29 نوفمبر 2013

اسطورة البجعة


هذه صورة طائر البجع وهو يطعن جنبه ليطعم صغاره من دمه. ويعد طائر البجع أحد الرموز التي إستخدمت للتعبير عن الإفخارستيا منذ القرون الأولى للمسيحية، لأن من طبيعة هذا الطائر أنه في حالة عدم توفر الغذاء الكافي لفراخه، يقوم بجرح نفسه وإطعام صغاره بدمه! مما ألهم البعض أن يروا في ذلك صورة رمزية للمسيح الذي يطعم المؤمنين من دمه في الإفخارستيا.
وقد جاء ذكر طائر البجع لأول مرة كرمز مسيحي في كتاب ظهر في الإسكندرية في القرن الثاني وهو كتاب "الفسيولوجوس". ويسجل كتاب الفسيولوجس أسطورة كانت شهيرة في ذلك الوقت عن طائر البجع، إعتمادًا على الحقيقة التي ذكرناها، فتذكر الأسطورة أنه في أحد المرات ترك أحد طيور البجع عشه للبحث عن طعام، وعندما عاد بعد ثلاثة أيام وجد فراخه الصغيرة قد هلكت، فرقد فوق صغاره الميتة، وطعن جنبه بمنقاره وعندما تساقطت قطرات دمه على الفراخ الصغار عادت إليها الحياة! وأتخذت هذه الأسطورة "الهلينية" والتي كانت معروفة قبل المسيحية، رمزاً لسر الإفخارستيا الذي فيه يسقينا المسيح من دمه الإلهي المحيي، الذي هو ترياق الحياة الأبدية ودواء عدم الموت كما يقول الآباء.

21 نوفمبر 2013

لحظة انارت حياة


اصابتها الحمى في منتصف السنة الثانية من عمرها تقريبا مما جعلها تحول عينيها الساخنتين الجافتين نحو الحائط بعيدا عن الضوء الذي كانت قبلا شديدة الولع به. والذي صار يبدو اقل شدة وبريقا عن ذي قبل. رأى الطبيب الذي فحصها ان ليست لها فرصة للحياة، ولكن قدرة الله شاءت ان يبرأ جسمها من الحمى ذات صباح بصورة مفاجئة وغامضة على نفس النحو الذي اصابتها به. تركتها الحمى في سجن رهيب بعد ان سلبتها حاستي النظر والسمع. وشيئا فشيئا اكتسبت التعود على الظلام والسكون اللذان شملاها ونسيت تماما ان الامر كان مختلفا تماما من قبل.

كانت قد بدأت في تعلم الكلام، لكن بعد ان اصابها المرض توقفت عن الحديث لانه لم يكن بوسعها ان تسمع ما يقوله الاخرون. حتى لفظة "ماء "التي كانت تنطقها صار طريقة نطقها لهذه الكلمة عسيرة الفهم على الاخرين. اعتادت وقتها على البقاء بين ذراعي امها طول اليوم واضعة يدها على وجهها لان شعورها بحركات شفتي والدتها كان يسعدها ويسليها. وحينما كبرت قليلا شعرت بالحاجة الى التواصل مع الاخرين وبدأت بعض الايماءات البسيطة تصدر عنها، فكانت هزة الرأس تعني "لا" و طأطأة الرأس تعني "نعم" وجذبة اليد تعني "تعال" ودفعة اليد تعني "اذهب" و هكذا...

ولما كانت اسرتها ميسورة الحال، فقد احضروا لها معلمة الى المنزل. كانت وقتها قد قاربت العام السابع من عمرها. كانت معلمتها تعرف ابجدية الايدي وقراءة النصوص المكتوبة بطريقة برايل وبدأت هذه المعلمة رحلة شاقة مع هذه الطفلة المسكينة لتعليمها. و كان اول ما قامت به ان اعطتها دمية، وبعد ان لعبت بها لفترة، قامت بتهجى كلمة دمية على يدها الصغيرة بلغة الاصابع، وفعلت نفس ما فعلته معلمتها. لم تكن تعلم انها تتهجى كلمة او ان هناك شيئا اسمه كلمات، كانت فقط وببساطة شديدة تقلد معلمتها. وظلت معلمتها تعلمها كلمات لاسابيع عديدة دون ان تعي ان لكل شئ اسما. وفي احدى المرات دار نزاع بين المعلمة وطفلتها على الكلمتين "كوب" و "ماء" اذ لم تستطع ان تفهم انهما مختلفتين. كانت معلمتها صبورة للغاية، فأخذتها الى بئر ماء بجوار البيت وكان ثمة شخص يسحب الماء بالطلمبة، وقامت معلمتها بوضع يدها في الماء المتدفق، وراحت تتهجى على اليد الاخرى ببطء اولا ثم بسرعة كلمة ماء. وقفت لحظات هادئة وكان انتباهها موجها نحو حركة اصبعها ثم بدا انها تذكرت شيئا كانت قد نسيته .. كانت لحظة عبقرية بالنسبة لها.. لحظة انارت حياتها بالكامل. ادركت معنى الماء بجوهره المستقل حين يتساقط من الطلمبة ولا يحتويه الكوب، و تذكرت لفظة "ماء" التي تعلمتها في صغرها، فأدركت فجأة ان الاشياء يمكن التعبير عنها باسماء ينطق بها الصوت البشري.. وكانت تلك البداية الحقيقية لرحلتها العظيمة مع التعلم. وتقول هي عن هذه اللحظة "لقد تكشف لي بطريقة ما احد اسرار اللغة.. لقد ايقظت تلك الكلمة الحية روحي واطلقتها من سجنها. غادرت البئر وانا اتحرق شوقا للتعلم، فقد عرفت ان لكل شئ اسما. وبدا لي ونحن في طريقنا للمنزل ان كل شئ ألمسه ملئ بالحياة".

وبعد تسعة شهور فقط من تعلمها للكلمة الاولى اصبح بمقدورها كتابة جمل كاملة. كما وجدت امامها نافذة مفتوحة على العالم من خلال التعلم بواسطة قراءة الكتب بلغة برايل. وكانت تدعو الكتب "اصدقائي" وساعدتها روحها الوثابة على اكمال دراستها حتى المرحلة الجامعية. لم تكن ترى الاستاذ المحاضر او تسمعه، بل كانت معلمتها تترجم لها المحاضرة على يدها بسرعة كبيرة باستخدام ابجدية الايدي، فكأنها كانت تسمع بيدها. واصبحت بذلك "حدثا تعليميا" لكونها اول شخص كفيف اصم يتلقى تعليما كاملا. واصبحت تجيد 3 لغات بالاضافة الى الانجليزية وهي الفرنسية و الالمانية واللاتينية، و قرأت كتبا لكل الادباء المشهورين في ايامها. ألفت العديد من الكتب والمقالات التي نشرت في الصحف والمجلات والدوريات في تلك الأيام. كما بذلت العديد من المحاولات المضنية لتعلم المحادثة، وهي الفتاة الصماء التي لم تسمع الكلام فكانت تضع يديها على حنجرة المعلمة وشفتيها حتى تتبين مخارج الحروف. ورغم هذه المحاولات المستميتة فإن كلامها لم يفهمه إلا المقربون منها. هذه هي "هيلين كيلر" معجزة المعوقين، الفتاة العمياء الصماء البكماء التي ضربت اروع الامثلة للتحدي. وتلك المعلمة هي "ان سوليفان" التي احاطت بهيلين احاطة النور بالمصباح المتقد. واضطلعت بمهمة هدم سجن هيلين واطلاق سراحها منه.
===
عزيزي القارئ لقد وقفت هيلين للحظات هادئة تذكرت خلالها ما قد نسيته من سنوات واكتشفت شيئا غيّر حياتها. انها لحظة انارت حياتها! ونحن ايضا قد نمر بلحظات تأمل هادئة يمكن ان تنير حياتنا وتغيرها للافضل.

20 نوفمبر 2013

لن احاربك

قيل ان اخا كان ساكنا في دير انه من شدة قتال الشياطين له كان يسقط في خطية الزنا بالفكر مرارا كثيرة. وكان هذا الاخ يجاهد و يثابر في رجاء وصبر لكي يسترد ثوب طهارته و لايكف عن الطلبة والدعاء:
 "يا رب انت ترى شدة حالي وحزني فانشلني يا رب ان شئت انا ام لم اشأ، لاني مثل الطين اشتاق واحب الخطية. وانت ايها الاله القوي امنعني عن النجاسة، لانك ان كنت ترحم القديسين فقط فليس بعجيب ولكن فيّ انا الخاطئ الغير مستحق ارى عجب رحمتك لاني اليك اسلمت نفسي".
هذا ما كان يردده كل يوم سواء اخطأ او لم يخطئ..
واذ كان يصلي ذات يوم ضجر منه الشيطان! شيطان اليأس! وغلب من حسن رجائه فظهر له وجها لوجه عندما كان يردد مزاميره، و قال له:
- اما تخزى ان تقف بين يدى الله وتذكر اسمه بفمك النجس؟
قال له هذا الاخ المثابر:
- ألست انت تضرب مرزبة و انا ايضا اضرب مرزبة.
انت تسقطني في الخطية و انا اطلب من الله ان يغفر لي.
عندئذ تركه الشيطان وهو يقول له:
- لن احاربك لئلا يكون لك اكليل من الرجاء.

15 نوفمبر 2013

وداعا يا جوهرتي!



تزوجا مباشرة بعد الانتهاء من دراستهما، وكان زواجهما حديث كل المحيطين بهما. كان هو شابا وسيما وكانت هي مثل زنبقة جميلة عطرة تحتفظ بكأسها ما استطاعت، و لكن كانت اوراقها تذبل سريعا في ظلال الموت. خدما معا في الكنيسة في "مدارس الاحد"، وكان لهما نشاطا ملحوظا في "مهرجان الكرازة" فقد اشرفت هي على خدمة المسرح، بينما اشرف هو على فريق الكورال.
بعد شهران من زواجهما قالت يوما لزوجها "انا متعبة يا يوسف!". ذهبا الى الطبيب الذي طلب اجراء بعض الفحوصات الطبية. قال بعدها الطبيب ان "الفحوصات اظهرت ضعفا شديدا في عضلة القلب، ولن يفيد العلاج، وليس هناك مجال للتدخل الجراحي، وان ماري ستعيش بضعة اشهر على الاكثر". كان يوسف يحب زوجته حبا جما فراح يعتني بها مثل عناية ام رؤوم بطفلها المريض، و حافظ عليها ازيد من حرصه على انسان عينه. كان قلبها مريضا، اما قلبه هو فكان مضطربا.. 
 ***
في صباح ذلك اليوم، جاءها بطعام الافطار تناولته وهي على فراشها .. قالت له "أتعلم يا يوسف لقد حلمت بالامس حلما جميلا!". قال لها "احكي يا عزيزتي". قالت "حلمت كأنني واقفة قرب نهر، واذا بي ارى القديس كريستوفوروس والمسيح الطفل على كتفه، وقف. جلس الطفل الى جواري. لعبنا سويا على الحشائش و الزهور، و رنمنا تراتيل عذبة، وكنت سعيدة جدا"
وانحنى كريستوفوروس الضخم ينظر اليّ وهو متكئ على عكازه.
ضفرنا اكاليل من الزهور، و كان الطفل اسرع مني في ضمها. صنعت منها صليبا، ثم اكليلا من الشوك. وضعته على رأسه وكانت بين سيقان الشوك زهور حمراء تدلت على جبينه و ذكرتني بقطرات الدم.
فجأة قال يسوع "لنفكر الان في شئ اخر. انظري وجهي. ماذا ترين؟" نظرت واذا بي ارى اولا الزارع الذي خرج ليزرع، و بعدئذ السامري الصالح، و بعدئذ الراعي الصالح الذي يحمل الحملان في حضنه. كان ممكنا ان ارى ازيد لولا ان سؤالا خالجني، قلت:
"اصحيح ان الناس اشرار لدرجة ان علقوك على الصليب و طعنوا جنبك بالحربة؟"
قال المسيح "نعم ها هي يدي، و ها هو جبيني!"
كانت العلامات حمراء كالدم فبكيت بمرارة. قال "لا تبك يا صغيرتي. لا اشعر بها الان. ان حب ابي الذي في السموات و حب اخوتي واخواتي على الارض قد ازالا هذا من زمن بعيد"
سكت لحظة .استطرد يسوع الطفل بعدها قائلا "اتودين ان يحملك قليلا كريستوفوروس الحنون؟ انه يفعل ذلك برفق. الى اي مكان تودين ان يأخذك؟"
اجبت دون ترو "ان لي اشتياقا ان ازور بيت لحم.. لكنها بعيدة جدا ثم ان هذا يوجب ان اتركك وحدك هنا"
اجاب المسيح "كلا يا ماري. ليس بعيدا كما تظنين. وانا وانت لن نفترق. ستجديني هناك ان رغبت في الذهاب"
قمت. حملني كريستوفوروس على كتفه بعيدا بعيدا جدا. وكان يتبع في النهار سحابة بيضاء ناصعة وفي الليل نجمة باهرة. انها نجمة بيت لحم. اجتزنا بلادا عديدة و سمعت ألسنة لا اعرفها. طرنا عبر جبال و بحار . كنت خائفة الا نصل، و لكن كريستوفر قال لي "لا تخافي ايتها الطفلة الصغيرة، لقد حملت سيدي العزيز الهي المسيح فلن يتعبني حملك"
بعد ساعات وصلنا الى بيت لحم...!
سار و عكازه في يده وانا على كتفه. مررنا باورشليم. بعد ذلك، لكن ليس ببعيد وقف على مدينة صغيرة تشرف على تلال بديعة . هنا وقف النجم. انها بيت لحم.
وضعني كريستوفر امام خان حقير.
فتح الباب، و اذا بالطفل يسوع هناك. امسكني بيمينه وقادني الى الداخل و قال لي "ليس هنا يا صغيرتي سوى مزود يرحب بك، و لكن يوما عندما تتعبين من الحياة سآخذك الى قصر عظيم في العلا"
وضمني الطفل يسوع بشدة و بحب جزيل. ضمني اليه وقربني من صدره و قبلني..
استيقظت وانا سعيدة. كنت اود ان اظل احلم الى الابد. قريبا سيقبلني يسوع مرحبا في قصره العلوي. 
اكتفى بتعليق صغير "يا له من حلم جميل!". وفي فكره ردد "يا بختك يا ماري لقد احتفظت بقلب طفلة"..
 ***
في مساء ذات اليوم لم تكن ماري نائمة و ان كانت مغمضة العينين، سألها برفق؟
"ماذا بك يا ملاكي الطيب؟"
نظرت اليه و اجابت "انني افكر في خطاياي"
قال "خطاياك؟!" و امسك عما كان مزمعا ان يسترسل فيه لئلا يسبب لها ألما فاضاف آه يا .. يا زوجتي العزيزة، لا يمكن ان تكون خطاياك لا عديدة و لا كبيرة"
فاسرعت تقول "نعم يا يوسف ليس احد صالحا الا واحد و هو الله. لقد قصرنا جميعا عن ادراك الكمال و الله وحده يعرف مقدار خطايانا"
 ولكن ما الذي دعاك لتذكري الان انك اخطأت ؟
نظرت اليه في اندهاش . كانت لها المقدرة و الموهبة ان تفتح عينيه في اي وقت على افكار عظيمة. عرف ما تقصد. جال ببصر زائغ في اركان الحجرة. لم تكن هناك ايقونة ترغم الانسان على الاعتراف بعدم استحقاقه مثل هذا الايقونة، ايقونة الصلبوت. نكث رأسه في خزي.
استمرت تقول و هي ترتجف من الانفعال "يا زوجي، حتى في هذه اللحظة اشعر انني ملومة، حتى هنا تهاجم الافكار الخاطئة القلب. مر على ذهني خاطر مفاجئ. اشتقت لو اعفى من الالم، و نسيت ان اضيف "لتكن مشيئتك" و هذا خطأ لانه يجب ان نسلم ذواتنا تماما لله و نحن مطمئنين، ان ابانا السماوي يعرف الافضل لنا"
ارتفع في قلبه شعور بالحزن و لكن حبس احساسه و قال برفق "ستعيشين بالتأكيد، فلماذا تحزنين قلبك بمثل هذه الافكار .. اه يا عزيزتي اذكري الحب الذي يبقيك هنا"
اجابت بابتسامة مشرقة كشعاع شمس ينير الظلام "نعم ان الحب هنا ثمين و لكن حبا افضل ينتظرني هناك"
مرت لحيظة سكون و لكنه لم يرد ان يصمت، بل لم يكن في مقدوره فصرخ:
"ان حب البقاء والحياة – يا احلى زنبقة – لا يمكن ان يكون خطأ. لقد زرع الله حب الحياة في قلوبنا فلا يمكن ان يكون خطية ما، فتمسكي بالحياة. لا تظلمي نفسك، فاني لم ار مخلوقا له روح التسليم الكامل مثلك و لا غير محب للذات مثلك، و لا صالحا مثلك"
اجابت: هذا ما تراه.. انا اعرف انك ستفتقدني كثيرا"
ساد الصمت مرة ثانية و لكنه كان سكوتا محببا الى النفس. لقد رأت ماري السماء مفتوحة! كانت علامات الرزانة على وجهها عرفت انها تصارع نفسها لكن لم يؤثر حتى اضطراب المصارعة على ثقتها بالله. كانت ترى يد ممتدة تمسك بيمينها لانني سمعتها تغمغم "لتكن لا ارادتي بل ارادتك". قامت من رقادها وجلست على الفراش وبشفتين ترتجفان قالت "لاشك ان الخطية هي التي تمنع وجود السلام الكامل. حقا انها خطية ان يتمسك الانسان بالحياة! و لكني على استعداد للذهاب.. و ها انا اشعر انني اقوى الان. دعني اقوم من الفراش..
اخذ يديها واجلسها على كرسي في الردهة. ثم ضغط برفق على يدها غير عارف كيف يصوغ كلماته وقال "يا عزيزتي ليست الدنيا هي التي ترغبّك في الحياة و لا شك ان حبك ابعد ما يكون عن الخطية، فكيف تشعرين بانك مخطئة؟
نظرت اليه و نور سماوي يشع في عينيها. شعر به حينئذ، بجماله و بالانتصار الذي يوحيه.
قالت "انني اشعر انني خاطئة و لكنني غير مضطربة لانني اثق في الله، و هو يعرف لنا الصالح" ثم قالت "هل تستطيع ان تعد الحصى جميعه – كبيره و صغيره -؟ هكذا خطايا العالم لا تعد و لا تحصى . و لكن المخلص حمل عنا اثامنا .. لقد محا الخطايا فلا اعود اضطرب بعد!"
ثم اخذت تغمغم بصوتها العذب ترتيلة من التراتيل التي تحبها. وما كان اجمل صوتها في هدوء المساء. عندما انهت ترتيلها قامت من على الكرسي متأبطة ذراعيه. ركعت على فراشها لتصلي بصوت منخفض، احتفظت ذاكرته بهذه الكلمات:
ها قد اخترت صليبك يا يسوع و تركت مسرات الدنيا،
و تجرعت الآم المرض في الكأس التى قدمت لي،
فاقبلني بين اولادك الاقوياء بضعفهم و سيّرنى نحو الجلجثة.
يا الهي ان النفس التى ترى ظلك مرة لا تخش من قوى الشر،
والعين التي تمتعت بلمحة من بهائك لا تقدر اوجاع العالم ان تغمضها.
صلت لاجله ايضا و لاجل كل احباءها. منحت السلام حينئذ و اضاء وجهها بهالة من البهاء و قامت و هي تقول "لتكن ارادتك".
ثم اوت الى الفراش. كانت متعبة جدا – متعبة حتى الموت. اغلقت عينيها. علتها صفرة! من حين لاخر كانت تشيع على وجهها ايضا حمرة مفاجئة في نوبات متتالية. اختلجت انفاسها و هي تقول له "اشكرك يا يوسف ! اني سعيدة. فليكن الرب معك!". ضمها الى صدره و ودموعه تنهمر بغزارة بقبلة مقدسة امتزج نفسه بنفسها الاخير. فاضت اخر انفاسها في تلك الليلة. ماتت وعلى وجهها ابتسامة الرضى التي للقديسات. و قد فقد الموت معها رعبه فنامت كشخص مبارك، صفراء ولكن بجمال سماوي، و يداها مكتوفتان فوق قلبها الذي لم يعرف الا المحبة و الخير. وقعت كلماتها الاخيرة على قلبه كبركة من العلاء. لم يستطيع وقفَ دموعه ثم قال بصوت يختلج "وداعا يا جوهرتي! ستسبقيني الى الفردوس".   
***

انتشر الخبر على الفيسبوك بعد وفاتها بساعات قليلة. وجاءت التعليقات على كل من عرف الخبر "وداعا يا عروس المسيح.. هنيئا لك بالفردوس.. صل لاجلنا.. اذكرينا امام عرش النعمة.. وفي صباح اليوم التالي الثانية عشرة ظهرا دقت اجراس الكنيسة بالطريقة الحزينة، واحتشد الناس لحضور صلاة الجناز. رتل الشماسة الالحان الجنائزية و تلى الكاهن الصلوات من اجل الروح المتوفاة. كان الكاهن يردد اجزاءا من المزامير بلحن حزين:
"ان سرت في وادي ظل الموت لا اخاف شرا لانك انت معي"
"للرب الارض و ملؤها. المسكونة وكل السكان فيها"..
و تمت المراسم الاخيرة و ووضع الصندوق في المقبرة ..
وضع يده على وجهه و راح يبكي في حرقة.. جاء اليه احد المعارف و راح يربت على كتفه ثم صحبه خارج فناء المقبرة..
في المنزل بعد يوم امتلأ بتلقي التعازي انسابت من فمه هذه الكلمات:


حياة قصيرة كانت حياة زوجتي، 
مثل قطرة الندى التى تسكبها اجفان الظلام ثم تجففها ملامسة النور.
كلمة لفظتها النواميس الازلية ثم اعادتها الى سكينة الابدية،
لؤلؤة قذفها المد الى الشاطئ ثم جرفها الجزر الى الاعماق،
زنبقة ما ان انبثقت من اكمام الحياة حتى اختطفها الموت،
ضيف عزيز ما ان حل حتى ارتحل، و ما فتح مصراعي الباب حتى اختفى.
مرض لعدة ايام بسبب رحيلها ولكن كان لذكراها من التأثير و القوة عليه ما يرفعه اعلى من حزن العالم. و اتاه رجاء نفى منى الحزن، انه مهما كثر حزنه على الارض فان المكان معد حيث يلتقي بها وحيث لايوجد حزن و لا ألم بعد و لا يسود الموت.

14 نوفمبر 2013

الصداقة


الفم العذب يكثر الأصدقاء، واللسان اللطيف يكثر المؤانسات.
ليكن المسالمون لك كثيرين، وأصحاب سرك من الألف واحدا.
إذا اتخذت صديقا؛ فاتخذه عن خبرة، ولا تثق به سريعا.
فإن لك صديقا في يومه، ولكنه لا يثبت في يوم ضيقك.
وصديقا يصير عدوا، فيكشف عار مخاصمتك.
وصديقا يشترك في مائدتك، ولكنه لا يثبت في يوم ضيقك.
يكون نظيرك في أموالك، ويتخذ دالة بين أهل بيتك،
لكنه، إذا انحططت، يكون ضدك، ويتوارى عن وجهك.
تباعد عن أعدائك، واحذر من أصدقائك.
الصديق الأمين معقل حصين، ومن وجده فقد وجد كنزا.
الصديق الأمين لا يعادله شيء، وصلاحه لا موازن له.
الصديق الأمين دواء الحياة، والذين يتقون الرب يجدونه.
من يتق الرب يحصل على صداقة صالحة، لأن صديقه يكون نظيره.
(سيراخ6: 5-17)
تكمن اهمية الصداقة في ان شخصية الانسان لا ترقى الا بصداقات راقية، لان "اثنان خير من واحد ان سقط احدهما يقيمه رفيقه وويل لمن هو وحده اذ ليس له ثان ليقيمه"(جا4: 9، 10). وليس من الحكمة ان نثق في شخص ثقة كاملة، بل لابد ان نضع هامشا للضعف البشري. وليكن من نثق فيه ثقة كاملة هو الرب يسوع. و لانقول هذا ليلحق بنا الشك من جهة الكل، بل لتقترن الثقة بالحرص والحكمة. ويقول علماء النفس: ان الطبيب النفسي الواعي عليه الا يدع المريض يبوح له بكل شئ و الا تكونت عداوة بينهما اذ يشعر انه قد صار عريانا مكشوفا امامه.

هناك انواع من الصداقة يحدثنا عنها ابن سيراخ و هو "صديق يومه" وليس "في يوم الضيق".. وصديق يصير عدوا.. والصداقة النفعية.. ثم يقول "تباعد عن اعدائك واحذر اصدقاءك"اذ ان الصديق الخائن اشد خطرا من العدو فان اساءة العدو خارجية (لطمة) بينما اساءة الصديق داخلية (طعنة). و في زمن ارميا كان "كل اخ يريد ان يأخذ مكان اخيه، و كل صديق يسعى بالوشاية"(ار9: 3) و لا ننسى يهوذا الخائن الذي تنبأ عنه النبي "ليس عدوي يعيرني فأحتمل يعيرني فاحتمل.ليس مبغضي تعظم علي فاختبئ منه. بل انت انسان عديلي الفي وصديقي. الذي معه كانت تحلو لنا العشرة"(مز55: 12- 14)

9 نوفمبر 2013

رسالة الى صاحب الفندق


سيدي، بعد نوبات كرٍ وفرٍ بين جموع أفكاري هذه وتلك، نويت الكتابةَ إليك مرجحًا كفة أشواقي التي امتطتها بعض من أفكاري، عازمةً أن تفصح عما في جعبتها إليك.

بصدقٍ سيدي، أذاب أحشائي ما ألمّ بشريكك في الإنسانية. ذلك الانسان الذي صار أقرب للموت منه للحياة، بعدما سقطت على هامته القلوب المتحجرة فسحقتها، وطالته يدا الطمع والأنانية فنثرت براءته وانتشبت في جسد إنسانيته النحيل أظافر القسوة فأماتته. وقد هز كياني هذا السامري المغوار الذي أقتحم أرض الظلم والظلمة فصار قريبًا من الدرجة الأولى لمن تخلى عنه رعاته وأقرباؤه.

هنيئًا سيدي، هنيئًا، فلقد قصد السامري فندقك واستأمن على قريبه شخصك. قلبي فرحٌ لأجلك، فهوذا السامري أشركك معه في ملحمة حبه فصرت "العامل مع السامري". مبارك قدومك إلى كَرْم الحب يا رجل.

بعد تهنئتي الصادقة، خجِلٌ أنا من أقدّم لك نصيحة، فمن أنا حتى أُقدِم على هذا؟ فاحتملني، فإني أتقدم إليك محمولًا على أجنحة طول أناتك ومدفوعًا بجسامة مهمتك وراغبًا في أن تبقى على بهائك الخفي السري الذي شملك بشراكتك مع السامري.

سيدي، أود أن أهمس في أذنك بسرٍ، لقد عشّم السامري قريبه ووعده بأنه سيودعه بين راحتي قلب نابض وفي أيدي أمينة وتحت عين ساهرة. فالسامري راهن على رقتك أمام قسوة الأنانية، راهن على صدق إحساسك وتفهمك أمام بلادة المظهرية وموت قلب الرياء. يبدو لي أن السامري بعدما أعاد قريبه إلى الحياة، وعده بديمومة حضوره في شخصك! إن بين يديك ضحية للظلم والجشع والاعتداء والنهب، رافضًا للحياة وللانسان، ولولا السامري، لفعلها الجريح وأتم رحلته البائسة للموت الأبدي. فأنت سيدي من سترعى نبتة الحياة الجديدة التي غرسها السامري في طيات كيان من كان ميتًا حتمًا ومحسوبًا زيفًا على الأحياء.

ومتى زارك الملل وفرض نفسه عليك ضيفًا ثقيلا فثبط همتك في خدمته وشلّ يد محبتك، فصارت رعايتك لمريضك نيرًا ثقيلاً على أكتاف نفسك وتثاقلت خطواتك نحو فراش آلامه، فعُد واستلهم الحب من أيقونة يد السامري المُحمَرّة بدماء الجريح، وليكن كيان ضيفك المُضمّخ بزيت السامري وخمره مصدر إذكاء لقلبك متى فتُر. تستوحي من سكيب الخمر والزيت قصة العشق التي نسجها السامري وتنعّم بها المجروح الميت فعاد للحياة. ما أغلى خمر السامري! وما أطيب زيته! وما أنقى كيان ضيفك بعدما تطيب بهما! فها هو العاشق وضع بين يديك معشوقه لتواصل أنت معزوفة حبه، مؤكدًا لوليد الحب أن ما يحياه ليس بحلمٍ.

سيدي، لقد أتاك السامري قاصدًا شخصك غير عابئ برونق فندقك، فلا تصرفنّ الكثير من طاقتك على جدرانه وأراضيه، فقلبك هو المأوى الحقيقي الذي قصده السامري لقريبه. سيدي ليكن ضيفك الكريم هو شغلك الشاغل وكل ما تريد أن تصنعه بالجدران ليكن بحسب صميم حاجة قريب السامري وليس لذات الجدران. الوقت المنصرف على الجدران يا رجل السامري، لهو وقت لحساب الموت. وكل ماتقضيه من وقت مع قريب السامري لهو وقت مُفتدى لحساب السامري والأبدية. ليس الوقت وحسب، بل والمال آيضًا. فدنانيرك وفلوسك هم لأجله ولاحتياجاته أولًا وقبل أي شيء. والتفت إلى كونه من ضحايا تشييء الأشخاص وتأليه الأشياء، فلصوص الحياة فضّلوا مايملكه على شخصه وأستثمنوا مايحمله واسترخصوا حياته. فإن صرفت طاقتك وجهدك ومالديك على الجدران لا عليه، لصيّرته فريسةً لوحوش التشكيك في صلاح وأمانة السامري، وسيحسب إنقاذ السامري له ما هو إلا مقدمة لمزيد من الانتهاك والاستغلال، وسيصل لخلاصة شيطانية مفادها أننا أتينا للوجود للإذلال والاستعباد. فلا تروينّ سيدي بذور إلحاد نثرها عدو السامري والإنسانية في قلب الجريح المسكين. نثرها في القلب بينما الجسد يُنتهك بلكمات الظلم، والكرامة تُهدر بسكين السب والشتائم. فسيرك على درب السامري وفي إثر خطواته لهو استرداد لنفسٍ لأحضان الإيمان.

عجبًا على السامري، صيّر نفسه قريب الجريح وضمَّ الجريح لعائلته الكريمة!! فلن يطالبه بمقابلٍ ولن يتباهى بعلاجه، بل سيطلقه حرًا طائرًا في سماء المُحرَّرين. فأوصيك خيرًا على العصفور الذي حرّره السامري. لاتكف عن بثّ روح الحرية فيه، ومكّنه من إتقان فنِّها. انتبه لئلا تخونك أعماقك وتستأسره لحساب شخصك. لا تعايره بجراحه، ولاتوهمه أنك متفضل عليه بالعلاج، أو توحي إليه زورًا أنه مديون لك شخصيًا وعليه أن يسدد دينه أو يعمل عندك في المقابل. لاتهدّده سيدي بالطرد أو عدم مواصلة العلاج، أو توحي له تصريحًا أو تلميحًا أن وجوده ثقلٌ والاعتناء به عبءٌ. كن يقظًا حتى لاينسى جريحك قريبه السامري ويصير عبدًا من عبيد الفندق الجاهلين بشخص السامري تمامًا. في أغلب الظن كان الجريح غائبًا عن وعيه ولم يدرك إدراكًا كاملًا ما صنعه السامري النبيل لأجله، فلا تبخلنّ عليه بإعلان بهاء وشفاء السامري على الدوام، وأن ما يحياه الآن هو بفضل السامري، والخير خير السامري. سيدي لا تخشَ تكاليف ولاتعُل همَّ نفقات، فلن يعوزك مع السامري شيء. فلا تصدق تهديد الأيام ولاتخويف الزمان، فالسامري فوق الأزمان. ولا تجعل محبة الربح تغويك فهو عندما يعود سيوفيك.

أخيرًا سيدي أشكرك على سعة صدرك.
القس / أثناسيوس محروس

8 نوفمبر 2013

الانقسام



"كل بيت منقسم على ذاته يخرب"
جو إنقسام الجسد الواحد، هو التربة الخصبة لإبليس لزرع الكراهية والبغضة بين الجسد لتفتيته أكثر وأكثر. - فيليب كامل
قال أحد القديسين:
لو اجتمع عشرة آلاف من الملائكة، لكان لهم رأى واحد، للأسف حينما يجتمع عدد قليل من البشر، فإنهم يختلفون..!

احيانا لانسمع

ذهبت مرة لزيارة صديق يسكن في منزل مجاور لاحد خطوط السكك الحديدية، وتصادف ان مر قطار احدث ضجيجا عاليا. وكنت في تلك اللحظات اتحدث ،فتوقفت عن الكلام الي ان يمر القطار. لكن صديقي نظر الي في حيرة وادهشه سكوتي المفاجيء .فلما سالني في ذلك قلت له السبب ، فضحك وقال لي انه لم يلاحظ ان قطارا قد مر .فقد اعتاد ان يسمع هذا الصوت ، حتي انه اسقطه من اعتباره ، وربما لم تعد مراكز السمع في مخه تنقل هذه الاصوات اصلا.
غير اننا كثيرا ما نمر بذات الاختبار ، حين لانسمع الاصوات الواضحة التي يتحدث الله بها الي ارواحنا ، ولانسمع طرقات الله علي ابواب قلوبنا ، من خلال الاحداث اليومية التي يجيزنا فيها .ولاننا لانسمع طرقات الله ، فاننا لانسرع بفتح الابواب ، ولانتلقي هذه الاشارات الالهية الواضحة .
ان الله العادل لم يخلقنا ليتركنا نتخبط بين رغباتنا وشهواتنا وابواق ابليس الخادعة ــ ثم يحاسبنا بعد ذلك . بل خلقنا الله ليرعانا ويرشدنا ويوجهنا ويحذرنا من الشر.
لذلك فانه يتحدث الي ارواحنا في كل لحظة في حياتنا ، وفي كل نبضة في عروقنا . فنبضات القلب حديث وتوجيه الهي لعبيده ، وكل ماتقع عليه عيوننا من علامات القدرة الالهية هو حديث لنا. وكل شمس تطلع علينا وكل غروب هو حديث الهي واضح لمن يريد ان يستمع .وكل مولد طفل او فناء شيخ هو رسالة لمن يريد ان يقبل . لكننا احيانا لانسمع.

النبي الباكي


السماء تلامس الارض.. المجد العظيم يتحدث الى التراب.. الله يتكلم مع الانسان. وهكذا تصير اليه كلمة الله:
- قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدستك.جعلتك نبيا للشعوب.
وينصت ارميا ثم يتكلم الى خالقه في كثير من الخشوع:
- اه يا سيد الرب اني لا اعرف ان اتكلم لاني ولد. 
وهنا يتحدث الفائق القدرة و الموجد من العدم:
- لا تقل اني ولد لانك الى كل من ارسلك اليه تذهب وتتكلم بكل ما امرك به. لا تخف من وجوههم لاني انا معك لانقذك ..
ويمد الرب يده ليلمس فم النبي الرقيق ثم يقول له:
- ها قد جعلت كلامي في فمك. انظر! قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس..

***

ويذهب ارميا يحمل عبء الرسالة و مجدها .. يغوص وسط شعبه .. و ينذره و يوبخه.. يئن معه و من اجله.. و حين يبصر خزي بني شعبه.. وشرود اهله.. يكون هكذا صراخه لهم:
"ابهتي ايتها السموات من هذا واقشعري وتحيري جدا يقول الرب. لان شعبي عمل شرين. تركوني انا ينبوع المياه الحية لينقروا لانفسهم ابارا ابارا مشققة لا تضبط ماء"(ار2: 13)
ويلتفت ارميا حوله .. فيجد الفساد قد عم.. حتى ان رجال الدين و الرعاة تركوا الحق وسعوا وراء الباطل.. فيحزن و يحتد و ينوح:
"احشائي احشائي . توجعني جدران قلبي .. ينوح قلبي فيّ.. لا استطيع السكوت.."(ار4: 18)
"الكهنة لم يقولوا اين هو الرب، و اهل الشريعة لم يعرفوني، و الرعاة عصوا عليّ، والانبياء تنبأوا ببعل وذهبوا وراء ما لا ينفع!"(ار2: 8)
هذا هو سر بكاء النبي الرقيق، فقد ترك الشعب العبادة الحقيقية و تمسكوا بالشكل دون الجوهر.. و كأنه اراد ان يوقظ فيهم حرية ماتت بالخطية..
"ارجعوا ايها البنون العصاة فاشفي عصيانكم.."(ار3: 14).
"لا تتكلوا على كلام الكذب قائلين هيكل الرب هيكل الرب هيكل الرب هو. لانكم ان اصلحتم اصلاحا طرقكم واعمالكم ان اجريتم عدلا بين الانسان وصاحبه. ان لم تظلموا الغريب واليتيم والارملة .. ولم تسفكوا دما زكيا في هذا الموضع.. ولم تسيروا وراء الهة اخرى .. فاني اسكنكم في هذا الموضع في الارض التي اعطيت لابائكم من الازل والى الابد. ها انكم متكلون على كلام الكذب الذي لا ينفع. اتسرقون وتقتلون وتزنون وتحلفون كذبا وتبخرون للبعل وتسيرون وراء الهة اخرى لم تعرفوها. ثم تاتون وتقفون امامي في هذا البيت الذي دعي باسمي عليه وتقولون قد انقذنا.حتى تعملوا كل هذه الرجاسات. هل صار هذا البيت الذي دعي باسمي عليه مغارة لصوص في اعينكم."(ار7: 4-11)
.. ولكن الشعب يزداد في شره .. ويقاومه .. يريد قتله .. و يتساءل النبي و هو يبكي .. وينظر الى الله الذي ارسله، في عتاب: 
"لماذا تنجح طريق الاشرار.اطمأن كل الغادرين غدرا.. غرستهم فتأصلوا. نموا و اثمروا ثمرا.. وانت يارب عرفتني. رأيتني و اختبرت قلبي من جهتك..(ار12: 1)
وتتجمع السحب و يزداد قتامها.. ويمسك واحد من الكهنة ، الناظر الاول للهيكل، بالنبي و يضربه ويجعله في المقطرة.. فقد اراد ان يميت النبي او يميت الحق الذي يصرخ في وجوههم و يبكتهم. اما ارميا فكان دائما يبث شكواه . و في غضبة مقدسة يطلب قصاص الله العادل:
"فكروا علي افكارا قائلين لنهلك الشجرة بثمرها ونقطعه من ارض الاحياء فلا يذكر بعد اسمه. فيا رب الجنود القاضي العدل فاحص الكلى والقلب دعني ارى انتقامك منهم لاني لك كشفت دعواي.(ار11: 20) 

***

وجلس ارميا يملي باروخ الكاتب حصيلة عمله النبوي خلال عشرين عاما مضت، ليقرأها في بيت الرب .. ويصل الدرج المكتوب الى الملك.. و ينصت الملك الى كلمات النبي و هو يتنبأ بالخراب.
"هانذا اجعل امامكم طريق الحياة وطريق الموت. الذي يقيم في هذه المدينة يموت بالسيف والجوع والوبا.والذي يخرج ويسقط الى الكلدانيين الذين يحاصرونكم يحيا وتصير نفسه له غنيمة. لاني قد جعلت وجهي على هذه المدينة للشر لا للخير يقول الرب. ليد ملك بابل تدفع فيحرقها بالنار..(ار21: 9)
ويستشيط الملك غضبا و يأخذ الدرج، يمزقه، ثم يلقيه في نار الكانون المتقد امامه، اذ كان الوقت شتاء.. ويعود الرب فيتكلم على فم ارميا النبي:

"هكذا قال الرب عن يهوياقيم ملك يهوذا. لا يكون له جالس على كرسي و تكون جثته مطروحة للحر نهارا و للبرد ليلا.. واعاقبه ونسله وعبيده على اثمهم واجلب عليهم وعلى سكان اورشليم وعلى رجال يهوذا كل الشر الذي كلمتهم عنه ولم يسمعوا..(ار36: 30)


.. وعاد ارميا في حزن شديد يكتب ثانية الدرج.. ذاك الذي احرقه الملك.. وكان ينتظر مجازاة الاشرار.. وخلاص الله العظيم.
وحاصر الكلدانيون اورشليم.. وجاء اليوم الذي توقعه النبي.. ويمسك الرؤساء بالنبي الباكي من اجلهم.. و يحملونه مسئولية اضعاف الروح المعنوية للرجال بسبب نبواته.. ويرضخ الملك لهم، و يلقي في السجن ارميا.. ثم يزداد خضبهم .. فيلقونه في جب عميق مظلم.. دلوه بالحبال و لما لم يكن في الجب ماء بل وحل فقد غاص ارميا بجسده النحيل في الوحل.. ينتظر الموت.. ويتحمل الالم من اجل قساوة قلب شعبه غير التائب.. هكذا كان صراخه من داخل الجب:
"دعوت باسمك يا رب من الجب الاسفل. لصوتي سمعت. لا تستر اذنك عن زفرتي عن صياحي"(مرا3: 56)
ولم ينقذ ارميا من هذا البئر المظلم الا خصي حبشي توسل الى الملك فرفعه واودعه دار السجن .. و بقى ارميا في السجن يسمع من مكانه نوح راحيل وهي تبكي على اولادها..
طصوت سمع في الرامة نوح بكاء مرّ. راحيل تبكي على اولادها وتأبى ان تتعزى عن اولادها لانهم ليسوا بموجودين(ار31: 15)
و تسقط المدينة في يد نبوخذ نصر.. و يفرج هذا الملك عن النبي النائح.. يكرمه فقد ظن ان كل ما حدث للنبي كان بسببه .. يحسن معاملته.. و يخيره بين الذهاب الى بابل او ان يبقى مع شعبه في وطنه.. ويظل ارميا مع بقية شعبه، يرثي لحالهم.. ويتحمل معهم قسوة الهزيمة .. وتشريد المدينة .. هكذا كان يرثي حال مدينته:
"كيف جلست وحدها المدينة الكثيرة الشعب.كيف صارت كارملة العظيمة في الامم.السيدة في البلدان صارت تحت الجزية. تبكي في الليل بكاءا ودموعها على خديها..(مرا1:1)

***
(قومي اهتفي في الليل في اول الهزع. اسكبي كمياه قلبك قبالة وجه السيد.ارفعي اليه يديك لاجل نفس اطفالك المغشي عليهم من الجوع في راس كل شارع ..)

***

( سكبت عيناي ينابيع ماء على سحق بنت شعبي. عيني تسكب ولا تكف بلا انقطاع حتى يشرف وينظر الرب من السماء! )