لفّ بأصابعٍ مرتجفةٍ لفافة تبغٍ ثم مصها بشغف.. بعد فترة توقف وسحب اخر سحبة من الدخان ورمى بعقب السيجارة وداسها بقدمه ثم لفظ الدخان من خلال شاربيه. ركب الزلاجة منطلقا الى احدى القرى المجاورة لعقد صفقة مع احد التجار.
صاح نيكيتا: ارجوك خذني معك يا سيدي. خذني معك بحق السماء. لابد انك ستحتاج اليّ.
اجابه فاسيلي: ان كنت ستجئ معي فالبس شيئا مدفئا.- ثم صرخ مازحا: لكن لا تسرف في التزين. اسرع!
ذهب فاسيلي الى التاجر واجرى صفقته ثم عاد ادراجه. كان فاسيلي يطرف بعينيه وهو ينحني الى اليمين والى اليسار محاولا ان يتبين الطريق، لكنه كان على الاجمال يترك الحصان و شأنه معتمدا عليه اكثر مما يعتمد على العين. والواقع ان الحصان لم يكن يخطئ، كان يسير منطلقا تارة الى اليمين وتارة الى اليسار متابعا تعرجات الطريق. كان ذلك لمسافة غير كبيرة، اذ اشتدت الريح و تعاظم سقوط الثلج.
اصبحت العاصفة تغشي السموات المظلمة اذ تثير زوابع من الثلج فهي حينا تعوي كما يعوي الوحش وهي حينا اخرى تنوح كما ينوح الطفل. وكان واضحا ان العاصفة الثلجية تهب بعنف اشد من ذي قبل.
فكر فاسيلي: ما اسوأ الطقس! ربما كان من الافضل لنا ان نمكث في المنزل. لكن هذا غير ممكن. الاعمال! ثم اننا قد تهيأنا للسفر. سوف نتخلص من هذا المأزق. وسوف يعيننا الله.
انهم يسيرون في نفس الطريق الذي ساروا فيه مرات قبل ذلك. ومروا امام السنديانة التي انحنت تحت هبات الريح واخذت تصفّر صفيرا حزينا. كانت الريح من القوة بحيث انها اذا هبت من هذه الجهة امالت الزلاجة ودفعت الجواد الى الجهة المقابلة.
مضوا على هذا المنوال عشر دقائق. كانت الثلوج المتساقطة قد اضاعت معالم الطريق، وظلت الغابة غائبة عن النظر. صاح فاسيلي: يبدو اننا قد ضللنا الطريق.
كانت الريح تبدو انها تخمد في بعض اللحظات. لكن فترات الهدوء النسبية لم تدم. فبعد الهدوء كانت العاصفة تعود الى الهبوب باضعاف قوتها، و كأنها تريد ان تستدرك الزمن الذي فاتها. وكانت تكسح الثلج في زوابع بهياج اشد شراسة. وقد انقضت عليهما احدى هذه العواصف في اللحظة التي كان فيها فاسيلي ونيكيتا قد اوقفا الزلاجة وخرجا منها.
قال فاسيلي: ماذا تفعل؟
اجاب نيكيتا و كأنه يعتذر: افك الحصان. ماذا بوسعنا ان نفعل غير ذلك؟ انا منهك.
الا يمكننا متابعة السير؟
والى اين نذهب؟ سنقتل الحصان. انظر اليه. انه لم يعد يستطع الحراك.
واضاف: يجب ان نقضي الليل هنا.
وكأن قضاء الليل هنا كقضاء الليل في النزل،واخذ يفك الحصان.
الا نموت من البرد هنا؟
ربما متنا. لكن ماذا بوسعنا ان نفعل؟
كان فاسيلي يشعر بالدفء بسبب معطفه المصنوع من الفرو. ولكنه بدأ يشعر بالبرد عندما ادرك ان عليهما ان يقضيا الليل في العراء. كا ن يحاول تهدئة نفسه في الزلاجة بينما نيكيتا يفك الحصان وهو لا يكف عن مخاطبة الحصان وتشجيعه. كان يقول له وهو يجره خارج الزلاجة: هيا اخرج. سوف اعطيك شيئا من القش وسأنزع لجامك ( وكان يفعل ما يقوله). فاذا اكلت سوف تشعر بسرور اكبر.
كان واضحا ان كلام نيكيتا لا يفلح في تهدئة الحصان الذي بدأ عليه الاضطراب الشديد. كان يضرب الارض بقدميه ويلتصق بالزلاجة و يفرك رأسه بكم نيكيتا.
تناول الحصان بفمه قليلا من قش الزلاجة وكأنما فعل ذلك لكي لا يحرج نيكيتا ليس غير، لكنه ما لبث ان قرر ترك القش لأن هذه اللحظة ليست للأكل، واستولت الريح في اللحظة نفسها على القش وبددته بعيدا.
قال نيكيتا: اعطني بعض القش. – ثم سحب بعض القش من تحت فاسيلي ومضى الى خلف الزلاجة وحفر حفرة في الثلج وفرشها بالقش. واخذ بدوره يتهيأ للمبيت ففرش في ارض الزلاجة ما بقى من القش. لم يكن يرغب في النوم. كان يفكر في المال الذي سيكسبه. ثم قال: لو كنا نعلم لبتنا في المنزل. لا اهمية لذلك الآن. سنصل غدا بأذن الله.. انني اعمل، ولست كالآخرين الكسالى الذين تلهيهم الحماقات. انا لا انام الليل. وسواء كان الطقس حسنا او سيئا فأنا اسافر لعقد الصفقات. وهكذا يتقدم العمل. يظن البعض ان المال يكسب هكذا: بالمزاح. كلا، عليك ان تعمل وتعمل وتقضي الليل في العراء والا تنام ولفرط التفكير تصبح الوسادة كأنها داخل رأسك. انني اعمل وسيكون الله في عوني. ليعطني الله الصحة فقط.. واخذ يفكر في الماضي ويحلم بالثروات المقبلة ثم تشوشت افكاره واغفى.
لكنه احس على حين غرة بمثل الصدمة واستيقظ. أهو الجواد يحاول ان يسحب من تحته اعوادا من القش ام انها كانت صدمة داخلية. مهما يكن من امر. فأنه استيقظ من جديد واخذ قلبه يدق بقوة وبسرعة بدا له معها ان الزلاجة اخذت ترتجف تحته.
نهض فاسيلي وعاد الى الاضطجاع نحو عشرين مرة. خيّل اليه ان هذه الليلة لا اخر لها. وقال في نفسه اخيرا وهو ينهض وينظر حوله: حقا. شئ مختلف ان يتمدد المر على فراشه في الدفء!. الصبح يقترب الان. بلا شك. آه، لوسحبت ساعتي. لكني سأبرد لو تكشفت. ودس يده تحت ثيابه، و تلمس طويلا قبل ان تبلغ صدرته التي سحب منها بمشقة ساعته الفضية. ونظر اليها ولكنه لم ير شيئا دون اشعال عيدان الكبريت. اضطجع على كوعيه و ركبته ونجح من اول مرة في اشعال عود كبريت ودس الساعة تحت اللهب ونظر.
كانت الساعة تشير الى منتصف الليل الا عشر دقائق فقط. كان الليل في اوله فقال في نفسه: "اوه. ما اطول هذه الليلة". – وسرت في ظهره رعشة. لكنه عاد واضطجع عازما على الصبر. وفجأة سمع صوتا جديدا. صوتا صادرا من كائن حي. ارتفع الصوت تدريجيا. ثم تناقصت شدته بالشكل المنتظم ذاته. كان صوت ذئب. لاشك في ذلك. اصغى فاسيلي بانتباه. وكان الجواد يصغي ايضا، وهو يحرك اذنيه ثم انتفض الجواد على سبيل التنبيه. وبعد ذلك لم يعد بوسع فاسيلي ان ينام. فخرج من الزلاجة ووقف وظهره للهواء وقال: "مالي انتظر الموت هنا؟ سوف امتطي الجواد، وامضي للامام"
اما نيكيتا فلم يحرك ساكنا منذ اللحظة التي جلس فيها في مؤخرة الزلاجة. كان مثل الذين تعودوا الشقاء فتجده قادرا على الانتظار ساعات واياما كاملة دون ان يستشعر غضبا او قلقا. ومع انه كان ما يزال دافئا الا انه يعلم ان هذه الحرارة لن تدوم طويلا. ومرت بباله فكرة وهي انه المحتمل ان يموت هه الليلة. لكن هذه الفكرة لم تبد له كريهة لأن حياته لم تكن البتة بهجة متصلة، بل كانت على العكس عبودية مستمرة. ولم تبد له هذه الفكرة جد مرعبة لأنه كان يحس دائما انه ان نحّى جانبا السادة الذين خدمهم على الارض، مثل فاسيلي – فانه خاضع للسيد الاعظم الذي ارسله الى هذه الحياة، وهو الله تبارك اسمه. وكان يعلم انه ان مات فسيظل خاضعا لهذا السيد وان هذا السيد لن يسئ اليه مطلقا. وقال في نفسه "انها لخسارة ان نهجر ما تعودناه ولكن ما العمل؟ ينبغي ايضا ان نتعود على الجديد". وتساءل "وذنوبي؟" وتذكر ادمانه على السكر والمال الذي انفقه على الشرب، والمعاملة السيئة التي عامل بها امرأته، وعدم ذهابه الى الكنيسة الا نادرا، وجميع الذنوب التي كان الكاهن يلومه عليها عند الاعتراف، وفكر "نعم، صحيح، ذنوبي كثيرة.. لكن كيف نتجنبها؟". ثم اخذ يفكر في سيده المسكين وقال "انه جد تعس لانه لم يبق في القرية..". جميع هذه الافكار اختلطت شيئا فشيئا ثم غفا ولم يصحو الا على حركة فاسيلي وهو ينطلق بالجواد.
فكر نيكيتا لحظة فيما سيفعله. احس انه عاجز عن السير بحثا عن مأوى. وقد بلغ احساسه بالبرد حدا كبيرا فتنهد قائلا:"ايها الاب السماوي" وهدأه الاحساس بأنه ليس وحيدا، وان هناك من يسمعه و لا يتخلى عنه".
صعد الى الزلاجة و تمدد مكان سيده لكنه لم يتوصل الى الدفء وهزت الرجفة جسمه. ثم انقطعت الرجفة وفقد وعيه شيئا فشيئا. لم يكن يعلم ان كان ميتا او نائما لكنه احس بنفسه مستعدا للموت والنوم على حد سواء.
في هذه الاثناء دفع فاسيلي الحصان وهو يضربه بساقيه و يشد اللجام الى الوجهة التى ظنها صحيحة. سار مسافة وفجأة تهاوى الحصان تحته وغاص في ركام من الثلج وسقط على جنبه وهو يتخبط وما ان خلص حتى انتصب ووثب وثبتين وتوارى عن بصره وهو يصهل.
ظل فاسيلي لوحده. اراد ان يندفع وراء دابته لكن الثلج كان شديد العمق وكان رداء الفرو ثقيلا حتى انه لم يستطع ان يسير اكثر من عشرين خطوة وهو يترنح. فتوقف وقد ضاقت انفاسه.
وتساءل "أليس هذا حلما؟" واراد ان يستيقظ لكن هذا الثلج كان حقيقيا وهو يلسع وجهه. انه في انتظار موت محتم. فصرخ "ايتها الام العذراء!" وتذكر قداس البارحة في الكنيسة والايقونة في اطارها المذهب والشموع التي امامها. وفكر "لا ينبغي ان ادع نفسي تنهار. يجب ان اسير على اثار الحصان". – واخذ يركض وهو لا يزال يسقط و ينهض ويعود الى السقوط. ثم ابصر بقعة سوداء. كان ذلك الجواد والزلاجة. اذا لقد عاد به الحصان الى الزلاجة. كان على بعد خمسين خطوة فقط منها.
بعد ان استرد انفاسه نزع حذائه ونفضها ليخلصا من الثلج الذي انسل اليها وكذلك فعل بقفازه الايسر، اما الايمن فقد ضاع ولا سبيل الى استرداده بعد ان دفن تحت الثلج. كان اول عمل بعد ان عاد انه ربط الحصان الى الزلاجة ولكنه رأى في الوقت نفسه شيئا يتحرك في الزلاجة. انتصب رأس نيكيتا من تحت طبقة الثلج التي كانت تغطيه.
قال نيكيتا بصعوبة و بصوت متقطع: ها انذا .. اموت. المال الذي لي عندك .. اعطه لولدي.. او لزوجتي. سيان.
سأله فاسيلي: ماذا .. هل تجمدت؟
قال نيكيتا: انه الموت.. وانا احس به.
ظل فاسيلي بضع ثوان ساكنا صامتا. ثم شمر كم معطفه الفرو واخذ يرمي بيديه الثلج الذي غطى نيكيتا. ثم دفع نيكيتا الى صدر الزلاجة واستلقى عليه وغطاه هكذا بجسمه. وظل مضطجعا هكذا على صدره و رأسه مستندا الى مقدمة الزلاجة. لم يعد يسمع الآن لا حركات الحصان ولا صفير العاصفة لكنه كان يصيخ السمع الى انفاس نيكيتا.
بقى نيكيتا في البدء ساكنا لا يبدي حراكا بعض الوقت ثم تنهد وتحرك تحركا خفيفا. ثم قال: يكفي، اني احس بالدفء.
رد فاسيلي: نعم، يا اخي، الامر هكذا. كدت اهلك. كنت سأموت من البرد، وانت ايضا..
قال فاسيلي: تلك هي حالنا!. انت كنت تقول: انني اموت. ابق هادئا. ادفأ. اما انا.. لكن ما اعظم دهشة فاسيلي لأنه لم يستطع ان يتم كلامه لأن عينيه امتلأتا بالدموع. واخذ فكه الاسفل يرتجف بتشنج فكف عن الكلام وفكر: لقد ضعفت ضعفا شديدا. بيد ان هذا الضعف لم يكن فقط خاليا من الازعاج بل انه اشعره على العكس بفرح شديد لم يشعر به من قبل. فكر فاسيلي في نفسه قائلا: "ليس هذا ذي بال. اني اعرف جيدا ما اعرفه". و صمت، وظل طويلا هكذا.
ان دفء جسد نيكيتا المتمدد تحته والفراء الذي غطى ظهره بعثا فيه الحرارة. بيد ان يدي فاسيلي اللتين كانتا تمسكان باطراف الفراء وقدميه اللتين كان الهواء يتكشفهما بدون انقطاع اخذتا تبردان. لكنه لم يكن يفكر بقدميه و لا بيديه. لم يفكر الا بتدفئة الرجل الذي كان مضطجعا تحته.
انقضت هكذا ساعة ثم اثنتان ثم ثلاث. لم يلاحظ فاسيلي سير الزمن. في البدء رأى في خياله العاصفة والحصان. كان يفكر ايضا في نيكيتا المضطجع تحته ثم امتزجت بهذه الصور ذكريات: تذكر القرية و زوجته. ثم رأى فلاحين يبيعون ويشترون.. ثم اختلط كل شئ وامتصت الصورة الصورة الاخرى، وكما ان الوان قوس قزح المختلطة اذا تمازجت اعطت اللون الابيض، هكذا تلاشت جميع انطباعاته حين اختلط بعضها ببعض ونام.
نام طويلا. نوما لا رؤى فيه. لكنه حلم حلما عند الصباح، ونسيه عند اليقظة.
انه يستيقظ لكنه يستيقظ مختلف تماما عما كان عليه حين نام ويريد ان ينهض فيعجز عن النهوض ويريد ان يحرك يديه فيتعذر عليه ذلك ايضا. ويريد ان يحرك رأسه فلا يقدر ايضا. ويدهشه ذلك كثيرا لكنه لا يحزن البتة. انه يتذكر ان نيكيتا مضطجع تحته وانه دافئ وانه حي ويخيل اليه انه هو فاسيلي، ليس سوى نيكيتا، وان نيكيتا هو فاسيلي. وان حياته هو ليست فيه وانما هي في نيكيتا . انه يستمع فيسمع تنفس نيكيتا بل يسمع غطيطا خفيفا، فيقول في نفسه بفرح: نيكيتا يحيا. وهذا يعني انني انا نفسي احيا.
وبعد ذلك لم يعد فاسيلي يرى او يسمع او يحس بأى شئ في هذا العالم. لقد مات.
استيقظ نيكيتا عند الفجر. ايقظه احساس بالبرد الذي استولى عليه مرة اخرى. هتف بحذر: فاسيلي! فاسيلي!
لكنه لم يجب. ففكر "يا الهي! ايها الآب السماوي! انا ايضا سأرجع اليك! لتكن مشيئتك المقدسة! الامر مؤلم مع ذلك. لكن الانسان لا يموت مرتين".
ويغلق عينه من جديد ويغفو مقتنعا هذه المرة بأنه سيموت حقا.
في اليوم التالي، في ساعة الغذاء، اخرج الفلاحون فاسيلي و نيكيتا من تحت الثلج. على بعد تسعين ذراع فقط من الطريق وعلى بعد نصف فرسخ من القرية.
قضى نيكيتا شهرين في المستشفى،واستطاع ان يعود الى العمل. وعاش بعد ذلك عشرين عاما، واشتغل اولا خادما في مزرعة. وفيما بعد، عندما اصبح عجوزا اشتغل حارسا ليليا. وقد مات في بيته كما كان يرغب، تحت الايقونات وفي يده شمعة. لقد مات سعيدا بصدق لأنه يهجر نهائيا هذه الحياة - التي سئم منها - الى حياة اخرى كانت تبدو له، كلما انقضت السنون، اكثر جلاءا وجاذبية.
تولستوي
صاح نيكيتا: ارجوك خذني معك يا سيدي. خذني معك بحق السماء. لابد انك ستحتاج اليّ.
اجابه فاسيلي: ان كنت ستجئ معي فالبس شيئا مدفئا.- ثم صرخ مازحا: لكن لا تسرف في التزين. اسرع!
ذهب فاسيلي الى التاجر واجرى صفقته ثم عاد ادراجه. كان فاسيلي يطرف بعينيه وهو ينحني الى اليمين والى اليسار محاولا ان يتبين الطريق، لكنه كان على الاجمال يترك الحصان و شأنه معتمدا عليه اكثر مما يعتمد على العين. والواقع ان الحصان لم يكن يخطئ، كان يسير منطلقا تارة الى اليمين وتارة الى اليسار متابعا تعرجات الطريق. كان ذلك لمسافة غير كبيرة، اذ اشتدت الريح و تعاظم سقوط الثلج.
اصبحت العاصفة تغشي السموات المظلمة اذ تثير زوابع من الثلج فهي حينا تعوي كما يعوي الوحش وهي حينا اخرى تنوح كما ينوح الطفل. وكان واضحا ان العاصفة الثلجية تهب بعنف اشد من ذي قبل.
فكر فاسيلي: ما اسوأ الطقس! ربما كان من الافضل لنا ان نمكث في المنزل. لكن هذا غير ممكن. الاعمال! ثم اننا قد تهيأنا للسفر. سوف نتخلص من هذا المأزق. وسوف يعيننا الله.
انهم يسيرون في نفس الطريق الذي ساروا فيه مرات قبل ذلك. ومروا امام السنديانة التي انحنت تحت هبات الريح واخذت تصفّر صفيرا حزينا. كانت الريح من القوة بحيث انها اذا هبت من هذه الجهة امالت الزلاجة ودفعت الجواد الى الجهة المقابلة.
مضوا على هذا المنوال عشر دقائق. كانت الثلوج المتساقطة قد اضاعت معالم الطريق، وظلت الغابة غائبة عن النظر. صاح فاسيلي: يبدو اننا قد ضللنا الطريق.
كانت الريح تبدو انها تخمد في بعض اللحظات. لكن فترات الهدوء النسبية لم تدم. فبعد الهدوء كانت العاصفة تعود الى الهبوب باضعاف قوتها، و كأنها تريد ان تستدرك الزمن الذي فاتها. وكانت تكسح الثلج في زوابع بهياج اشد شراسة. وقد انقضت عليهما احدى هذه العواصف في اللحظة التي كان فيها فاسيلي ونيكيتا قد اوقفا الزلاجة وخرجا منها.
قال فاسيلي: ماذا تفعل؟
اجاب نيكيتا و كأنه يعتذر: افك الحصان. ماذا بوسعنا ان نفعل غير ذلك؟ انا منهك.
الا يمكننا متابعة السير؟
والى اين نذهب؟ سنقتل الحصان. انظر اليه. انه لم يعد يستطع الحراك.
واضاف: يجب ان نقضي الليل هنا.
وكأن قضاء الليل هنا كقضاء الليل في النزل،واخذ يفك الحصان.
الا نموت من البرد هنا؟
ربما متنا. لكن ماذا بوسعنا ان نفعل؟
كان فاسيلي يشعر بالدفء بسبب معطفه المصنوع من الفرو. ولكنه بدأ يشعر بالبرد عندما ادرك ان عليهما ان يقضيا الليل في العراء. كا ن يحاول تهدئة نفسه في الزلاجة بينما نيكيتا يفك الحصان وهو لا يكف عن مخاطبة الحصان وتشجيعه. كان يقول له وهو يجره خارج الزلاجة: هيا اخرج. سوف اعطيك شيئا من القش وسأنزع لجامك ( وكان يفعل ما يقوله). فاذا اكلت سوف تشعر بسرور اكبر.
كان واضحا ان كلام نيكيتا لا يفلح في تهدئة الحصان الذي بدأ عليه الاضطراب الشديد. كان يضرب الارض بقدميه ويلتصق بالزلاجة و يفرك رأسه بكم نيكيتا.
تناول الحصان بفمه قليلا من قش الزلاجة وكأنما فعل ذلك لكي لا يحرج نيكيتا ليس غير، لكنه ما لبث ان قرر ترك القش لأن هذه اللحظة ليست للأكل، واستولت الريح في اللحظة نفسها على القش وبددته بعيدا.
قال نيكيتا: اعطني بعض القش. – ثم سحب بعض القش من تحت فاسيلي ومضى الى خلف الزلاجة وحفر حفرة في الثلج وفرشها بالقش. واخذ بدوره يتهيأ للمبيت ففرش في ارض الزلاجة ما بقى من القش. لم يكن يرغب في النوم. كان يفكر في المال الذي سيكسبه. ثم قال: لو كنا نعلم لبتنا في المنزل. لا اهمية لذلك الآن. سنصل غدا بأذن الله.. انني اعمل، ولست كالآخرين الكسالى الذين تلهيهم الحماقات. انا لا انام الليل. وسواء كان الطقس حسنا او سيئا فأنا اسافر لعقد الصفقات. وهكذا يتقدم العمل. يظن البعض ان المال يكسب هكذا: بالمزاح. كلا، عليك ان تعمل وتعمل وتقضي الليل في العراء والا تنام ولفرط التفكير تصبح الوسادة كأنها داخل رأسك. انني اعمل وسيكون الله في عوني. ليعطني الله الصحة فقط.. واخذ يفكر في الماضي ويحلم بالثروات المقبلة ثم تشوشت افكاره واغفى.
لكنه احس على حين غرة بمثل الصدمة واستيقظ. أهو الجواد يحاول ان يسحب من تحته اعوادا من القش ام انها كانت صدمة داخلية. مهما يكن من امر. فأنه استيقظ من جديد واخذ قلبه يدق بقوة وبسرعة بدا له معها ان الزلاجة اخذت ترتجف تحته.
نهض فاسيلي وعاد الى الاضطجاع نحو عشرين مرة. خيّل اليه ان هذه الليلة لا اخر لها. وقال في نفسه اخيرا وهو ينهض وينظر حوله: حقا. شئ مختلف ان يتمدد المر على فراشه في الدفء!. الصبح يقترب الان. بلا شك. آه، لوسحبت ساعتي. لكني سأبرد لو تكشفت. ودس يده تحت ثيابه، و تلمس طويلا قبل ان تبلغ صدرته التي سحب منها بمشقة ساعته الفضية. ونظر اليها ولكنه لم ير شيئا دون اشعال عيدان الكبريت. اضطجع على كوعيه و ركبته ونجح من اول مرة في اشعال عود كبريت ودس الساعة تحت اللهب ونظر.
كانت الساعة تشير الى منتصف الليل الا عشر دقائق فقط. كان الليل في اوله فقال في نفسه: "اوه. ما اطول هذه الليلة". – وسرت في ظهره رعشة. لكنه عاد واضطجع عازما على الصبر. وفجأة سمع صوتا جديدا. صوتا صادرا من كائن حي. ارتفع الصوت تدريجيا. ثم تناقصت شدته بالشكل المنتظم ذاته. كان صوت ذئب. لاشك في ذلك. اصغى فاسيلي بانتباه. وكان الجواد يصغي ايضا، وهو يحرك اذنيه ثم انتفض الجواد على سبيل التنبيه. وبعد ذلك لم يعد بوسع فاسيلي ان ينام. فخرج من الزلاجة ووقف وظهره للهواء وقال: "مالي انتظر الموت هنا؟ سوف امتطي الجواد، وامضي للامام"
اما نيكيتا فلم يحرك ساكنا منذ اللحظة التي جلس فيها في مؤخرة الزلاجة. كان مثل الذين تعودوا الشقاء فتجده قادرا على الانتظار ساعات واياما كاملة دون ان يستشعر غضبا او قلقا. ومع انه كان ما يزال دافئا الا انه يعلم ان هذه الحرارة لن تدوم طويلا. ومرت بباله فكرة وهي انه المحتمل ان يموت هه الليلة. لكن هذه الفكرة لم تبد له كريهة لأن حياته لم تكن البتة بهجة متصلة، بل كانت على العكس عبودية مستمرة. ولم تبد له هذه الفكرة جد مرعبة لأنه كان يحس دائما انه ان نحّى جانبا السادة الذين خدمهم على الارض، مثل فاسيلي – فانه خاضع للسيد الاعظم الذي ارسله الى هذه الحياة، وهو الله تبارك اسمه. وكان يعلم انه ان مات فسيظل خاضعا لهذا السيد وان هذا السيد لن يسئ اليه مطلقا. وقال في نفسه "انها لخسارة ان نهجر ما تعودناه ولكن ما العمل؟ ينبغي ايضا ان نتعود على الجديد". وتساءل "وذنوبي؟" وتذكر ادمانه على السكر والمال الذي انفقه على الشرب، والمعاملة السيئة التي عامل بها امرأته، وعدم ذهابه الى الكنيسة الا نادرا، وجميع الذنوب التي كان الكاهن يلومه عليها عند الاعتراف، وفكر "نعم، صحيح، ذنوبي كثيرة.. لكن كيف نتجنبها؟". ثم اخذ يفكر في سيده المسكين وقال "انه جد تعس لانه لم يبق في القرية..". جميع هذه الافكار اختلطت شيئا فشيئا ثم غفا ولم يصحو الا على حركة فاسيلي وهو ينطلق بالجواد.
فكر نيكيتا لحظة فيما سيفعله. احس انه عاجز عن السير بحثا عن مأوى. وقد بلغ احساسه بالبرد حدا كبيرا فتنهد قائلا:"ايها الاب السماوي" وهدأه الاحساس بأنه ليس وحيدا، وان هناك من يسمعه و لا يتخلى عنه".
صعد الى الزلاجة و تمدد مكان سيده لكنه لم يتوصل الى الدفء وهزت الرجفة جسمه. ثم انقطعت الرجفة وفقد وعيه شيئا فشيئا. لم يكن يعلم ان كان ميتا او نائما لكنه احس بنفسه مستعدا للموت والنوم على حد سواء.
في هذه الاثناء دفع فاسيلي الحصان وهو يضربه بساقيه و يشد اللجام الى الوجهة التى ظنها صحيحة. سار مسافة وفجأة تهاوى الحصان تحته وغاص في ركام من الثلج وسقط على جنبه وهو يتخبط وما ان خلص حتى انتصب ووثب وثبتين وتوارى عن بصره وهو يصهل.
ظل فاسيلي لوحده. اراد ان يندفع وراء دابته لكن الثلج كان شديد العمق وكان رداء الفرو ثقيلا حتى انه لم يستطع ان يسير اكثر من عشرين خطوة وهو يترنح. فتوقف وقد ضاقت انفاسه.
وتساءل "أليس هذا حلما؟" واراد ان يستيقظ لكن هذا الثلج كان حقيقيا وهو يلسع وجهه. انه في انتظار موت محتم. فصرخ "ايتها الام العذراء!" وتذكر قداس البارحة في الكنيسة والايقونة في اطارها المذهب والشموع التي امامها. وفكر "لا ينبغي ان ادع نفسي تنهار. يجب ان اسير على اثار الحصان". – واخذ يركض وهو لا يزال يسقط و ينهض ويعود الى السقوط. ثم ابصر بقعة سوداء. كان ذلك الجواد والزلاجة. اذا لقد عاد به الحصان الى الزلاجة. كان على بعد خمسين خطوة فقط منها.
بعد ان استرد انفاسه نزع حذائه ونفضها ليخلصا من الثلج الذي انسل اليها وكذلك فعل بقفازه الايسر، اما الايمن فقد ضاع ولا سبيل الى استرداده بعد ان دفن تحت الثلج. كان اول عمل بعد ان عاد انه ربط الحصان الى الزلاجة ولكنه رأى في الوقت نفسه شيئا يتحرك في الزلاجة. انتصب رأس نيكيتا من تحت طبقة الثلج التي كانت تغطيه.
قال نيكيتا بصعوبة و بصوت متقطع: ها انذا .. اموت. المال الذي لي عندك .. اعطه لولدي.. او لزوجتي. سيان.
سأله فاسيلي: ماذا .. هل تجمدت؟
قال نيكيتا: انه الموت.. وانا احس به.
ظل فاسيلي بضع ثوان ساكنا صامتا. ثم شمر كم معطفه الفرو واخذ يرمي بيديه الثلج الذي غطى نيكيتا. ثم دفع نيكيتا الى صدر الزلاجة واستلقى عليه وغطاه هكذا بجسمه. وظل مضطجعا هكذا على صدره و رأسه مستندا الى مقدمة الزلاجة. لم يعد يسمع الآن لا حركات الحصان ولا صفير العاصفة لكنه كان يصيخ السمع الى انفاس نيكيتا.
بقى نيكيتا في البدء ساكنا لا يبدي حراكا بعض الوقت ثم تنهد وتحرك تحركا خفيفا. ثم قال: يكفي، اني احس بالدفء.
رد فاسيلي: نعم، يا اخي، الامر هكذا. كدت اهلك. كنت سأموت من البرد، وانت ايضا..
قال فاسيلي: تلك هي حالنا!. انت كنت تقول: انني اموت. ابق هادئا. ادفأ. اما انا.. لكن ما اعظم دهشة فاسيلي لأنه لم يستطع ان يتم كلامه لأن عينيه امتلأتا بالدموع. واخذ فكه الاسفل يرتجف بتشنج فكف عن الكلام وفكر: لقد ضعفت ضعفا شديدا. بيد ان هذا الضعف لم يكن فقط خاليا من الازعاج بل انه اشعره على العكس بفرح شديد لم يشعر به من قبل. فكر فاسيلي في نفسه قائلا: "ليس هذا ذي بال. اني اعرف جيدا ما اعرفه". و صمت، وظل طويلا هكذا.
ان دفء جسد نيكيتا المتمدد تحته والفراء الذي غطى ظهره بعثا فيه الحرارة. بيد ان يدي فاسيلي اللتين كانتا تمسكان باطراف الفراء وقدميه اللتين كان الهواء يتكشفهما بدون انقطاع اخذتا تبردان. لكنه لم يكن يفكر بقدميه و لا بيديه. لم يفكر الا بتدفئة الرجل الذي كان مضطجعا تحته.
انقضت هكذا ساعة ثم اثنتان ثم ثلاث. لم يلاحظ فاسيلي سير الزمن. في البدء رأى في خياله العاصفة والحصان. كان يفكر ايضا في نيكيتا المضطجع تحته ثم امتزجت بهذه الصور ذكريات: تذكر القرية و زوجته. ثم رأى فلاحين يبيعون ويشترون.. ثم اختلط كل شئ وامتصت الصورة الصورة الاخرى، وكما ان الوان قوس قزح المختلطة اذا تمازجت اعطت اللون الابيض، هكذا تلاشت جميع انطباعاته حين اختلط بعضها ببعض ونام.
نام طويلا. نوما لا رؤى فيه. لكنه حلم حلما عند الصباح، ونسيه عند اليقظة.
انه يستيقظ لكنه يستيقظ مختلف تماما عما كان عليه حين نام ويريد ان ينهض فيعجز عن النهوض ويريد ان يحرك يديه فيتعذر عليه ذلك ايضا. ويريد ان يحرك رأسه فلا يقدر ايضا. ويدهشه ذلك كثيرا لكنه لا يحزن البتة. انه يتذكر ان نيكيتا مضطجع تحته وانه دافئ وانه حي ويخيل اليه انه هو فاسيلي، ليس سوى نيكيتا، وان نيكيتا هو فاسيلي. وان حياته هو ليست فيه وانما هي في نيكيتا . انه يستمع فيسمع تنفس نيكيتا بل يسمع غطيطا خفيفا، فيقول في نفسه بفرح: نيكيتا يحيا. وهذا يعني انني انا نفسي احيا.
وبعد ذلك لم يعد فاسيلي يرى او يسمع او يحس بأى شئ في هذا العالم. لقد مات.
استيقظ نيكيتا عند الفجر. ايقظه احساس بالبرد الذي استولى عليه مرة اخرى. هتف بحذر: فاسيلي! فاسيلي!
لكنه لم يجب. ففكر "يا الهي! ايها الآب السماوي! انا ايضا سأرجع اليك! لتكن مشيئتك المقدسة! الامر مؤلم مع ذلك. لكن الانسان لا يموت مرتين".
ويغلق عينه من جديد ويغفو مقتنعا هذه المرة بأنه سيموت حقا.
في اليوم التالي، في ساعة الغذاء، اخرج الفلاحون فاسيلي و نيكيتا من تحت الثلج. على بعد تسعين ذراع فقط من الطريق وعلى بعد نصف فرسخ من القرية.
قضى نيكيتا شهرين في المستشفى،واستطاع ان يعود الى العمل. وعاش بعد ذلك عشرين عاما، واشتغل اولا خادما في مزرعة. وفيما بعد، عندما اصبح عجوزا اشتغل حارسا ليليا. وقد مات في بيته كما كان يرغب، تحت الايقونات وفي يده شمعة. لقد مات سعيدا بصدق لأنه يهجر نهائيا هذه الحياة - التي سئم منها - الى حياة اخرى كانت تبدو له، كلما انقضت السنون، اكثر جلاءا وجاذبية.
تولستوي