ميخا صانع نعال يحتل ركنا في السوق شغله اكثر من عشرين عاما. زبائنه
كلهم يدعون الفقر، ان استطاعوا اصلاح نعالهم بغير اجر لفعلوا.
مرة و بينما ميخا واقف بباب بيته يقرعه منتظرا من يفتحه له حتى كان
يافث هو الاخر قد جاء على دابته عائدا من مخازنه اذ كان يعمل تاجرا للغلال. و ترجل
يافث و قصد باب بيته هوالاخر ليقرعه، و هو يلقي بالتحية على ميخا..
-
طاب يومك
يا يافث.. اعائد انت من عملك؟
-
نعم كما
ترى.
-
كيف كان
يومك؟
-
نشكر
الله الذي يقيتنا و يدبر معيشة عباده..
-
ميخا.
الان تذكرت. حذائي يحتاج الى نعال جديدة..
-
اصلحهما
لك يا يافث..
- كانت
راعوث قد فتحت الباب لزوجها، وقالت له: استرح ريثما اتيك ببعض الماء لغسل قدميك.
-
لم تمر
دقائق حتى دق الباب و صاح من خلفه يافث:
- - ميخا.
احضرت لك النعال.
قام ميخا من مجلسه متثاقلا. و فتح لجاره و دعاه للدخول. و تنحنح يافث
و هو يخطو للداخل معلنا قدومه. و مد يافث يده بالنعلين، و قلبهما ميخا في يديه و
هو صامت..
قال يافث و هو يخطو نحو الباب ليخرج دون ان ينظر الى ميخا ..
-
كم ستطلب
مني لقاء اصلاح النعال؟
-
هذا عمل
نصف يوم. اضف الى ذلك الخامات. سأقبل دينارا..
-
كثير..
-
اطلب
عادة دينارا و نصف. و لانك جاري جعلته دينارا..
-
ليكن.
اتقن عملك و سأعطيك الدينار..
***
الرب يسوع المسيح لازال يتحدث من حوله الوف، سمح الجبل مغطى بالناس،
رجال.. اطفال .. نساء. اختار الرب يسوع المسيح مكانا عاليا كي يراه الكل، من فوقه
يتحدث، تنساب كلماته انسيلب النهر في ارض عطشى، يبدو في ردائه الابيض كأنه الوحيد
الذي يرتدى رداءا ابيض..
الصمت وحده هو الذي يتحدث، الاذان مرهفة، و الرقاب ممدودة نحوه، و
العيون مثبتة عليه..
الساعات تمر، و القوم ما زالوا في اماكنهم، بعضهم قد افترش العشب و
البعض اختار الجلوس على اعالي الصخور.. الرب يسوع المسيح ما زال يتحدث. تلاميذه من
حوله كغروس الزيتون، ينصتون كالجمع. بطرس يجلس الى جوار الرب عاقدا اصابع يديه،
راخيا ذراعيه على حجره و نظره مسلط الى ما خلف الجموع حيث مياه بحر الجليل تمنحه
فرصة التأمل، اما يوحنا فقد سلط عينيه و فكره على السيد و قد مسّ بسبابته شفتيه
متفكرا. الذي الى جوار يوحنا هو توما، عيناه تتسعان اندهاشا للقول بين الاونة و
الاخرى و قد مدّ قامته في جلسته نحو الرب حتى لا تضيع عن اذنه كلمة.. و كان هناك
اندراوس و ابن زبدي الاخر و اخرون.
الرب يسوع المسيح ما زال يتحدث، مالت راعوث على اذن زوجها و همست:
-
ميخا،
نذهب..
ادار
ميخا وجهه نحوها و لم يجب كأنه لم يفقه ما تطلب، ثم عاد و التفت
الى الرب يسوع
المسيح..
و مرت
نصف ساعة اخرى قبل ان تهمس هذه المرة برجاء:
-
ميخا،
نام الاولاد، هيا نذهب، ألم تجع؟
-
.... كانت قد جاعت و احست بالاعياء، توسد ولداها فخذيها و ناما
مفتوحي الافواه..
-
تريدين
ان تذهبي؟...
-
نذهب..
-
سنذهب مع
الحمع، لا يحسن ان نقوم و السيد لا زال يتحدث، اصبري..
***
القمر هذا المساء في ملئه و السماء و الارض تزدانان به، انه يعلن في
بهائه جمال الله. و الليلة ليلة صيف، خرج فيها اهل طبرية جميعهم الى خارج الدور
يتنسمون الهواء البارد بعد يوم قائظ. الكل قد افترش دثرا او حصرا على الارض و
فضلوا تناول عشائهم في الهواء الطلق.و ما ان انتهى العشاء حتى قام الى جاره
للتسامر، كذلك فعلت النسوة. و بين البيت و البيت الذي يقابله انطلق الاطفال و
الفتية في اللعب في ضوء القمر..
ميخا هو الاخر قد خرج الى خارج داره و اقتعد حصيرا و استند بظهره الى
جدار بيته يشكر الله بينه و بين نفسه ان كان له نصيب هو و زوجته وولداه من هذا
الخبز الكثير الذي صنعه الرب يسوع المسيح باعجوبة منذ نحو ثلاث ساعات. لا يزال
يفكر: .. ماذا حدث؟ كيف حدث؟..
لقد رأى
بعينيه عن بعد احد حوارييه يقود صبيا يحمل ارغفة قليلة و سمكتين، همهم الناس و قد
جاعوا و كثر همسهم، و ايقظت عقولهم رؤية الخبز: ما هذا لهؤلاء؟.
الرب
يسوع يأخذ ما بيد الصبي، يرفع عينيه الى اعلى، ة يصلي، ثم يبارك ما بين يديه، ثم
يطلب من تابعيه ان يوزعوا على الناس، الاف الناس، فعل ذلك ببساطة شديدة و ثقة اشد،
لا كما يفعل الحواة و رجال العروض في الساحات. لم يمض وقت كثير الا و كان الكل
يأكل،.. ثم دار تلاميذه مرة اخرى على الناس و جمعوا ما فضل عنهم في قفاف و عادوا
بها للناصري، لا اعرف لم! ربما رغبة منه في ترك الطبيعة نظيفة كما كانت، لو رحل
الالاف مخلفين وراءهم بقايا طعامهم على العشب لانتن الجبل، حب الناصري للطبيعة
شديد..
ألعل
يافث جاري سيؤمن ان قصصت عليه ما حدث؟ سيراوغني و يسخر منى كما يفعل دائما.
سأريه
كسرة الخبز التي احتفظت بها في مخلاتي، و دهن السمك و رائحته ما زالا عالقين بها.
لن يتهمنى هذه المرة بأنني ساذج و انني ضحية رجل لا يخاطب الا سذج القوم..
اين انت
يا يافث، اظهر، بودي ان احادثك هذه الليلة.. لم يمض وقت كثير حتى ظهر يافث، مضيئا
في جلباب نومه الابيض، تجشأ في صوت مسموع عندما ظهر بباب داره معلنا انتهاءه توا
من عشائه بالداخل.
قبل ان
يجلس يافث – ليس بعيدا عن ميخا – القى هذه المرة بتحية المساء، ثم سأل ميخا:
-
اين كنت
و اولادك طول اليوم يا ميخا، الست تغلق حانوتك في التاسعة؟
-
لم افتح
حانوتى اليوم. فضلت ان اخذ امرأتي وولديّ و نقضي اليوم كله عند عين الجبل.
-
ولماذا
الجبل ؟ هل لك احد هناك؟
-
لا احد،
علمت في اليوم السابق ان يسوع المسيح الذي من الناصرة سيكون هناك بتلك الناحية
فقصدناه. كانت زوجتي تتشوق لرؤيته..
-
هه. هذا
الشاب. اتغلق باب رزقك و تضحي بيوم كامل لتسمعه؟ كيف تطعم اطفالك اذن؟..
-
اطعمنا و
الشكر لله..
-
من؟
-
يسوع
المسيح. انا و كثيرين غيري.
-
هذا
الفتى لا يعمل. لا هو و لا تلاميذه. وهو حسب علمنا فقير. كيف اطعمكم؟
-
فقير؟
نعم فقير. لا يحمل شيئا معه. اهداه صبي سمكتين و خبزات خمسا فأطعمنا جميعا.
-
صرخ
يافث:
-
ماذا؟
-
اعرف انك
لن تصدق.
-
و كم
كنتم؟
-
عشرة
الاف. ربما اكثر. كان ينبغي ان تأتي لترى الجبل و قد انبت بشرا، جاءوا ليسمعوه من
كل صوب.
-
لا
اصدق..
-
ما زلت
احمل معي كسرة خبز سأريها لك ان اردت..
-
حسنا ارني
خبز الناصري كيف يكون يا ميخا..
استدار
ميخا نحو زوجته التي كانت تنصت لحديثهما عن قرب و طلب اليها ان تأتيه بجرابه.
قامت
زوجته الى الداخل و عادت بعد قليل بجرابه. مد ميخا يده و اخرج قطعة الخبز و اراها
لجاره الذي نظر اليها قليلا ثم قال في لهجة ناصحة ساخرة في ان واحد..
-
اسمع يا
ميخا. انت رجل طيب. العهد الذي نحياه الان لا يليق بانبياء.
وجد يافث
نفسه في النهاية و قد ضاق بجاره فقام من مجلسه و هو يقول:
-
عمّ مساء
يا ميخا. جلستك الليلة لم تكن مسلية..
تحسس
ميخا موضع نومه في الظلام في حذر حتى لا يوقظ زوجته وولديه، و ظل ميخا لنصف ساعة
مستيقظا مفتوح العينين يفكر فيما كان يتحدث فيه..
بعد قليل
كان هناك طرق على الباب. حمل ميخا السراج و هو يصيح في وجل:
-
من
بالباب؟
-
اندراوس..
افتح.
-
من؟
-
اندراوس
نسيبك. افتح يا رجل..
كانت راعوث
قد قامت من نومها و سارت خلف زوجها. قلبها ازدادت دقاته. و بعد ان كانت تغالب
النوم تغالب الان اليقظة، فكل حواسها عند زائر منتصف الليل.
عندما
حرك ميخا مزلاج الباب و فتحه، كانت راعوث اسبق منه في القفز نحو اندراوس و ضمته في
شوق شديد..
-
اوه يا
اخي انداروس. اندراوس..
ثم اشبعت
خديه تقبيلا..
-
اقبل. يا
اخي الذي احبه. يا دمي.. كيف حال امي؟
-
بخير
تتشوق ان تراكي.
بعد ان ظلوا يتكلمون لفترة بينما كان اندراوس يلاطف ولديهما. قامت
راعوث و تبعها زوجها. قالت راعوث لزوجها ماذا يأكل الضيف، فليس عندنا شئ!
رد عليها ميخا في رنة حزن.
-
اعلم
ذلك وماذا نفعل؟
-
ماذا لو
ذهبت و سألت جارك ان يعيرنا ارغفة؟
-
جاري؟
يافث؟ الان؟
-
نعم
الان. اترى اترك اخي ينام بغير طعام؟
-
يكره
ميخا ان يدق باب جاره ليسأله شيئا حتى و ان كان نهارا.
-
دق على
الباب و انتظر لدقيقة، دق ثانية و انتظر، لا رد. بعد دقيقة اخرى قرع بقوة اكثر عدة
طرقات..
-
من
بالخارج؟
-
ميخا يا
يافث..
سأله يافث بخشونة:
-
ماذا
تريد؟
-
جاءني الان
ضيف يا رجل و ليس عندي ما اقدمه له.. اعرني بضعة ارغفة.
-
اذهب لا
استطيع.
-
اصنع معي
معروفا يا يافث. هو ضيف عزيز و الظرف دقيق.
-
اذهب
الوقت متأخر و الليلة باردة.
-
يافث
ليكرمك الله.
-
.....
-
يافث من
اجل ابينا ابراهيم لا تردني
-
.....
-
الاولاد
نيام. يا رجل لقد ازعجتني وازعجتهم
-
اعرني ما
اريد لانصرف.. ليباركك الله. انا اعرف طيبة قلبك يا يافث..
-
نزل يافث
عن فراشه و قد مس قول ميخا الاخير، لكنه عندما فتح الباب صاح بغضب:
-
لماذا لا
تذهب و تطلب من الناصري الذي اشبعك؟
-
لا تغضب
ان قلت لك انني قلت لك انني قبل ان اقرع بابك طلبت من الرب يسوع ان يلين قلبك و
يجعل سؤالي عندك سهلا..
-
طلبت من
الرب يسوع؟ اين هو؟
-
اشعر به
يملأ المكان كما الله.
-
كف عن
هذيانك يا ميخا و الا رددتك خائبا. لا تؤاخذنس ساغلق الباب ريثما اتيك بما تطلب
فالبرد شديد و الاولاد نيام..
غاب يافث لوقت قليل و عاد ليفتح الباب من جديد و بيده صف من رقائق
الخبز و بالاخرى وعاء مغطى بمنديل كبير سلمهما الى ميخا..
-
اطال
الله حياتك يا يافث. لن انسى منّتك ما حييت. اذهب و نم يا رجل. فليحفظ لك اله
يعقوب اولادك.
صاحت راعوث في صوت خفيض بميخا عندما دلف الى داخل الدار:
-
اعطاك ما
طلبت؟
-
اعطاني
-
المجد لك
يارب..
ثم دخلت لاخيها بعد دقائق و بيدها صينية نحاسية عليها صحاف مملوءة و
خبزات و زق نبيذ..