13 سبتمبر 2013

الارملة اللجوج و القاضي الظالم


في طريق عودة طابيثا لقطعة الارض الي خلّفها لها زوجها هارون بموته، استوقفها احد رجال عاموس و منعها من الوصول اليها..
- الى اين يا طابيثا؟
- الى ارضي.
- لم تعد بارضك منذ امس فقد ضمها الباشا الى اراضيه. و امرني ان ابلغك بالوضع الجديد و ان امنعك من الوصول اليها..
- ماذا؟ تمنعني عن ارضي؟..
- اسف يا امرأة، فانا عبد الآمر و ليس بيدي شئ.
- و لكن عاموس باشا لديه مائتا فدان. و انا امرأة فقيرة اربي اولادا..

لم يجبها الرجل ذو الشارب العريض و استمر واقفا امامها في طريقها. و عندما حاولت الافلات نحو ارضها صدها بذراعه القوية قائلا لها بخشونة:
- لا داعي لذلك. فلتمض و تشتكي للقاضي فقد ينصفك..

****
امالت طابيثا رأسها، و بقيت دمعة ما زالت لاصقة على وجهها الحزين، على شدرخ حارس دار القضاء و همست في اعياء..
- ليكافئك الله! اسمح لي برؤية القاضي.
لا يعرف شدرخ لماذا صمت قبل ان يجيبها لفترة..
- كل شئ بوقت يا امرأة، بعد شهر من الآن، و خذي دورك..
انزعجت طابيثا لما تسمع.
- شهر؟ لا. لا استطيع. ان الامر عاجل..
و غلبتها دموعها فبكت، و اختلط كلامها ببكائها فالتصق بها صغيرها ذو العامين، ونظر اليها و الهول يملأ عليه دنياه الصغيرة.
- هدئ من روعك يا امرأة من اجل الصغير ..
- اسمع. انا امرأة مظلومة. ليباركك الله اجعلني اراه..
- يا امرأة، هنا كلشئ بنظام، عشرات الناس ينتظرون دورهم لعرض قضاياهم على المبجل هامان.. ليس قبل شهر..
- ان انتظرت شهرا يكون كل شئ قد ضاع.
- لا لن يضيع حقك.
- اليوم. ان تسمح. اليوم ..
- حسنا. امضي الان و تعالي في مثل هذا اليوم من الاسبوع القادم.
- لا. ليرحمك الله. ان دخلت الان و حدثته عن امري ستأخذه الرحمة و يراني.. اليوم. ان تسمح..

***
شدرخ حارس دار القضاء رجل طيب، احيانا يترك نفسه الحساسة على سجيتها فيجلب على نفسه غضب هامان و صراخه.. اقترب شدرخ من القاضي هامان، و مال على اذنه و همس: 
- امرأة في الخارج تبكي و تلح في ان تراك، عندها شكاية ضد عاموس باشا ..
و لم يدعه هامان يكمل ما يقول و اطاح بظهر يده في الهواء ..
فعاد الى المرأة بلا رد..
قرأت طابيثا في وجهه الاجابة:
- ماذا قال؟ هل سأراه؟
- لا يا سيدتي، ليس اليوم.. تعالي بعد اسبوع.
- بعد اسبوع يكون كل شئ قد استتب للداشا و رجاله.
- يا امرأة لا تلحي اكثر من هذا، ما انا الا مأمور..
- ليرعاك الله، و ليرع خاطرك ان اخذت بخاطري، قل لى من اجل الصغير، قل لي انني سأقابله غدا.
زفر شدرخ في ضيق. و قال :
تعالي غدا.

***
القاضي هامان يسميه الناس القاضي الظالم. ميزان العدل عنده مختل... في صباح الغد كانت طابيثا عند باب القاضي و بيدها صغيرها..
اتجه شدرخ نحو هامان و همس في تردد..
- سيدي. اتذكر السيدة التي استولى عاموس باشا ارضها و حدثتك عنها بالامس؟ انها بالباب اليوم و تلح لمقابلتك..
فنفضه هامان تماما كما فعل بالامس،.. و بعينين حمراوين انتهره بصراخ:
- ماذا دهاك يا احمق. ماذا بوسعي ان افعل لك انت و امرأتك. ماذا بينكما؟
- لا شئ يا سيدي سوى احساس الرحمة..
- ماذا اذن؟ ماذا؟
- انها تلح. انها بالباب كل يوم. و لا تكف عن البكاء.
- اطردها. اخرج. اهرب من غضبي. هذه هي دار القضاء و ليست مأوى ارامل و ايتام..
خرج شدرخ بوجه كامد. عندما رأته طابيثا تراجعت الى الخلف.. عاجلها شدرخ و كله حنق:
- اسمعي يا امرأة لا اريد ان اخسر وظيفتي بسببك...
ازرق وجه طابيثا. و راحت تبلع ريقها مرات و عيناها زائغتان و لم تنطق بحرف.. و امام نظرات شدرخ الحادة انسحبت من مكانها كمن قبل حكم الموت، فاعطته ظهرها و راحت تجرجر قدميها. و عندما ابتعدت قليلا استدارشدرخ بوجهه ليرقبها و هي تبتعد. كانت عيناه هو في هذه المرة هما اللتان التمعتا بالدموع، و شئ كالمكواة الساخنة مس قلبه بعذاب مبهم. بالذات و هو يرى الصغير و هو يجري في عقبها كحمل صغير.

***
فقدت طابيثا رجاءها في اهل الارض لكنها لم تفقد ايمانها برحمة الله. و ظلت لايام عدة لا تفتأ تتردد على دار القضاء تقف عبر الشارع من بعيد بعينين زائغتين.
احيانا يلحظها شدرخ. فلا يبدي ملاحظته، و لكن ان حدث و تلاقت اعينهما في نظرة خاطفة، باهتة بلا معنى من قبل طابيثا، و حادة مقطبة من قبل شدرخ حتى لا تتشجع طابيثا و تلح من جديد.. حدث هذا كثيرا فطابيثا صارت كمن يترددد على قبر ميت عزيز، فعند دار القضاء مات املها في استعادة قطعة الارض.
ثم عن لها يوما ان تتجاسر. فماذا ستخسر ان هى الحّت على هامان نفسه. سأعبر الشارع واقف عن قرب من باب دار القضاء، سأنتظر هامان هناك في موعد مجيئه و رواحه، سأحادثه ان واتتني فرصة، ان لم تواتني فسيرى بالتأكيد عينى الدامعتين.
كم من المرات ذهبت لترى نفسها لهامان. عشر مرات؟ عشرين مرة؟
و في يوم استدار نحو طابيثا قبل ان يختفي و ناداها:
- يا امرأة ..
فاسرعت نحوه و هى لا تصدق اذنيها، فالنداء الذي سمعته خال من اي وعيد، بل به – يا للسماء – مس من حنان..
- نعم يا سيدي.. امتك طابيثا
- - تعالى اليّ اخر النهار
- حسنا يا سيدي. ليحفظك الله و يطيل عمرك.
كان شدرخ ينصت و لا يصدق هو الاخر.
و في اخر النهار دخلت المرأة، فقال لها بصوت هادئ غاضب:
- لماذا تزعجيني يا امرأة كل هذا الازعاج؟
- سيدي. زوجي هارون مات منذ سنوات تاركا لى ثلاثة اطفال و قطعة الارض كنت ازرعها و اعول اولادي. ثم جاء عاموس باشا و استولى عليها ..
- حسنا. كيف تثبتين انها ارضك؟
- لا احمل اوراقا تثبت شيئا.
- شهود؟
- شهود! شهود يا سيدي القاضي؟ من هذا الذي يجرؤ ان يقف معي ضد عاموس باشا؟
- و ماذا استطيع فعله و ليس لديك ما يسند قضيتك!
انهمر دمع طابيثا على خديها و لم تجد الكلمات. و صمت الكل لدقيقة وجدت طابيثا بعدها نفسها. ثم انسابت الكلمات من فيها بهدوء كانساب مياه الجدول.. قالت:
- سيدى هامان، ليحرسك الله من كل شر. اتذكر يا سيدي قصة ناثان مع داود. قصة الغني الذي اعتدى على جاره الفقير و اغتصب نعجته الوحيدة الصغيرة ليصنع بها وليمة لضيفه. انه انا ذلك الفقير. سيدى هامان. اعرف ان خصمي قوي بينما امتك ضعيفة.. لكننا كلينا امامك لا نزيد عن كوننا ظالم و مظلوم ..
- كفاك يا امرأة.
قرر هامان ان يستدعى عاموس باشا.. و يدخل عاموس الى دار القضاء و برفقته اثنان من رجاله.
- اتعرف هذه المرأة يا عاموس؟
- لا. لا اعرفها.
- ربما يعرفها رجالك.
فتحول عاموس الى الرجلين و سألهما:
اتعرفان المرأة؟
رد واحد منهما:
- هذه امرأة هارون
- عاموس. اعد لها الارض.
اكفهر وجه عاموس و قد احتقن بالغضب المكبوت. وفحّ بصوته و هو يسأل، صوته خليط من الغضب و الاستعلاء و الاستنكار..
- اى ارض؟
- الارض التي خلفها لها زوجها..
- و لكنني دفعت الثمن!
- للمرأة؟
- لا.
- اذن اعد لها الارض، و لنرى من اخذ منك الثمن حتى نعيده لك.
استدار عاموس ووجد طريقه الى الخارج و رجلاه يتبعانه، و قبل ان يختفي جاءه صوت هامان منذرا..
- عاموس. لا اريد ان اسمع عنك او عن رجالك انكم تضايقون المرأة.. ما ان خرج.. حتى انهمرت من فيها كلمات الشكر و العرفان كمياه السيل..

===
"ان كان القاضي الظالم انصف الارملة من اجل لجاجتها افلا ينصف الله مختاريه الصارخين اليه نهارا و ليلا و هو متمهل عليهم" لو16: 7