بينما كان الدير- القابع في قلب الصحراء التابعة لمدينة أخميم- تسير فيه الأمور بطريقة عادية: شوهد شاب لا تعرف هويتّه وهو يحوم حول أسواره .. وكان ذلك لمدة أيام ثلاثة، وإذ لاحظ ذلك الراهب مقار، أبلغ الأب الأقنوم1 الذي طلب منه أن يسعى فى دعوته للدخول. ففعل وجاء الشاب مطيعاً.
أمام رئيس الدير، وقف
شاب في نحو السابعة والعشرين من عمره، فى ثياب بسيطة، وعمامة تلف رأسه وقد قاربت
مقدمتها ان تخفى حاجبيه ... وقد انتعل حذاءاً بالياً من مشقة السفر، كما بدا منهك
القوى ، وقد هزم الحزن عينيه.
وحالما مثل أمام الأب الرئيس مد يده إليه في
صمت فتناولها الآخر وهزها هزة خفيفة مرحباً بكلمات يسيرة , ثم بادره سائلاً:
ابلغني
الأب مقار أنه شاهدك منذ أول أمس وأنت بالقرب من الدير، أيمكننا مساعدتك؟
-
اذا ما قبلتموني لديكم فسأكون بذلك
سعيداً .
-
بكل سرور,
ولكن زائر، أم عامل، أم رغبة في سلك الرهبنة؟
-
أريد
أن ألتحق بأي عمل.
-
ما
هو عملك؟
-
أنا
أعمل في كروم العنب منذ زمناً بعيد ولي في ذلك الخبرة.. فهى مهنتى.
-
ولكن لماذا تركت عملك و جئت إلى هنا؟
-
أنا
أحب هذا الدير، وأما عن تركي طردنى من كنت اعمل معهم . كما أنى آتى هنا كثيراً
وأعرف كل
الآباء هنا.
-
وهل
هم يعرفونك ؟
-
الحقيقة
أنهم مثقلين بأعباء العمل في الدير.
-
ولماذا
تهرأت ثيابك؟
-
ليس
لي ثوب آخر غيره, كما أنه معي منذ زمن بعيد وقد أعطانيه إنسان شفوق.
-
نسيت
أن أسألك عن أسمك, فما هو؟
-
جيمي
-
فقط؟!
"صمت"
وهنا حدفه الأب الأقنوم بنظرة إشفاق وتساؤل ثم شرد بذهنه.
وهنا حدفه الأب الأقنوم بنظرة إشفاق وتساؤل ثم شرد بذهنه.
ترى
هل هو فتى يتيم ؟! يبدو لي ذلك .. وإلا فأين ذويه؟ وكيف لا يعرفهم، ولماذا يبدو شاحب الوجه، وكأنما قد جارت عليه ليالي شهر طوبة
وظهيرات بؤونة.
نعم يا ربي أشكرك من كل
قلبي لأنك أعتنيت بي ولم تهملني، فكم من مشردين لا أب لهم أو أم وأنت تضمهم إليك وتعولهم..
هذا
أحد أخوتك و الجوع ينهش أحشائه، والعري يدمي جسده.. أشكرك لأنك حسبتني مستحقاً أن
أنال بركتك بتقديم المساعدة لأخوتك .. رحماك يا رب .. رحماك .. وأغرورقت عيناه بالدموع.
ثم أنتبه بعد ذلك ليجد أن الصمت يسود الغرفة،
فأسرع كمن يريد إبتلاع سؤاله:
يا
أبني لا يهمني أن أعرف أبن من أنت ومن هم ذووك، فالرجل ليس من قال كان أبي ولكن
الرجل
من
قال ها أنذا..
فقط
أتمنى أن تكون عند حسن ظني..
فأجاب جيمي:
-
سوف لا تندم يوماً أنك قبلتني.
-2-
أمام
بستان الكروم وقف المعلم برسوم يشرح لجيمي، العمل المطلوب منه .. ويسلمه المسئولية
التى ستلقى على كاهله.
والمعلم
برسوم رجل له من العمل أكثر من خمسة وخمسين عاماً، قضى أربعين منها في الدير . فقد
أتاه صبياً من قرية أوسيم التابعة لمدرية الجيزة , ولشدة أمانته في عمله و ولائه
للدير، أسند إليه الإشراف على بستان الكروم الكائن غربي الدير على قطعة أرض شبه
نصف دائرية . تبلغ مساحتها أربعة
فدادين وعشرة قراريط
وهو
طويل القامه عريض الكتفين .. له شارب غزير و أصابع لا يكف عن تنميقه لكنه يحمل قلب
طفل.
قال
لجيمي وقد وضع يده على كتفه:
- أحب عملي وأخلص له وأريدك كذلك : فلا تخذلني.
فأبتسم جيمي كمن هم أن يضحك ولكنه عدل عن رغبته سريعاً،ولم يجب.
وأستطرد المعلم برسوم، حذاري أن يعلموك
التدخين أو التكاسل في العمل،وأريدك أميناً، لا كالأجير بل كصاحب الكرم فهز جيمي
رأسه بالإيجاب, وحينئذ سلمه فأساً ومنجلاً وحبلاً لايتجاوز المترين طولاً.
وبعد أيام شعر المعلم
برسوم أن جيمى فرح بعمله الجديد، وصار يراقبه عن كثب –ليطمئن على إمكاناته ومدى
اخلاصه، وكلما جمع البستان بينهما كان المعلم يقول له:
أود أن يصير البستان جزءاً منك ..أتفهمنى؟
ويجيب جيمى مطمئناً ووعداً.
والذى جعل الطمأنينة تسرى إلى قلب المعلم
برسوم ان جيمى كان يمر على الكروم جذعاً جذعاً ،وساقاً ساقاً وقد تنطق بالحبل ،
والفأس معلق على كتفه، بينما أصابعه اليمنى قابضة على يد المنجل .. وكان له مع كل
غصن عمل.
فقد كان يربت على الجذع فى حنو ، مثل أم
تهدها ابنها ، ثم ينزع فى توءذة الأوراق اليابسة، كذلك صنع سداً دائرياً حول كل
جذع من البستان لكى يرتوى ويشبع، دون أن تهرب المياه من حوله.
وفرح برسوم بجيمى واستبشر خيراً..
وذات مرة تنهد محدثاً نفسه قائلاً:
الآن فقط استطيع أن أترك البستان وأنزل لقضاء
حاجاتى وحاجاته، وأنا مطمئن بالاً. فالحق يقال ان جيمى يهتم به ويخاف عليه اكثر
منى.
-
أسرع
يا جيمى . فالليل للهجوم .. هيا لتسقى ما تبقى من الكروم..
وهكذا
قبل أن يمتلك الظلام أديم الغبراء .. كان
جيمى بخطوات واسعة وهمة نشيطة قد أكمل ما حثّه على انجازه المعلم برسوم، فأثنى
الأخير عليه ببعض كلمات المديح، ثم مد يده ليمسح بعض قطرات العرق عن وجهه ..
واستسلم جيمى فى وداعة ليد برسوم..
قال برسوم :
-
ألا
تأتى معى لتناول كسرة خبز.
-
سآكل
ولكن بعد قليل.
-
ولكنه
ليس أوان الصوم والنسك ، فنحن فى الخمسين المقدسة ..
-
صدقنى
لا أشعر بجوع الآن.
-
كيف
ذلك وأنت تعمل منذ الصباح الباكر ولم تضع فى جوفك شيئاً؟
-
أرجوك
لا تقلق علىّ ، اهتم أنت بنفسك ، قالها وكأن الكلمات آتية من بئر عميق..
ولكن المعلم برسوم لم
يقنع بشء من هذا بل قال فى اصرار:
لابد لى من ان أسدى
إليك أى معروف لقاء ما تبذله معى من جهد مضن.
والحقيقة ان برسوم حاول مراراً ان يهبه
شيئاً من المال او الملابس،
هنا وقال جيمى كمن له دالة مع برسوم:
اريد ان تهبنى أن اجعل للكروم أسماءا.
ضحك برسوم ملء شدقيه وألقى برأسه إلى
الوراء مقهقهاً، من ثم صمت هنية قال بعدها:
- لك ما تريد، ظننت أنك ستطلب نصف الكروم،
وكنت متأكداً أن أبانا الرئيس لن يبخل عليك بذلك ، نعم فقد تحدثت معه بخصوصك
كثيراً ، وهو بدوره معجب بك للغاية ، ودائماً يقول نحن لا نستحق هذا الإنسان فى
وسطنا.
وأمام هذا الثناء ز لم
سستعف جيمى ، ولم يجاوب ، بل صمت.
فى وسط البستان اختار جيمى اثنى عشر جذعاً
وجعل لكل منهم اسم واحد من تلاميذ السيد المسيح.. هذا لبطرس ، وذلك ليعقوب ، وآخر
ليوحنا وهكذا..
وقد حذا فى ذلك حذو بعض الآباء فى الدير
والذين يعملون فى بقية المزارع .. إذا اعتاد إطلاق الأسماء على بعض أقسام الأرض
التى يزرعونها .. مثل حاران،عمون ، بيت لحم.. كنعان.. وغيرها.
هكذا اختار جيمى جذعاً قوياً شامخاً جعله
لأثناسيوس وآ خر لديسقوروس.
كذلك جعل لكل الآباء فى الدير بأسمائهم ما
بين طويل وقصير، وكثيف وخفيف.
وفى رقعة أخرى من البستان كان لعمال الدير
نصيب فى التسمية ، وبدا أن هناك فروقاً متباينة بين قوة غصن وآ خر .
ويمضى الوقت وجيمى مسرور بعمله ، لا يكلم
أحداً ولا يظهر كثيراً خارج نطاق عمله..
والأمور تسير فى الدير هادئة.. طبيعية..
-3-
فى الفسحة الموجودة
أمام حجرات النوم للعمال ، جلس هؤلاء يتسامرون ، فهم يهبون النهار عرقهم ، وياخذن
من الليل راحتهم ومتعتهم .
يقضون السويعات التى تسبق نومهم فى تبادل
نوادر اليوم ومفارقاته ، فإذا ما داعب النعاس اجفانهم ، خلدوا جميعاً إلى النوم.
فى تلك الليلة دار الحديث عن جيمى العامل
الوافد على الدير حديثاً، والعامل فى بستان الكروم ، واليد اليمنى للمعلم برسوم،
كتعبيرهم الدارج.
وبالطبع لم يكن جيمى معهم ، وهم فى الحقيقة
لا يعرفون حتى ذلك الوقت ، أين ينام جيمى وماذا يأكل.
وانما كل ما يعرفونه انه من اقاصى الصعيد ،
مات والده وهو لايزال صبياً يافعاً، نعم فقد قيل أنه بينما كان يعمل فى حقله خرجت
حية من بين الأعشاب لتلدغه فى قدمه ، ويسقط على الأرض وقد صرعه سمها.
قيل أيضاً ان أمه ماتت حزناً وكمداً على
زوجها ، وأما هو فقد تشرد الطريق ، كما أنه تنقل بين أعمال كثيرة.. فإذا التحق بعمل جديد ، لا يلبث أن يطرده صاحب
العمل .. أو يتركه هو من ذاته..
قال أحدهم : لعله لذلك قليل الكلام..
قال آخر : ربما
وهنا تحرك فى جلسته العم يونان – وهو أكبر
العمال سناً- فقال متسائلاً:
-
ترى
هل هو سعيد بحياته هنا بيننا ؟
-
من
يدرى ربما لم يجد له موضعاً آخر اكثر راحة.
-
ولكن
أين يقضى وقته بعد نهار عمل شاق؟
ولم يجب أحد من الجالسين
إلا بذم الشقين وقلب اليدين!
فأكمل قائلاً: عموماً هو شاب طيب القلب ويكره
الشجار ويترفع عن الهزل.
قال تكلا مؤيداً (وهو عامل قارب العشرين من
عمره):
-
مرّ بى جيمى عصراً أول أمس بينما كنت عائداً من العمل إلى حجرتى.. فأقترب منى وقال
لى بحنو: مالك يا تكلا مكمداً وقد هزمك شيطان الغضب؟
وفى ظل إحدى الشجيرات رويت له ما كان منى ومن
"سعد" زميلى وكيف رمى أحدنا الآخر بعبارات مما يتناولها أهل العالم فى
شجاراتهم، ثم كيف أفترقنا ناقمين..
وأعجب ما لا حظته أننى بينما كنت أروى لجيمى
ما حدث أنه ظل صامتاً، لم تتحرك عيناه ولم تهتز أهدابه، ولكنه ظل شاخصا إلى، ولم
يومىء برأسه ، أو تتحرك يده..
لقد خيل إليّ وقتها أنه ينظر إلى ما وراء
الزمن ومضيت أنا فى سرد ما دار ظهراً، وصوتى يعلو تارة ثم ينخفض، ويهتز جسدى،
وتتحرك يداى لأعلى فى الهواء مرة، وأخرى لتضربان فى قسوة على جذع الشجرة من شدة
التوتر.
ثم ربت على كتفى قائلاً فى هدوء:
لأجل المسيح سامحه. مكتوب "اغفروا يغفر
لكم". ثم بنفس الهدوء تابع مسيره إلى حيث لا اعلم.. ورحت أتبعه مذهولاً حتى
غاب عن ناظرى.
وقد زالت من قلبى سحابة الحقد والكراهية
تجاه" سعد".
وقال العم ابراهيم وكأنه يحدث نفسه: أنه
يتكلم أحياناً بطريقة غامضة .. وعن أمور حدثت فى الدير. لا أظن أنه كان بيننا
عندما حدثت، فى حين أن له فى الدير مدة لا تتجاوز الخمسة أسابيع. فضج آخر بالضحك
قائلاً: أنه مجنون، فنهره الجالس إلى جواره بأنه مسكين وظروفه قاسية.
وعندما كانت دفة الحديث متجهة إلى موضوع
آخر- كمثل عادتهم إذا جلسوا للسمر – قال آخر وكأنه كان يقاوم رغبته فى الافصاح عما
فى جعبته:
عوتب أحدنا عن أمر ما، وأحب أن ينفى عنه
الاتهام، فطلب من جيمى أن يشهد معه، وأحس جيمى بدوره أنها ستكون شهادة زور، فاعتذر
فى دمائه خلق.. وهمّ بالانصراف ، فما كان من ذاك إلا وقد جذبه بعنف ووبخه على عدم
( شهامته) ووقوفه إلى جانبه وقت الضيق، ثم زاد على ذلك بأن لطمه لطمة قاسية وهو
يرغى ويزبد قائلاً: مجرم .. ذنديق.. متكبر ..
وابتسم جيمى ابتسامة أب قبالة إبن شيخوخته.
ثم أضاف الراوى قائلاً: نعم رأيت ذلك بنفسى، واحسبنى لم أكن لأصدق لو أن آخر روى
لى ما حدث.
تكلا: ويقال أن امه كانت أمرأة فاضلة ، طيبة
القلب ..
آخر مقاطعاً: نعم لقد شاهدتها – على باب
الدير منذ تسعة ايام. تسأل عنه، وهى أمرآة عجوز علا رأسها المشيب، وقد قابلها جيمى
وحياها في حرارة ، وتحدث معها طويلاً ، وقبل أن تودعه ألقت فى يده علبة متوسطة
الحجم محزومة بحزام أحمر.
ولكن تكلا سخر منه مؤكداً أن أمه قد ماتت
منذ زمن بعيد..
ومن بعيد كان "رمزى" يتابع الحديث
فى شغف، وقد لمعت فى ذهنه فكرة انفرجت لها أسارير وجهه، ثم قام لينام ليلته
مغتبطاً وقد عقد النية على شىء ما.
فقد قام صباحاً بجولة بين اخوته يجمع منهم ما
فضل عنهم من متاع يزيد عن حاجتهم ، وخرج بحصيلة لا بأس بها؛ملابس داخلية رتق معظمها،
وحذاء قديم، طاقية عفا عليها الزمن .. ثم خزم الجميع فى صرة واحدة صغيرة. أحكم زمامها
فى اهتمام وكأنها إلى السفر.
ثم مضى فى خفة ورشاقة إلى حيث يوجد جيمى،
وأمام جيمى أبان فى اتضاع، أن الاشفاق لم
يدفعهم لمثل هذا التصرف وإنما المشاركة – ومحاولة التعبير عن محبتهم – ثم قام برفق
وقد ترك(الصرة) إلى جواره فقام حينئذ جيمى فرحاً، وقبل رمزى شاكراًثم ودّعه مثنياً
عليه وعليهم.
وحذا حذوه في ذلك آخر، إذ حرم نفسه من نصيبه المقدم له من اللحم في الغذاء ،
وحمله إليه عند العصر، وهو يعرف ان جيمي لا يمتنع عن أكل اللحوم لأسباب صحية كما يظن البعض، ولكنه الزهد والنسك ،
لذلك ألحّ على جيمي في قبولها فوافق جيمي والبشر طافح على وجهه .
كما أن هذا التأثر قد إمتد إلى
(خليل) الذي يهتم بخيول الدير الثلاثة، ذلك أنه عندما تقابل مع جيمي في صباح اليوم التالي، إقترب منه محيياً ورد جيمي
في كثير من الإهتمام .
قال خليل :
-
أرجو أن تسامحنى إذا
تجاسرت على اخراجك عن هدوئك بحديثى معك ..
-
ابداً لن أتضايق..
-
لماذا
اطبقت فى صمتك؟ لا تتحدث الإ نادراً. لم نرك مرة ضاحكاً بل تهرب من مجالستنا .
... لا تظن يا جيمى يا
أخى انك وحدك الذى تمر بظروف قاسية ، نحن جميعاً نئن ونطلب المدينة العتيدة..
تقرّب منا ربما فى ذلك سلواناً وعزاءاً..
-
صدقنى
... لست منعزلا كما تظنون بى..ولكنى أحب ألا أفرض وجودى على مجالسكم..
لا
تقل هكذا، كيف ذلك ونحن نتلهف على كلماتك القليلة.
أنت طيب القلب يا خليل، ولكن لا احب احاديث الإدانة
والمال، وأكره اللهو والعبث، وأوجد اخواتنا العمال يحبون الليل ويكرهون النهار لأن
الأخير يوجب العمل ولكن الليل يهب التراخى..
فى ذلك اليوم كان الأب أبيفانيوس رئيس الدير فى
زيارة إلى بستان الكروم يتفقد العمل فيه، وهناك تقابل مع جيمى فأقترب منه،وربت على
كتفه فى محبة قائلاً: جيمى: أما تريد شيئاً؟
أجاب جيمى: أريدكم بخير.. هذا يسعدنى ويكفينى
فاقترب منه بالأكثر، وفى صوت يشبه الهمس قال: ما رأيك فى أن تأتى معى لتساعدنى فى
بعض الشئون؟
أجاب جيمى: أنا احب أن أساعد الكل .. واستأذنك
فى أن أبقى هنا مع اخوتى، واعرق معهم وأفرح معهم.. وعندما ..
وتوقف
عن الكلام مستأذناً فى أدب جم لكى يسرع إلى العم (تودرى) يرفع عنه الكيس الذى
يحمله.
قال العم تودرى وهو يلهث: اكرمك الله يا ولدى
وعوض لك بالنسل الصالح!
فهز جيمى رأسه ، وانصرف حاملاً حمل الشيخ.
-4-
ذات يوم قاد شيطان الغيرة، واحداً من العاملين
فى الدير لكى يوقع بجيمى، ذلك الشاب المبارك الوديع ، فتوجه إلى حجرة المعللم
برسوم- وكان الوقت صباحاً باكراً- وجعل يطرق بابه فى الحاح.
ويخرج المعلم ما بين نائم، ومستبقظ ليستجلى
الأمر، فاقترب منه العامل بسرعة وألقى فى أذنه سراً! ويتعجب برسوم – العجوز الطيب-
ولكن الاخر لا يدعه لشكوكه، بل يعود فيؤكد انه راى جيمى بإم عينيه من خلف السور –
المصنوع من الجريد والسعف.
ويدخل المعلم مسرعاً نحو الداخل وطاقيته
الحمراء فى يده، يضعها فى غير اهتمام على رأسه ، ويمضى لفوره إلى البستان ، ليفاجأ
هناك بأقوى ثلاثة غصون فى الكرمة مقطوعة من أسفل وهاوية إلى الأرض صريعة، فيلطم
خديه مراراً! ويصرخ ملتاعاً، ويجرى مسرعاً نحو رئيس الدير مباشرة.
هناك قالوا له ان الأب فى القداس الإلهى ،
فجلس خارج الكنيسة منتظراً ومستنداً إلى الحائط ، وقد دفن رأسه بين يديه فى ثيابه،
وبين الحين والحين كانت آهاته المكتومة تخرج ما بين طويلة وقصيرة..
وما أن خرج الأب أبيفانيوس ، وشعر بذلك برسوم
حتى إنتفض من مكانه واتجه إليه وتحدث بطريقة لا يفهم منها شيئاً.
فدعاه الأب
للجلوس ونصحه بالهدوء.
أمام رئيس الدير ، والمعلم برسوم ، وأحد
العاملين: وقف جيمى متهماً ولكنه كان جاداً.. ورصيناً.
قال الأب الرئيس: المعلم يتهمك باتلاف بعض
أغصان الكرمة هل حدث ذلك فعلاً؟
جيمى : لا، لم يحدث.
-
ولكن
هذا الأخ ( مشيراً إلى العامل) – رآك وانت تهوى عليهم بفأسك الصغير.
-
صمت.
-
أما
تدافع عن نفسك؟
-
أنا
أحب البستان، ولا يوجد من يحبه أكثر منى.
-
ألا
يمكن أن تكون فعلت ذلك وأنت فى غير وعيك؟
-
لا
، فانا أعى كل شىء.
-
جيمى..
أنت تعلم أننا نحبك ونقدرك ..والمعلم معتز بك ودائماً يكلمنى عنك بالخير .. فلماذا
خيبت الظن فيك؟؟؟
-
انا
أيضاً أحبكم ، وأحب هذا المكان ، وكل شىء وانتم تغضبون علىً ومنى بلا سبب،
(واختلجت مشاعره .. وصدر الكلام عنه متقطعاً ثم بكى جيمى بشدة..)
حينئذ قال الأب فى اشفاق:
-
أنا
لا أحاكمك ، لكنى ابحث عن الحقيقة لا غير، فلماذا تبكى؟
-
صمت.
-
ولكن
– سامحنى يا اخى – فإذا صح قول المعلم وهذا الأخ فإنه لن يكون فى استطاعتى ان
أبقيك هنا من اليوم.
-
ليكن
ما تريد فأنا فى ضيافتكم.
فحول
حينئذ الأب ابيفانيوس مجرى الحديث قائلاً: اخبرنى يا جيمى: هل لك أب اعتراف؟
جيمى : لا .. ليس لى.
-
نعم! فقد لا حظت أنك لم تتناول من الأسرار المقدسة طيلة هذة المدة التى مكثتها
طرفنا، إذا هل كان لك قبل أن تأتى إلينا؟
-لا. لم يكن لى.
- فكيف إذاً يا ابنى تستقيم حياتك الروحية بدون
اعتراف وتناول؟
- صمت.
- وماذا عن الكتاب المقدس وصلواتك؟
- ليقرأ آخر أمامى، ويصلى كذلك. اولاً .
فقال
المعلم برسوم فى غيظ وحنق: قبل ان يعلمك، لابد أن يعاقبك على فعلتك السوداء، فكيف
تخون المكان الذى تعمل وتعيش فى خيره؟
- فترة صمت
ويقطع الأب ابيفانيوس الصمت بقوله..
لا بأس ..لا بأس.. هناك حل وسط: (ثم يوجه
الحديث إلى جيمى قائلاً).
يمكنك من اليوم ان تذهب إلى المطبخ لتساعد
الأباء هناك..
وفى توصية الأب المسئول عن المجمع، وقال الأب
أبيفانيوس:
أريد ان تعلمه كيف يصلى ، وكيف يقرأ الكتاب
المقدس، حدّثه - أرجوك – عن سر التوبة والاعتراف، وعن سر الشكر، لكى يكون مستعدا
للاعتراف السبت والتناول الحد القادم.
فانحنى
الآخر مجيباً مطيعاً، ثم يمضى وجيمى يتبعه..
والتفت الأب ابيفانيوس إلى المعلم برسوم
قائلاً: لدىّ احساس قوى أن جيمى مظلوم، ولكن منعا للسجس استبعدته عن البستان..
أجاب برسوم متألماً: لم اكن أعلم أنه خائن إلى
هذا الحد..
فأكد العامل قائلاً، نعم.. فكيف تسوّل له نفسه
ان يستهين بالكرم، وينافى الامانة والرأفة بالدير؟
والحقيقة أن الذى حدث هو ان هذا العامل أراد
أن يتخلص من وجود جيمى فى البستان ، لأنه شعر أن وجوده يبكت تقصيره ، ويكشف
ضعفاته. فدخل فى هدوء الليل وسكينته إلى البستان، وهو يحمل فى يده (بلطة) ثم انتقى
ثلاثة جذوع تعد من أكثر أغصان البستان إثماراً، ثم كشخص طار عقله هوى بكل قوته
عليها واحداً فواحدا، وبنفس الهدوء خرج لا يلوى على شىْ قاصداً حجرته.
.. نعم لقد كان مهزوماً من كبريائه وشره، ففكر
فى هذه الحيلة لكى يتسبب فى طرده من الدير او على الأقل من البستان.
-5-
فى يوم الجمعة وبعد أن انتهى جيمى من العمل
فى المطبخ، ودعاه الأب الراهب –العامل معه- إلى قلايته فوافق على الفور، هناك فى
القلاية قال له:
أخى جيمى لابد من التوبة يا أحى قبل أن تنصرم
سنوات العمر، ونجد انفسنا فى مواجهة مع الله .. ماذا نصنع؟ وكيف نعطى حساياًعما
صنعنا؟
الحياة مع الله متعة لا تدانيها سعادة أخرى ،
غداً امام الكاهن قر بخطسئتك، واكشف له افكارك لكى يرحمك الله وينقل عنك خطاياك، وتصير
كلك نقياً، وتدخل فى عهد الحياة الأبدية بتناولك من الأسرار المقدسة.
أرجوك يا جيمى، تشجع فكلنا خطاهن والله لن
يديننا لأننا لأخطأنا، ولكنه سيديننا ان لم نتب بعد ما أخطأنا.
واستطرد الراهب: لا بأس فى ذلك يمكنك اليوم
ان تبدأ فى الصلاة معى لحبيبنا يسوع . ما رأيك؟ أجاب جيمى: موافق بكل سرور.
وفى القلاية وقف الراهب يصلى وجيمى منصتاً:
أيها الرب يسوع.. ما أعجبك، وما أقربك اليوم
إلى قلبى.. انا لا استحقك، فقد وهبتنى أكثر ومما أستحق بل وأكثر مما أحتاج ..
أخجلتنى بتسامحك وطول أناتك..
كم أنا مقصر، وكم أنت وفىً معى مداوم على
اخلاصك لى..أشكرك لأنك تحبنى وتدافع عنى...
أطلب من محبتك لأجل اخى الواقف معى هبه رحمة
من صلاحك، واعطه ان يسلك كما يليق.. وتقدمه فى كل عمل صالح..
-
باركنا.
ورد
جيمى بصوت يشبه خرير الماء:
-
آمين.
-
طهرنا.
-
آمين.
-
قدسنا.
-
آمين.
-
ولك
منا كل المجد.
وهنا
اهتز المكان بشدة، وامتلأ بسحب كثيفة وفوجىء الراهب وإذا بجيمى[1]
ينطلق لأعلى ثم يختفى. فوقع مغشياً عليه.
ولا عجب فى ذلك، فقد كان الشاب الغريب جيمى هذا
.. هو المسيح ذاته..