظ ووجد كل شيء على غير ما ألف.. ولكنه عاد و تذكر أنه في المدينة و ليس في الدير.
    وعند الظهر وجد ذاته مهدداً بالملل والضجر, فتمشى قليلاً يجمع بعض الليف والخوص ثم إختار شجرة باسقة نقل إليها صرتّه الصغيرة , وإختارها مكاناً يعيش تحته .. وابتدأ في عمل الخوص و ضفر الحبال.
     وكان المسافرون المتجهون إلى سوق ماتيان يمرون به في ذهابهم وإيابهم, ولكن لم يلتفت إليه أحد. وفرغ الخبز الي معه واضطر أن يزحف قليلاً إلى الطريق خلال النهار لكي يبيع عمل يديه للمارة.
...  وفي أحد بيوت البسطاء في القرية دار حديث بين رجل وزوجته, وقالت زوجته:
    
هذا أمر يرجع إليك, فإذا أحببت أن تأتي به ليعيش معنا فليكن ما تريد.
    
أجاب العجوز بطرس:
    لقد أنّت عليه أحشائي، وخفق له قلبي، فمنذ عشرة أيام وأنا أراه جالساً تحت الشجرة صامتاً هادئاً لا يكلم أحداً.
-أما عرفت أسمه؟
 -  وكيف لي ذلك.
   -إذاً دعه يأكل من جفنتنا ويشرب من كوزنا وينام تحت السقف الذي وهبنا الله أن نأوى تحته.
  وفي اليوم التالي مر بطرس بالأب باسيليوس، ووجده كعادته يعبث في بعض الليف وبجانبه قطعة حبل.
-         كيف حالك يا أخي؟
-     أنا بخير أشكر الله.
 -  سامحني فأين تنام ومما تأكل؟
   - إن الله لا يضيع ما خلق ولا ينسى خليقته.
   - فأين الغرض؟
  - الله هو غرضي وهو مقصدي وما طلبت في حياتي غير وجهه ..
 - هلا أتيت معي إلى بيتي والذي يعول الجميع يعولنا ويسترنا؟
    - ولكني سعيد على أي حال.
     - فإذا كان الأمر عندك واحداً فلتأت معي , فليس هناك غير زوجتي العجوز، ونحن نعيش وحدنا في منزلنا المتواضع, فإذا وافقت على المجيء معي, فقد أضفيت على حياتنا السعادة, وأفسحت لنا المجال لنخدم القديسين.
- أخشى أن أثقل عليكما بوجودي , فإذا ابتغيتما راحتي فاتركاني ههنا , وإذا ألحّت عليكما فضيلة العطاء, فإن خبزة واحدة تكفيني كل يوم

   - أتوسل إليك، لا تردّنى ولا تكسر قلبى، قد كنت طوال الطريق إليك أمنى نفسى بهذه الأمنية، وقد صرفت حياتى فى التوانى والكسل وأريد أن يهبنى الله بركة بوجودك معنا..

 - أرجوك.. سأكون مستريحا إذا ما تركتنى فى موضعى.

 - إذا ما رأيك فى حل وسط .. ألا وهو أن نصنع لك كوخا من الطوب اللبن تعيش فيه؟

 - لا مانع من ذلك والرب يكافئكم عن محبتكم ..

   حينئذ بدأ العم بطرس فى إعداد الكوخ.. وصار جاهزا للسكنى بعد أسبوع واحد.

     فى اليوم الأول لخروجه من كوخه، مضى يتجول فى شوارع المدينة كأنه يبحث عن شئ ما، فما لبث أن سمع شخصا يناديه باسمه والتفت ليعرف مصدر الصوت فإذا به إثنان يحمل كل منهما قفة فى يده وطلبا إليه أن يتبعهما . فمشى خلفهما دون أن يعرف وجهتهما.. إلى أن أشارا إليه نحو الكنيسة ثم قال له أحدهما " تشدد و تشجع.. وكن جبار بأس .. وسترى كم سيصنع الله معك وبك .. وإذا احتجت يوما إلى الخبز.. فتعالى إلى هذه الطاقة ( وهنا اشارا إلى طاقة فى جدار امامهما) ثم اختفيا من أمامه.

    وأما هو فقد أخذ منه العجب مأخذا كبيرا .. وصار يفكر فيما عسى أن يكونا هذان الغريبان.. ولكنه على أية حال دخل إلى الكنيسة يصلى..

    وكان القداس قد أوشك على الأنتهاء.. فانسل إلى الداخل حيث وقف خلف أحد الأعمدة وراح يصلى فى نهم وسرور وظل فترة طويلة يصلى قبل أن جاء إليه خادم الكنيسة يسأله الخروج لكى يغلق الباب.. وأطاع.. بعد أن سأل عن مواعيد القداسات..

    وحدث عند عودته إلى مكانه أن شاهد اثنان من الشبان يقذف إحداهما الأخر بكلمات رديئه. ثم مالبثا أن  هجم الأول على الثانى وأوسعه ضربا.. فراعه المنظر ولم يصدق عينيه وتعجب من نقص المحبة بين الناس، انها المرة التى يجد فيها اثنين يحاول أحدهما التخلص من الأخر أو الانتقام منه. وحاول أن يتجه نحوهما.. ولكن سيدة فاضلة أسرعت إليه تنصحه بالابتعاد وتنهاه عن التدخل لئلا يلحقه أذاهما. بكى.. وبكى وتأثر وقضى بقية يومه ينتحب ويفكر فيما رآه.. وحاول أن يطرد المشهد من مخيلته ولكنه أخفق، وعاد ليفكر فى الفرق الشاسع بين الحياة فى الدير والحياة فى العالم. أنه عالم مفتوح على غير ماكان يتوقع ، كل شئ فيه: مباح الضرب والسرقة والاتهامات والشتائم ..

    وتذكر حينئذ ماحدث منذ عامين وهو لايزال بالدير ، كيف أن الأب أورانيوس أتهم الأب يوئيل بالإهمال! وكيف أسرع الأخر ساجدا نحو الأرض إلى أخيه طالبا العفو والنصح ، وكان صادقا فى إعتذاره وفى طلبه. وفليمون العجوز المحبوب الذى لم يكن فاه يفتر عن التشجيع والاشادة بفضل كل احد .

   (انها بلا شك نقص محبة) هكذا حدث الأب باسيليوس نفسه وأحزنته افكاره فى تلك الليلة.. كيف سيواصل الحياة فى هذا العالم.. بعد أن ترك الفردوس (الدير).. إنه يخشى أن تتدنس أفكاره وتخور عزيمته، ويفقد العين البسيطة ونقاوتها.

    ولكنه عاد ليذكر نفسه : إنه لابد أن يحيا فى الطاعه وأن حياته ومستقبله هما وديعة بين يدى الله.

    وقام ليسجد مصليا:

    " ليس لى رغبة غيرك يارب.. طلبت وجهك، وجهك يارب أنا ألتمس، نعم ليس لى أية أهداف أخرى.."

    ومنذ ذلك الوقت كتب هذه الأية وعلقها على إحدى حوائط الكوخ "طلبت وجهك ووجهك يارب أنا ألتمس". وأعتاد الذهاب إلى الكنيسة باكر يوم الأحد والأربعاء والجمعة، دون أن يختلط بأحد أو يتعرف على أحد .. كان يصلى هناك القداس الإلهى .. وينطلق بعدها إلى تجواله..

   ولاحظ فى أحد الأيام بينما كان مستندا إلى عاموده أثناء القداس- رجلا طاعنا فى السن ، واقفا بجوار الحائط وقد حمل فى يده زجاجة بها صليب، ينظر إليها ويبكى طوال القداس الإلهى.. وراقبه الأب باسيليوس بعد إنتهاء القداس الإلهى فوجده قد دخل فى صمت إلى الهيكل ليتناول من الأسرار المقدسة ثم يخرج إلي الخارج .. ويختفى قبل أن يزدحم ممر الكنيسة بالخارجين..

   وعاد ليبكت نفسه إنه لم يصل بعد إلى إنسحاق هذا الرجل وخشوعه رغم أنه يحيا فى هذا العالم المزعج ..

    ومرت ثلاث أو أربع سنوات، والأمور تسير بطريقة رتيبة دون أن يكتشف أحد امره..

    وإذا احتاج يوما ما إلى طعام مضى إلى الطاقة التى أشار إليها الغريبان قبلا فوجد هناك خبزا طازجا.. على الرغم من انه يذهب إلى هناك بطريقة (عشوائية) أى مرة كل فترة طويلة...

    وكان الأب مرقس يراسله بطريقة ( شفرية) .. وقد أتى لزيارته بنفسه فى صيف 1827م وفرح هو بتلك الزيارة وكذلك الأب مرقس وجلسا يتحدثان طوال الليل، وشكى له نفسه وشكى له الشيطان الذى يتربص به، وشجعه ابوه وحثه على الأستمرار وصلى له وأعطاه حلا....

وعندما حل موعد الأب باسيليوس مع التسبحة وهما لا يزالان يتحدثان عن عمل الله فى حياتهما، قاما ليصليا صلاه نصف الليل ثم أعقباها بالتسبحة فصلاة باكر فذكصولوجيه باكر- حيث أستأذن الأب مرقس فى الانصراف .. بينما اتجه باسيليوس الى الكنيسة - وشكر الله ضابط الكل أنه ضبط نفسه ولم يسأل عن أخوته فى الدير وعن أحوال الدير ..

   ويذكر انه شاهد ذات مرة شابا لم يتجاوز الثامنة عشر من عمره جالسا يبكى على قارعة الطريق، فلم يتمالك نفسه بل أسرع نحوه وهدّأ من روعه، ثم عرف منه أنه يعمل لدى أحد الموسرين وقد سلمه فى ذلك اليوم خاتما ثمينا ليوصله إلى إلى صديق له. ولكن لصوصا تعقبوه وانفردوا به فى مكان خال حيث ضربوه ضربا مبرحا ثم أخذوا منه الخاتم وتركوه يعانى من الذعر والألم.

   وأخبره الشاب أنه خائف من سيده وجبروته وسطوته، وعاد الأب باسيليوس ليطمئنه بأنه سوف يساعده وأكد له أن الله لن يتخلى عنه لأنه يحبه، ثم طلب إليه أن يصف له مكان التاجر ويجلس هو فى انتظاره حتى يرجع إليه..

   فوجئ السيد انطونيو بشخص فى حوالى الخامسة والأربعين يدخل إلى حانوته الكائن فى حى (بقراطيوس) فقام ليحييه ويدعوه للجلوس فشكر له الأب باسيليوس لطفه ثم قال:

   أنا أقصدك فى خدمة .. وإن كنت لا تعرفنى.

   قال التاجر: تحت أمرك.

   قال: عفوا، فنحن جميعا بيد الله ، علمت أن لك شابا يعمل معك.

- ألعلك تقصد فرانس؟

    - نعم ياسيدى.. فقد قابلته اليوم ووجدته يبكى متأثرا لأن لصوصا..

   - هنا وأنقلبت سحنة الرجل ، فبرقت عيناه واستقامت أذناه وتطاير الشرر من عينيه..

    "ماذا حدث، اسرع فى الكلام هكذا صرخ فى وجهه فهدأ الأب باسيليوس من روعه وقال  له:

    ألا تؤمن أن حياتك وكل مقتنياتك هما وديعة بين يدى الله؟

    - نعم.

    - وهل تشك فى أن الله قادر أن يعوضك عنه بأكثر.

    - لا أشك.

     - وهل لو كنت مكان فرانس لنجوت من اللصوص.

- قال (وقد هدأ قليلاً وعاد ليجلس) لا أدري.

- أليست كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الرب.

- نعم نعم ،ولكن أخبرني ما شأنك أنت في هذا الأمر.

- الحقيقة أنني رثيت له, وهو خائف من المجيء إليك.

- هل تعرفه ؟

- كلا، ولكن قلبي رق له عندما وجدته باكياً متألماً.

 -والآن !

- أريد أن أتعهد أمامك الآن بأن أسدد لك ثمنه على فترات, أي كلما توفر لدي أي مبلغ آتي به إليك.

- موافق, لكن ألا يأتي هو لأقف منه على ما حدث بنفسي؟

- نعم... فقط عدني بأنك لن تؤنبه أو تعنفه.

- كلا، كلا، فإن محبة الذي لم يخطئ تشفع فيمن يخطئ.

- إذن سأحضره معي الآن.

وجاء فرانس خجلا ، وكانت المفاجأة أن قام السيد انطونيو من مكانه واحتضن فرانس وقبله بحنو ومحبة أبكته.

    واعتاد الأب باسيليوس على توفير بعض المال من عمل يديه ليسلمه لفرانس وهو بدوره يسلمه للتاجر وذلك في كل سبت.. حتى جاء يوم قال فيه التاجر للأب باسيليوس:
هذه هي آخر دفعة من ثمن الخاتم , و أومأ إلى فرانس فخرج.... ثم قال اجلس الآن لأن هناك شئ أود أن أعطيك إياه . ثم أخرج من الخزينة صرة بها كل المبلغ الذي دفعه على مدى ثلاثة عشر شهراً وأرفق الصرة بورقة كتب بها:

)    محبتك أذابت قساوتي واتضاعك أخجلني، إخلاصك حرك جنين الوفاء والتسامح داخلي، فإذا وجد في " ماتيان " اثنان آخران على شاكلتك , نجت المدينة من الدمار، وابتهج قلب الله بها.( ثم قام انطونيو ليودعه ويرجوه ألا ينقطع عن المجيء في كل سبت كعادته.

   واعتاد أن يذهب إليه كل سبت لا ليدفع القسط الأسبوعي وإنما ليتسلم منه المبلغ الذي كان يدفعه هو قبلاً.. وخصصه الأب باسيليوس للإنفاق سراً على بعض اليتامى الذين عرف أماكنهم.

وإذا أحببت أن أوفر عليك الوقت وأعفيك من الملل: قلت لك في اختصار أن التاجر وخادمه صارا من محبي الكنيسة والقديسين واشتهرا بعمل الصلاح في كل مدينة.
    وعادت الأفكار لتهاجم الأب باسيليوس وتحاصره . فأحيانا يفكر في أمه وأخته وأين هما وكيف آل مصيرهما فقد رآهما لآخر مرة حين كان يرافقهما زوج أخته وأولاده...
    وإخوته الرهبان في الدير و وماذا يحسبانه الآن ثم أبوه الأب مرقس الذي لم يره منذ سنوات ألعله انتقل ؟

    وماذا عن تدبيره ؟

    صحيح أنه لا يزال يلبس منطقته تحت ثيابه ويتمم تدبيره كاملا في الصلاة والتأمل والقراءة.

    ثم استطرد شارداً....

    وماذا عن الثعبان الذي وطأته بقدمى أمس ... ماذا لو كان قد لدغني ؟ لقد كان ملفوفا على هيئة ( قرص) ؟! لابأس....إذا كان هنا من أجل بنياني وخلاصي لابأس ...لا بأس...

    يجب على أن أشهد للمسيح في أي مكان ويتمجد الله بي ومقابل هذا لا أذكر أن الله كان يرسل لي العضد في الوقت المناسب.

    ولن أنس ذلك اليوم المظلم المشئوم , حيث اتهمتني امرأة بأنني فاسد ... وجرني الناس إلى محفل الشرطة،وهنال أوسعوني ضرباً وركلاً وسخرية،وقضيت ليلتين قاسيت فيهما المر والمذلة.

    وأصعب من ذلك: عندما سألوني عن اسمي وعملي و أين أسكن وأين أسرتي ؟!
    ولكني أحمل لذلك اليوم الفضل الكبير، في أنه جعلني أشارك الآخرين في آلامهم وأحس أنني عضو في الجسد الكبير جسد المسيح ( الكنيسة).

    لابأس ...لابأس هكذا طيب خاطره !

    وقام ليغسل بعض الخيار والطماطم الذي اشتراها في صباح ذلك اليوم , ثم بل الخبز وجلس ليأكل كعادته عند الساعة الثالثة بعد الظهر .

    وإذا بفتى صغير يبلغه بأن العم بطرس يدعوه للحضور إلى بيته على وجه السرعة , فقام لوقته ومضى إلى هناك ... ودفع باب حجرة بطرس في هدوء ودلف إلى الداخل حيث وجده راقداً على فراشه يعالج سكرات الموت، فمكث إلى جواره عصر ذلك اليوم يطببه ويشجعه ويصلي معه , وقد ناداه الله عند الغروب .

    فكان على الأب باسيليوس أن يترك الكوخ باعتباره أحد ممتلكات المتنيّح... وخشى من خجله من أقارب الميت وخشى أيضا من خجلهم منه , فخرج في هدوء حاملاً نفس الصرّة ! فهي كل ما يملك من حطام الدنيا.

    وظل المسكين يجوب شوارع المدينة وطرقاتها، وينام في العراء يقاسي قرصات البرد ولم يكفه الغطاء الذي كان يستره داخل الكوخ , لا سيما وأنه تقدم في الأيام , ولم يحتمل جسده المنهك نهش البرد , فخر صريعاً يعاني من آلام النزلة الشعبية...
     ومن يعرفه ؟! وقد ترك المدينة إلى المدينة إلى مدينة أخرى , ومن أين ينفق على علاجه وهو الذي اعتاد التصدق بكل ما يصل إلى يده ؟ ثم إن الخبزات القليلة التي في حوزته أوشكت على النفاذ.... يا رب.... صرت لي ملجأ , خرجت لأجلك, ولأجلك احتمل العرى والجوع والمرض ... هكذا صلى....

    وفرغ الخبز وبقى صائماً بعدها ثلاثة أيام متتالية , وأحس أنه في مواجهة مع الموت , ولكن الله وضع في قلب صبي صغير في الثامنة من عمره أن يميل إليه يسأله عما به...

    فقال في وهن شديد: أريد خبزاً وماءاً .

    وبسرعة جرى الصغير نحو بينه , وأحضر له بعض الخبز، ونصف برتقالة وكوز ماء , ثم جلس إلى جواره يطعمه ويسقيه , ثم لمعت في ذهن الصبي فكرة وهو جالس: لماذا لا يحضر بعض الأغصان ويصنع له كوخاً؟ وبالفعل قام وجمع بعض الأغصان وبدأ في اليوم الثاني في تثبيتها بطريقة عمودية في الأرض ليصنع منها كوخاً صغيراً , ثم جعل لها سقفاً وجوانباً من الخوص والحبال , ثم جمع في داخلها بعض القش , فرش فوقه بعض من ثيابه القديمة.

    وبعد أن انتهى في اليوم الثالث من إعداد الكوخ ، كان الأب باسيليوس قد تماثل للشفاء , فقام متباطئاً ومتأبطاً ذراع الصبي , ودخل معه إلى الكوخ وكأنه إلى قصر منيف بفراش وثير وشكر الصبي بعينيه الواهنتين فقط .

    وأحب الصبي الأب باسيليوس جداً , وكان يقضى معه كل يوم بضع ساعات , يقتطع بعضاً من أكله ليحضره له في كل يوم , ولاحظت أسرته ذلك وسألوه, فروى لهم قصة هذا الغريب معه , فجاءوا لزيارته وسرهم ذلك جداً ورجوه أن يحضر معهم ولكنه اعتذر بأنه مستريح في هذا القصر الصغير المتواضع ....

    وذهب الصبي ذات يوم ليخبر كاهن كنيستهم , فأتى وصلى وعلى الأب باسيليوس ورشمه بالزيت وطلب إليه أن يراه في الكنيسة ، ووعده الأب خيراً .
    واعتاد الصبي أن يجلس إلى جوار الأب باسيليوس يستمتع إلى قصصه وأحاديثه ،وهو لا يشبع منها وهو بدوره اعتاد أن يقصها على أصدقائه، الذين كان يأتى ببعضهم بين الحين و الآخر الأب باسيليوس.

    وحدث يوما ان نصح الأب, الصبى بالرجوع حالا الى بيته لأن والده محتاج إليه, وبالفعل عاد ليجد ذاك يبحث عنه, ومرة أخرى أرسل الصبى إلى بيت وصفه له. على الرغم من انه لم يدخل الشارع الموجود فيه ذلك البيت من قبل. قال له: اذهب إلى الدور العلوى واطرق الباب, فإذا فتحت لك السيدة التى هناك فقل لها أن تطفئ النار على السطح.

    ومضت السيدة مسرعة نحو السطح لتجد ناراً قد بدأت تسرى فى بعض القش, فأطفأتها على الفور, وكان ممكنا لهذه النيران أن تشتعل و تنتقل فى سرعة شديدة الى باقى السطوح المعدّة من الخشب و الحديد, ومكدس فوقها أكوام الحطب و البوص.

   وعادت فى سرعة لتبحث عن الصبى, تسأله كيف عرف ذلك و من أرسله, ولكنه كان قد عاد إلى معلمه يطمئنه بأنه قد أبلغ الرسالة.

   وفى ذات يوم رأى أربعة رهبان يسيرون تجاه كوخه, وجرى نحوهم يسلم عليهم ويتبارك بهم , ووكاد يصرخ عندما عرف فيهم الآباء: لوقا ولونجينوس وبسطوروس و يوحنا, قبّل يديهم مراراً وكلب منهم أن يصلوا عنه, و اما هم فلم يعرفوه.

   ودخل الأب باسيليوس فى صراع نفسى رهيب فى ذلك اليوم: فكر كيف حرم من الدير و من اخوته و كيف شرّد هكذا فى أماكن لا يعرفه فيها احد... تذكر قلايته ووجوه الآباء فى الدير.. ومرافق الدير التى كان يتردد عليها..

   وتذكر الراهب يوليان, وبكى بحرارة..., كان الحبيب إلى قلبه.. وابن سرّه, وكيف كان عندما يمرض يجلس بجانبه يعيده ويسأل عنه ويصنع له طعامه وشرابه.

   وما الداعى لكل هذه (المرطمة)؟ أهذه نتيجة الطاعة ولماذا اختار أبى هذه الطريقة؟! أما كان من بديل آخر؟ أكان يستطيع أن يسلك هو هذا المسلك الذى سلكته أنا؟ وهب أنه خاف علىّ من السبح الباطل, وأراد أن يجعلنى اعيش فى الطاعة.. وأذوق طعم الغربة الحقيقية أما كان هناك من بديل؟

   نعم قال لى وقتها: إن الغربة الحقيقية هى أن تعيش وسط اناس لا تعرفهم و لا يعرفونك, وتحتاج إلى أن نطعم نفسك و تشترى ثيلبك وتبنى كوخك و أما فى الدير فهناك معزون كثيرون وخيرات كثيرة.

  آه...

  ولكنى تعثرت كثيرا وصغرت نفسى كثيرا.. كيف كان شكلى و أنا فى محفل الشرطة, وامرأة تقذفنى باتهامات سمعت عنها فقط فى قصص حروب الآباء

  وفيما هو على هذه الحالة سمع وقع خطوات بالقرب من الكوخ وانتبه, ولطم خده مؤنبا نفسه على تذمره وانسياقه لحيل المحتال.

  واجتاز مقابله قافلة من الرجال, وتجاوزوه.

  وعادت الافكار لتطرق رأسه فى عناد و اسبسال..

  وماذا إذا مت الآن؟ فأين ادفن و من يكفنى؟

  لا بأس.. هذا لا يهم فالتراب سيعود الى التراب..

   لا..لا..

   أقوم الآن وأعود إلى الدير.

   الدير.. الدير.

   ولكن الطاعة.. و الأمانة..

   وماذا فى الدير..

   الآباء.. القلاية.. الكنيسة..

   لا بأس فهنا الكنيسة, وهنا الكوخ. وهنا يعزينى المسيح، فقد قيل لنا أن التعزيات البشرية تمنع التعزيات السمائية.

   وصلى: "اللهم التفت إلى معوتنى يارب أسرع و أعنى"

   ولكن لا.. يكفى ما قاسيته..

   ثم قام مفزوعا وكأن شخصا آخر يطرده، وجمع صرّته، وخرج وعصاه فى يده وصرته على كتفه، وانطلق لا يلوى على شئ..

    وحتى مشارف المدينة كان مسبياً بالفكرة, و اشتدت الأفكار، وثقل عليه التذمر و القلق, وجلس مكدوداً منهك القوى و العقل.

ووجد راحة فى أن يبكى.. بكى و بكى لساعتين كاملتين ثم نام من شدة التعب..

   وفى نومه رأى شخصا يشع وجهه محبة و حناناً ووقار شيخ, عرف فيه أبيه الروحى مرقس وارتمى على صدره يبكى ويتأوه.

   و فى حنان ربت على كتفيه وعاتبه قائلاً:

   لماذا شككت ؟ ولماذا لم تصبر لتكمل جهادك؟

   أترى أن الله سينسى لك تعبك ومحبتك وطاعتك؟

ثم قبّله وأعطله شيئا فى يده, واستيقظ الأب باسيليوس ورأى يده مقبوضة على شئ, فتحها فلم يجد فيها شيئاً, ولكن الطمأنينة سرت فى صدره, وابتسم لنفسه وسخر من تذمره, وفى اتضاع تحدى الشيطان قائلاً:

   "نعمة الله التى يهبنى إياها تغلب محبتك للشر وكراهيتك لكل عمل صالح".

   وعاد أدراجه إلى الكوخ المبارك، ليجد الصبى فى انتظاره، يحمل فى يده صرة صغيرة بها بعض خبز الشعير و البيض المسلوق و البلح المجفف..

   وسأله الصبى أين كان. ولماذا يحمل صرته على كتفه؟ وصمت و لم يجب وجلس ليأكل من يد الصبى..

   ومع الايام تسللت الشيخوخة غلى جسده, وظهرت قسمات وجهه المبارك, وأحس بالرضى عن نفسه, وصار يحمل الشكر و العرفان بالجميل لأبيه المحنك المحب.

   وقد زاره فى كوخه فى يوم من الأيام رجل شيخ, وفاجأه بقوله: ألست أنت الأب باسيليوس؟

  أجاب: نعم، ولكن كيف عرفت ذلك؟

  - أنا راهب مثلك، وأرشدنى الله إليك لأنتفع منك.

  - ولكن ليس لدى ما ينفعك, فسيرتى كلها واحدة وهى اننى مشغول بعمل التوبة, لأننى أعلم أننى ماض يوما ما إلى التراب.

  - فكيف تأكل؟ ومن يعولك وكيف تثبت فى هذه الرباطات؟

وجعل الراهب يسال، والأب باسيليوس يجيب.

  - أما افتقدك الملل؟

  - كيف لا؟ وقد اعتاد الضجر أن يضرب خيمته مقابل خيمتى فى كل ترحالى.

  - وكيف تخلصت منه؟

   - الحقيقة إننى لم أتخلص منه, ولكنى صادقته!

نعم صرنا أصدقاء فلم أعد أخشى لدغاته, ولم يعد له سلطان علىّ وعاد ليسأل و الأب يجيب.

ثم صنعا سويا صلاة - وانصرف الضيف..

 

-3-

   فى 14 يوليو سنة 1851م عرف مصادفة أن الأب مرقس قد تنيح, دون أن يمرض..

   ولا أستطيع القول بأن الأب باسيليوس قد حزن عليه وإنما بدأ منذ ذلك اليوم يفكر فى العودة إلى الدير, ليس مهزوما من الأفكار ولكن لرغبته فى ان يتنيح هناك... فكر أياما طوالا.. وبات مشغولا بهذا الأمر واستحوذ على كل اهتمامه. وبدا مهموما..

   صلى وصلى.. وبكى طالبا العون, وأين توجد مسرة الله, إلى أن استراح قلبه للفكرة.. وبدأ يضعها موضع التنفيذ.


   اختار يوما كان بترتيب الهى يوافق نفس تاريخ اليوم الذى نزح فيه من الدير الى العالم منذ حوالى 24 عاما .
   وفى الطريق جعل يفكر ... كيف سيتقابل مع الاباء؟ و هل يوجد منهم من لا يزال على قيد الحياة , ممن عاش معهم قبل مغادرة الدير ...
   ترى هل سيجد قلايته فى مكانها خلف السلم الاسرى و المنارات الست و هيكل القديس بارثينوس ...
   واستراح فى الطريق 15 مرة و استغرق المسير حوالى اثنى عشر يوما تخللها مرتين او ثلاثة اشفاق بعض الاعراب عليه فحملوه على دوابهم مسافة من الطريق و بدا يدخل الجبل المقدس فى اليوم الثانى عشر بعد ان قطع حوالى مئة و سبعون كيلومترا ...
    وهو يذكر انه لم يمش بهمة و قوة شباب مثلما مشى فى البرية , كان يمشى مثل الغزال !
    وطفح البشر على وجهه و تمتم مسرورا يحدث نفسه ... تارة يرنم و اخرى يصلى بصوت مسموع .
    إلى أن عبر التلة الكبيرة حيث وقع نظره على الدير وجها لوجه فلم يحتمل و لم يطق صبرا وصرخ من الفرحة و صفق بيديه و اختلجت مشاعره و بكى طويلا ...
   وكان قد قرر الا يعرف من بالدير بقصته بل سيطلب اليهم كمن يريد دخول سلك الرهبنة لكى لا يناله منهم اى مديح او كرامة ...
   و لكى لا يمطروه بالاسئلة و الاستفسارات و هو لا يحب ان يضعه الاخرون وسط هالة تميزه عنهم .
   على الباب دق الناقوس فخرج الشيخ الوقور البواب و قابله ببشاشة و فرح فاخبره برغته فى الانضمام للدير للرهبنة و طلب اليه الشيخ ان يمهله ريثما يخبر اب الدير اللذى جاء مع البواب، و تحدث معه قليلا، ثم اعتذر فى ادب شديد عن عدم امكانية قبوله، لأنه تجاوز السن المناسبة للرهبنة .
   وصار الاب باسيليوس يتوسل و الاب ماض فى الاعتذار اليه و النصح بان يطرق سبلا اخرى لخلاصه .
ثم اعتذروا له ايضا بانهم مضطرون لاغلاق باب الدير و اغلقوه!
   واحتار ماذا يفعل؟ و تذكر الصرة التى يحملها على كتفه و تذكر الغربة و العرى و الجوع .
   وفرش فرشته بجوار سور الدير .
 بعد يومين خرج البواب لقضاء امر ما .. فوجد انسانا نائما بجوار السور فذهب ليستطلع الامر فو جد الاب باسيليوس راقدا و قد اسلم الروح .
   وعقد الاباء مجمعا ماذا يصنعون بجسد هذا الغريب ! وتضاربت الاقوال و كثرت الاراء .
   واخيرا راى اكثرهم ان يدفن فى المكان الذى تنيح فيه بجوار السور .
   وهكذا فعلوا.
   وهكذا دفن .
   وهكذا اكمل جهاده .
عاش غريبا و مات غريبا.