في الدير
في وسط صحراء وادي النطرون، و في تمام الساعة الرابعة
فجرا، تدق اجراس كنيسة الدير كل يوم معلنة للرهبان ان يستيقظوا لتأدية الصلاة
الجماعية في داخل الكنيسة .. في ذلك اليوم دوى اصوات الدقات المتوالية واستيقظ كل
راهب من نومه و بنشاط وحيوية خرج كل منهم – شيخا او شابا – من صومعته يتلمس طريقه
تجاه الكنيسة في وسط الظلام.. خرجوا فرادى واحدا فواحدا و كأنهم اشباحا سوداء
يسيرون في هدوء وصمت كامل لم تعتده الجماعات البشرية.. لا يحدث احدهم الاخر ، و لا
يحاول اللحاق بمن هو امامه.. انما يسيرون في بطء ووقار واذا قابل احدهم غيره لا
تسمع سوى صوتا خافتا يلقي التحية قائلا: "السلام لك" و يجيبه الاخر:
"ولروحك ايضا" مع انحناءة خفيفة.. واذ يدخل الراهب الى الكنيسة على ضوء
الشموع الخافتة يسير بوقار وخشوع تجاه الهيكل حيث يقف قدام الهيكل لحظة ثم يركع
ساجدا الى الارض ثلاث مرات ويتلو الصلاة الربية ويقبل ستر الهيكل ثم يدور مقبلا
ايدي الرهبان الموجودين مع انحناءة الظهر يرافقها انحناءة من يقبله.. و يتم هذا
كله في لحظات بغير كلمة
او همسة مهما كانت الظروف ثم يحاول بسرعة خاطفة ان يجد لنفسه مكانا في اخر صف او
وراء عمود. ولم تمر دقائق حتى تجمع الرهبان واحتشدت الكنيسة بهم وبدا الكل بصوت
واحد جهوري يسبحون بالمزامير بقلوب متيقظة متهللة تلهج بحب خالقها.
كان المنظر بحق بديعا للغاية.. ترى وجوه
الكثير وقد تغطت ، و لكن على اضواء الشموع والقناديل المضيئة امام صور الرب يسوع
والقديسين تتكشف ابتسامات خفيفة وبشاشة على وجوههم غير مصطنعة وكأن كل منهم عروس
تسعد بخطيبها منتظرة يوم عرسها الحقيقي.. يقفون في خشوع داخلي و خارجي كملائكة
الله خدام الله القدوس او قل عنهم كبشر سمائيين ليس لهم مستقر على الارض و لا
للارضيات مكانا في قلوبهم. وفي وسط هذا المنظر الجميل وذلك الصوت لهادئ العذب كنت
تسمع في فترات الصمت اصوات تنهد مختلفة و زفرات عنيفة مكتومة ولم يكن احد منهم
يعير هذا الامر اهتماما اذ اعتادوا الا ينظر احد الى اخيه حتى يترك له حريته يبكي
او يتنهد من اجل خطاياه بغير حرج.
+++
انتهت صلوات المزامير ثم تقدم الاب يوحنا
ليفتح الكتاب المقدس و يفسر لهم فصلا كعادته. امسك الاب بالكتاب واذ بدأت شفتاه
تتحركان لتنطق حتى غلبته دموعه وتدفقت من عينيه بلا ضابط فأحنى رأسه واتكأ على
عكازه وبغير ارادته تفجرت تنهدات قلبه المكتومة وكان منظره كشيخ فقد وحيدا له او
يتيم فقد والديه..
مرت دقائق على هذا المنظر والرهبان حوله لا
يجرؤن ان يسألوه عن سبب بكائه .. الكل في حياء شديد وبخشوع احنى كل راهب شاب او
شيخ رأسه وارتفعت صلوت سرية من قلوب الكثيرين..
تمالك الاب نفسه قليلا و بدأ يقطع الصمت
قارئا من الانجيل فصلا بصوت هادئ منخفض مسموع.واخيرا ختم القراءة بقوله:
"اخوتي الاحباء..
ارجو ايها الاعزاء ان تسامحوني لانني
احزنتكم .
لكن لم يكن هذا بارادتي فانا لي اياما كثيرة
لم اخرج من قلايتي الا نادرا .ز وانا اليوم اشعر بضرورة مشاركتكم لي في حزني
ودموعي وصومي وصلاتي.. لتسكبوا معي الدم لا الدمع فقط .. فان الامر بحق
خطير".
واذا صمت قليلا بدأ الكل يفكر "ماذا يا
ترى يكون هذا الامر؟ اننا لم نرى قط ابانا حزينا الا من اجل النفوس الساقطة .. فهل
انحرف احد عن طريق الرب ؟ او كسر راهب نذره؟ ام ماذا؟ .. ".
ولم يخطئ الكل في فكرهم اذ اردف الاب يقول:
"احبائي..
اي اب يرى ابنه قد اصابه العمى وصار يتعثر
كثيرا حتى تجرح جسده وترضضت عظامه اما يبكيه حزنا ويسرع اليه ليحتضنه ويقدمه لطبيب
حاذق يضمد جراحه و يعينه حتى بعد شفاءه من الجراحات؟!
من يرى له ابنا تشتعل فيه النيران، و لا
يجرى نحوه و يفعل كل ما بوسعه لانقاذه؟
نعم.. ان لنا شخصا عزيزا علينا جدا.
عزيز في عيني يسوع . و قد فقد بصره تما و
تعثر كثيرا و بأ ينجرف و يهوى .. يهوى بلا توقف نحو الجحيم السفلي!
لقد مرت عليه سنوات ونفسه في تيه،و عظامه
تترضض وقلبه يتمزق ونحن واقفين صامتين كأنه لا يعنينا امره .
اين تهربون يا اخوتي، فان نفسه تطلب منكم.
كيف نخلص ونحن متغافلون عنه؟
وعندئذ اخذ الاب يبكي بشدة وصار الكل
يشاركونه بكاءه،.. في مرارة قلب مع رجاء وثقة في يد الله القادرة المخلصة..
همس احدهم قائلا "من هو هذا الذي كسر
قلب ابينا؟"
ألم تقل انه يلزمنا الا نقبل في الدير الا
من يثبت استقامته سنوات طويلة حتى لا ينحرف و يرتد فيتعب و يتعبنا معه؟
وهمس اخر بصوت مسموع "وماذا تعمل يا
ابي، و انت لم تترك جهدا الا و بذلته من اجل سلوكنا في طريق الخلاص و لاجل بنياننا
الروحي؟
هل يطالبك الله بأكثر مما تحتمل؟
اترك يا ابي مثل ذاك الذي تقول عنه ان له
سنوات منحرفا ما دمت قد فعلت كل ما اعطاك الرب من نعمة ان تفعله؟
هل تموت يا ابي بسببه فنخسرك جميعا؟
ليطرد مثل هذا ويموت واحد عنيد طالما رفض
نصائحك.
واذا سمع الاب مثل هذا القول اغتم للحال و
لم يستطع ان يصمت .. انما وبخ الاخ قائلا:
ما هذا الكلام الذي اسمعه منك يا ابني؟
كيف تجاسرت وسلمت فمك لينطق به عدو الخير؟
اما تعلمون ايها الاحباء ان المحبة الاخوية
في الرب تكميل الناموس والوصايا والبحث عن الخروف الضال لا يوازيه شئ قط؟
ألم يترك ابونا انطونيوس مغارته ليشجع نفوس
المتقدمين للاستشهاد ويعين ابانا البابا اثناسيوس في جهاده ضد اريوس الهرطوقي؟
هل لاننا رهبان نعتزل عن الكنيسة؟ لا ، بل
اولاد الله الحقيقيون هم في داخل الكنيسة يشعرون بالامها و اتعابها حتى وان كانوا
رهبانا متوحدين او سواحا مجاهدين.
اما تعلم انه حتى الاحباء النتقلين الى
الفردوس يصلون من اجلنا نحن الخطاة وهم في هذا يشتركون مع الملائكة في فرحهم بتوبة
الخاطئ اكثر من تسعة وتسعون بارا لا يحتاجون الى توبة..
واذ سمع الاخ هذا القول تقدم وصنع ميطانية
(سجود) وقال لابيه "اخطأت الى الرب . سامحني يا ابي فاني جاهل..".
وقطع اخ قول الاول بسؤال الاب "من هو
هذا الذي تتحدث عنه يا ابانا حتى نصلي من اجله ونصنع معه ما تريد؟"
اجاب الاب " انه ليس بيننا يا ابني بل
هو علماني".
واردف الاب يقول "انه انسان عزيز علينا
يا اولاي.. انها سيدة فاضلة!".
لقد كانت محبة لله، تفتح بيتها ليأوى
الغرباء وتتكئ الفقراء على مائدتها..
انها بائيسة التي حادت عن طريق الرب ولم تعد
اناءا للكرامة بل فتحت بيتها للدعارة وكرست قلبها للشيطان وخصصت جمال جسدها
لاصطياد النفوس..
هذه التي كانت يوما ما عضوا حيا عاملا في
كرم الرب..
صمت الاب قليلا وكأنه يسترجع ذكرياته مفكرا
في حياة المرأة الاولى. و اذا بقلوب الكثيرين ترفعصلاة من اجلها".
صرخ احدهم في داخل نفسه "ارحم يارب
شعبك. خلّص نفوس عبيدك بقوة صليبك المحيي".
وقال ثان"امرأة فاضلة هكذا تسقط الى
اعماق الرذيلة؟! احفظنا يارب بنعمتك من فخاخ العدو".
وقال ثالث "أبعد ما فتحت بيتها للفقراء
وقدمت الكثير للمحتاجين. هل تنساها يا الله؟".
وقال رابع "من يقدر ان يتبرر امامك
يارب؟
ليس مولود امرأة بلا خطية ولو كانت حياته
يوما واحدا. لكن بحق دمك المسفوك على الصليب احفظ نفس عبدتك وردها اليك".
وبينما الكل في هدوء يصلي بطريقة او اخرى. عاد
الاب يخاطب اولاده قائلا:
"اولادي الاعزاء..
كلنا نشتاق الى خلاص كل البشر وخاصة هذه
المرأة الفاضلة التي ما كانت تكف عن العطاء ..
لكن العدو في مكره هاجمها اولا بالكسل
والتراخي يوما بعد يوم. حتى فترت واستسلمت.. وللحال حاصرتها افكار الشهوة والدنس..
واخيرا في خنوع احنت كتفيها لنير الخطية الثقيل.
وبدلا من ان ترفع عيناها الى الرب انطرحت
امام العدو في يأس قاتل. واذ فقدت الرجاء فتحت بيتها للدعارة ..
لقد صارت المسكينة اسيرة واسرت كثيرين معها
لعبودية الخطية..".
واذ انهى الاب حديثه صار كثيرون يقولون
"ماذا تريدنا ايها الاب ان نفعل؟
اننا مستعدون ان نذهب اليها!"
وفي هدوء طلب منهم ان يرفعوا صلاة من اجلها
قائلا لهم: انه بالصوم والصلاة نخرج الشياطين.
آزروني ايها الاحباء باصوامكم وصلواتكم
واذهب انا الضعيف اليها وانا واثق انه بنعمة الله ترد الى حظيرة الخراف ثانية.
صلوا ليهبني الرب نعمة في عينيها وتسمع صوت
الرب على فمي.
ثم استودعهم الرب وركب دابته قاصدا مدينة
منف.
+++
في بيت
الدعارة
اقترب يوحنا من منف حيث ظهرت بعض قصورها
الفخمة من بعيد كلعب صغيرة الحجم ، لكن قلب الاب لم ينشغل بشئ منها حتى لمحت عيناه
منارة احدى الكنائس فتوقف ورشم نفسه بعلامة الصليب ثم نزل عن دابته وسجد الى الارض
مصليا ومستشفعا بالقديسين.
عاود الاب سيره تجاه المدينة واتجه على
الفور نحو الكنيسة حيث وجد بابها مفتوحا فدخل.. وببطء شديد وسكون سار نحو الهيكل
وسجد امامه ثلاث مرات مصليا. ثم تراجع الى الوراء حتى اقترب الى اخر عمود فوقف
وراءه وصار يبكي بمرارة..
نلى الصلاة الربانية ثم صلاة الشكر ثم مزمور
التوبة ثم اخذ يصرخ الى الله من اجل المسكينة من غير ان يسمع احد صوته.. واذ كانت
دموعه تغلبه كان يردد في قلبه قول داود النبي "الكآبة ملكتني من اجل الخطاة
الذين حادوا عن طريقك". واختتم صلاته قائلا:
"يارب هي ابنتك.. جبلة يديك!
انت تحبها اكثر منا.. هل نغير نحن عليها
مثلك؟
اذكر يارب محبتها الاولى لك. اذكر يارب ضعف
طبيعتنا وشدة خداع عدونا ابليس للعين.
تعهد يارب هذه الكرمة من اجل محبتك. بقوة
صليبك اكسر قساوة قلبها. وارو نفسها منك ايها العصارة المحيية حتى تأتى بثمر كثير.
مسح عينيه ثم غادر الكنيسة .. وعندما وصل
الى بيت بائيسة رشم نفسه بعلامة الصليب ثم قرع الباب ففتحت الخادمة. واذ رأته
سألته بطريقة استفزازية "ماذا تريد يا راهب؟ فأجابها "السيدة
بائيسة".
-
ماذا اقول لها. من يريدها؟
-
يوحنا الراهب
-
هل تعرفك؟
-
نعم
فأدركت الخادمة ان الراهب يعلم حياة سيدتها.
وظنته انه جاء ليرتكب معها الشر فقالت له "ان سيدتي نائمة. تفضل الى حجر
الاستقبال حتى اخبرها بوجودها" ثم ادخلته في حجرة الجلوس حيث الاثاث الفاخر
والصور الخليعة و الرياحين تملأ البيت. وفي وسط هذا الجو دخل الاب وهو يترنم
"اذا سرت في وادي ظل الموت لا اخاف شرا لأنك انت معي" واذ جلس اتكأ رأسه
وصار يتلومزاميره حتى انقطعت ساعة او اكثر دون ان يشعر بذلك.. و فيما هو على هذا
الحال قاطعته الخادمة بقولها "ان سيدتي قد تهيأت .. فتفضل.. انها تنتظرك يا
راهب".
ثم تقدمت وهو يسير خلفها حتى بلغ الى حجرة
خافتة الضوء، وهناك وجد السيدة تستقبله استقبالا حارا، لكنه مملوء دلالا وميوعة.. حاولت
السيدة ان تثير الراهب بملابسها الخليعة وحركاتها المثيرة.. اما هو فلم يرفع نظره
اليها بل ظل مطرقا برأسه الى اسفل ثم في وقار التفت اليها و قال "يا سيدتي .
لقد تعودنا نحن الرهبان ألا نبدأ عملا الا بالصلاة. فلنصل اولا..". ولم ينتظر
منها اية اجابة انما للحال ركع وسجد على الارض وبحركة لا شعورية انحنت هي وسجدت
معه. بدأت الدموع تنهمر من عينيه وبصوت خاشع صلى قائلا :
ايها العريس السماوي الرب يسوع..
انت عريس نفوسنا الحقيقي.
لك وحدك ينبغي ان تتزين نفوسنا.
افتح عيني ابنتك لتراك في مجدك وبهائك وتدرك
عزك وجلالك.. فانني اعاين الشياطين تلهو على وجهها.
افتح اذاننا فنسمعك ايها الكلمة الالهي
ونستعذب صوتك.. ونزدري بتملقات الاشرار المراوغين.
يا رائحة الحياة الالهي، هب لنا حاسة جديدة
للشم فتجذبنا نحو رائحتك الذكية ونرفض
روائح اطياب العالم..
ربنا، نق فينا حاسة التذوق حتى نقدر ان
نتذوقك.
هب لنا قلبا لا يفيض الا بحبك و نفسا تعشقك
وفكرا يدرك اسرارك وعقلا يستريح فيك و يتحد بحكمتك دائما.
اي عريس احب عروسه مثلك. قدمت لها ذاتك
مذبوحا لتشبعها من جسدك المحيي وترويها من دمك المسفوك لاجلها.
اقبلنا اليك يا فاتح الفردوس للص وفاتح قلبك
للزناةوالعشارين.
اعنا يارب حتى نلاقيك بالفرح يوم الدينونة
.. لانه بماذا نجيب عندما نقف امامك ايها الديان العادل.
واذ كانت بائيسة تنصت الى صلاة الراهب
الخاشعة سرعان ما جرت من عينيها الدموع وامتلأ قلبها بالمخافة الالهية ..
واذ انتهى الاب يوحنا من صلاته كانت دموعها
قد بللت ثيابها واذ بها تقول له:
هل لي توبة يا ابي؟..هل يعود الله
فيرحمني؟.. هل ينزع الله نجاساتي؟ .. هل ينسى كل شري؟ وهل يقبلني مرة اخرى؟
فصار الاب يهدئ من نفسها مذكرا اياها بمحبة
الله وحنوه. واخيرا قالت له: ماذا افعل يا ابي؟
-
الله يطلب منك ان تتوبي وتعترفي بخطاياكي وتتركي
بيت الشر ولا تعودي الى الخطية مرة اخرى.
-
ها انا بين يديك يا ابي.. لا تتركني حتى
تنشلني بالتمام من مراغة الحمأة.
-
يا بنيتي لن اتركك حتى اسلمك الى احد الاباء
في المدينة وهو يهئ لك مكانا اخر تعيشين فيه.
وعندئذ ازداد بكاءها وهي تقول: ارجوك يا ابي
ان تخرجني من هذه المدينة. انني لا استطيع ان ارى البيت و لا المدينة كلها. اريد
ان اهرب.. اريد ان احيا للرب. كفى السنين التي ضاعت. خذني معك الى احد اديرة
النساء لكي احيا هناك باكية كل ايام حياتي على قسوة قلبي و شري.
عودة الى الدير
منذ خرج الاب من الدير والرهبان كلهم كانوا
في حزن على هذه النفس المسكينة وهم قيام مصلين لاجلها. وفي ذات يوم بينما كان احد
الرهبان على سور الدير رأى من بعيد الاب يوحنا اتيا.
نزل الاب واخبر اخوته الرهبان وفي الحال
تجمع عدد كبير من الرهبان والكل يتساءل "ماذا يا ترى قد تم في امره
بائيسة؟". عندما دخل الاب يوحنا من باب الدير سجد للارض وصنع ميطانية لكل
الرهبان وفعلوا هم المثل ثم دخل الى الكنيسة حيث صلوا صلاة الشكر .. ثم وقف وبدأ
يخبرهم بأمر بائيسة مختتما حديثه قائلا:
"كنت يا اخوتي اصلي بمرارة نفس ولم اكن
اعرف ماذا اقول؟ لكن نعمة الله انتشلت هذه المسكينة اذ استجاب الرب لصلواتكم .. اذ
غادرت بيت الشر دون ان تخبر حتى خادمتها ماذا تفعل بأثاث البيت او جواهرها اذ لم يكن
فغلها منشغلا الا بشئ واحد هو خلاص نفسها.. ثم اطرق برأسه الى الارض لبرهة . فسأل
احد الرهبان : واين هي الان؟
لقد ذهبت لتعبد الرب بلا انقطاع.. انها ذهبت
الى الفردوس .
واذ قال هذا ساد الصمت للحظات واغرورقت عيون
البعض بالدموع.. ولم يقطع صمتهم سوىسؤال راهب: وما الذي اعلمك يا ابانا ان توبتها
قبلت؟
-
لقد قبلها يا ابني كما قبل اللص اليمين في
اللحظات الاخيرة من حياتها.
-
وكيف انتقلت يا ابانا من هذه الحياة؟ اخبرنا
عن لحظات حياتها الاخيرة.
عندئذ بدأ الاب يروي قائلا: لقد خرجنا سويا
من بيت الشر وكانت تسرع في خطواتها جدا كمن يهرب من نيران مهلكة وهي تشكر الله
وتسبحه من اجل رحمته الكثيرة. وكانت في الطريق تكلمني عن شوقها للتحرر من هذا
الجسد وشهواته و العالم و اثقاله .. كان حبها للرب حارا جدا. وعندما كانت تردد قول
الرسول "لي اشتهاء ان انطلق واكون مع المسيح ذاك افضل جدا" كانت دموعها
تغلبها وكانت دموعي انا ايضا تغلبني.. حتى احسست اننا حقا غرباء في هذا العالم.
كانت يا اخوتي ابتسامة شفتيها وبشاشة وجهها تكشف عن قلب وجد كنزا لا يقدر و سعادة
لا ينطق بها.. واذ خرجنا سويا خارج المدينة وكان الليل قد امسى علينا. ذهبت بعيدا
قليلا ورقدت. اما انا فمن فرحي وقفت اشكر الهي الذي وهبني هذه النفس المباركة ان
تكون في حضن الله وبينما انا اشكر الله واسبحه من اجل كثرة مراحمه اذ بي ارى
السماء وقد انشقت واذا بصفوف من الملائكة ومعهم جماعة من القديسين قد نزلوا وجاءوا
الى حيث بائيسة ترقد.. وقفت مبهوتا امام هذا المنظر البديع واذا بي ارى بائيسة نفسها
بينهم وهي متهللة .. وقد صعد الكل معا.. وهم يترنمون ويسبحون بترانيم عذبة لم اسمع
مثلها قط. مرت فترات علىّ لا ادري ان كانت دقائق ام ساعات ام اكثر.. لا اعرف فيم
كنت افكر ، انما كانت فرحة غير منطوق بها تملأ جوانب نفسي. ومن غير ان ادري اذ بي
اسير نحوها وكشفت وجهها وحاولت ايقاظها لكنها كانت قد انتقلت من هذا العالم .
فواريت جسدها بالرمل وجئت افرّح قلوبكم بتوبتها".