أصر على موقفه، ولم يرق لدموع أمه أو يأبه لتوسلاتها، وغادر المنزل ليستقل القطار
المتجه إلى القاهرة ومنها إلى الدير .
وبكل
بساطة ودون أدنى مناقشة قبله رئيس الدير، و أفسح له مكاناً ليسكن بين الاخوة
الجدد، ولم يلتفت إلى تساؤلات الآباء الرهبان وتعليقاتهم .
وقد جرت العادة أن يتردد الأخ الراغب فى
الرهبنة مدة لا تقل عن السنة، يقبل بعدها فى الدير، إذ يتأكد الآباء من صلاحيته
ومدى تناسب طريق الرهبنة له، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث بل قبله الأب الرئيس دون
قيد أو شرط.
واستطاع هذا الشاب أن يسلك فترة الاختبار
المقررة بحذر شديد لكى يكسب ثقة الرهبان وتأييدهم ، ثم ماهى إلا شهور قليلة حتى
ترهب مع اثنين آخرين، و أما هو فأسموه ببنودة.
ولم
يمر شهر واحد على رهبنته (ارتدائه الملابس الرهبانية ): حتى ضج الآباء منه.
فقد كان يتصرف بحرّية ! وبدأ يظهر عليه
التوانى والكسل ، ولم يحفظ طقسه . فمن تعليقات علمانية إلى هزل سخيف، إلى مقاطع
من أغنيات عابثة كان يرددها بين آن و أخر .. فى حين أن القديس يوحنا الدرجى يقول :
"الراهب هو الجسد المنقى والفم الطاهر
والذهن المستنير"
إذا تكلم: علا صوته و أحدث جلبة، وإذا جلس :
فمع الزائرين والعمال يتحدث فيما لا ينفع.
ويذكر الأب سلوانس أنه دعاه ذات مرة ليصلى
معه القداس الإلهى فقابل دعوته بالسخرية !
كذلك عندما إقترح عليه الأب بيصايون أن يجلس
ليقرأ معه الكتاب المقدس، أشاح بيده فى الهواء مستخفاً وضاحكاً ضحكة لا تليق.
وأب اعترافه فى كل هذا وذاك: يتمزق من
الداخل، فلا تدبير قد نفع معه، ولا توجيه قد خضع له.
إلح ّ عليه بالصوم فلم يحفظ بطنه ، وأشار عليه
بضرورة الصمت فلم يستطع كذلك أن يحفظ لسانه فى فمه ، بل أطلقه على الكل !
وبين
آن و آخر كان يردد على مسامعه قول الشيخ يوحنا الدرجى:
"قدم
أتعاب شبابك للمسيح حتى تتمتع بنعمة اللاهوى (كسر المشيئة) فى شيخوختك.
ولكنه رأى فيما بعد، أنه من المناسب أن ينبه
رئيس الدير إلى خطورة الأمر، وضرورة النظر فى شأن ببنودة ، لا سيما و أنه لم يعترف
منذ ثلاثة شهور: إذاً فالخوف من هلاكه أمر وارد .
ووعده رئيس الدير بالتبصرّ فى الأمر .
وفى
اليوم التالى تقابل الأب الرئيس مصادفة مع ببنودة ، فقال له فى اتضاع شيخ:
"لا تنس يا أبانا أن الصبر فى القلاية يرد الراهب إلى طقسه ..".
ولكن وكما بدا للشيخ أن ببنودة اعتبر أن
القول موجّه إلى شخص آخر .
والعجيب أن قلايته والتى لا يطيق الجلوس فيها
، كانت تحوى كتباً عديدة و مجلدات نادرة ، كذلك فقد تزينت حوائطها بصور حشد كبير
من القديسين ، إلى جوار ما لا يقل عن الثلاثين لافتة ما بين آيات و أقوال آباء .. ولكنها
كانت للديكور فقط !
وتضجّر الآباء منه ، ومنهم من صارحه ، لا سيما
عندما كانوا يشاهدونه يقضى أغلب وقته فى طرقات الدير، يجر رجليه جراً من موضع لآخر
فى سآمه وملل ..
كذلك شكا الأب المسئول عن المطبخ إلى رئيس
الدير ، بسبب تواجد ببنودة الدائم فى المطبخ وإلى جواره ، مما يعطل العمل ويعثر
العمال والضيوف .
ولكن أصعب ما فى الأمر أن يترك القداس الإلهى
أو صلوات السواعى ليتمشى فى ساحات الدير .
وبقى رئيس الدير صامتاً كعادته، لا يعلق ولا
يعاتب أو يعاقب،وأما ببنودة فماض فى غيّه...
أخيراً طلب الآباء إلى بعضهم البعض ، أن تقام
طلبات خاصة لأجل أخيهم المعذب فى هذا الآتون: لعل الله ينتشله .
وثابر الآباء على الصلاة والطلبة فى كثير من
الصبر ، ولكن بدا وكأن الله لم يسمع لهم !
-2-
مضى عام كامل ، والأمور كما هى تسير من سىء
إلى أسوأ مع الراهب الشقى ببنودة ، واضطر رئيس الدير أخيراً إلى معاقبته ، ولكن لم
تفلح أيضاً هذه الطريقة فى استمالته إلى حياة القداسة.
وفى أوائل
شهر أمشير، انعقد المجمع و أقر الآباء طرد ببنودة من الدير ، وذلك بقصد أن
يثوب إلى رشده ويرجع عن سيرته الرديئة إلى رتبته الأولى .. ولكنهم مع ذلك تركوه
شهراً كاملاً قبلما يخبروه بقرارهم ..
بعد انعقاد المجمع بأيام خمسة، وعندما أرخى
الليل سدوله ، طلب ببنودة من الأخ بلامون أن يوقظه بعد ساعتين ، لكى يرتب القلاية
وينظفها ...
و ذهب لينام .. ولكنه بعد قليل شعر برغبة غير
ملحة للصلاة، فقام متثاقلاً و أمسك بالأجبية ليصلى صلاة الستار .. بعد أن نفض عنها
الغبار.
وما أن وصل إلى المزمور السابع أو الثامن حتى
شعر بشيىء من الصداع فى رأسه، وحقيقى أن هذا الصداع كان يأتيه من وقت لآخر، وكان
فى كل مرة ينصاع له ويهب نفسه الراحة، ولكنه حاول فى هذه الليلة ألا يعتد به وأن
يثابر على الصلاة – لا سيما و أنه فرح بانه لا يزال فيه بقية راهب!
ولكنه
لم يستطع إلى ذلك سبيلاً .
وازداد الصداع ، فتضجر ببنودة و ألقى الأجبية
جانباً ، ووقف صامتاً لعل الألم يخفض،
ولكن الصداع ألحّ عليه.
فأمسك برأسه بين يديه و ضغط بكل قوته ، ثم
خرج من القلاية متثاقلاً ولازالت رأسه بين يديه، إلى أن وصل إلى قلاية الأب اسحق
المسئول عن العمل فى صيدلية الدير المتواضعة المحتويات .
و أمام قلاية الأب اسحق خشى الأب ببنودة أن
يظن أنه جاء كعادته فى كل يوم للتلكؤ ولطلب المزيد من الحقن والأقراص، التى كان
يأخذها دون أن يكون فى إحتياج إليها .
وإذا تمنىّ من كل قلبه ألا يجول هذا الخاطر
فى فكر الأب اسحق: طرق الباب متوسلاً أنه
متألم بالفعل فى هذه المرة .
وما أن سمع خشخشة خلف الباب حتى اطمأن قلبه
..
فوجىء الأب اسحق ببنودة فاغراً فاه، وعينيه
نصف مغمضتين وقد طوّح برأسه قليلاً إلى الوراء ماسكاً إياها بكلتا يديه، وبدا للأب
ببنودة أنه قد رق له .
وببشاشته المعهودة وكلماته الرقيقة، رحب به
ودعاه للدخول ولكنه اعتذر مشيراً إلى رأسه، ثم قال فى صوت خفيض: أنه يحتاج إلى
الراحة بعدما يتكّرم عليه بأى مسكن .
ودلف الأب اسحق إلى الداخل ليخرج ومعه شريطاً
من الأقراص المسكنة وناوله إلى الأب ببنودة الذى أخذه بدوره شاكراً ، وانطلق إلى
قلايته لا يلوى على شىء .
ولكن لم تمر ساعة واحدة حتى عاد أدراجه إلى
باب قلاية الأب اسحق ، يطرقه فى إلحاح وخجل.
وفتح له مرة أخرى ليجده فى حالة لا يحسد عليها،
فقد كان يتلوى من شدة الألم، فأغلق الباب خلفه فى هدوء ، ومشى معه متجهاً إلى
الصيدلية، وفى طريقهم مروا على الأخ بلامون (والذى كان يعمل طبيباً أيضاً).
فى الصيدلية وعلى السرير الموضوع هناك، استلقى
ببنودة يتجرع آلامه بينما وقف الاثنان يتشاوران بالانجليزية، و أعطياه حقنة مسكنة
للألم ، صحباه بعدها إلى قلايته وتركاه هناك بعد أن وعداه بعرض الأمر على الأب
الرئيس حتى يأمر بعرضه على الأطباء المتخصصين بالقاهرة .
وكانت ليلة قاسية تلك التى قضاها ببنودة ، إذا
لم يذق فيها طعم النوم ، بل صار يزرع الغرفة ذهاباً و إياباً ، إلى أن ناداه الأب
اسحق قائلاً إن السيارة التى ستنقلهما إلى القاهرة : جاهزة .
فى المستشفى التخصصى قال الاستاذ بعد الفحص
الدقيق : بسيطة .. التهاب خفيف ..
وأوصى بحقنة كل يوم وكبسولة مضاد حيوى كل
ثمانى ساعات . ثم أضاف (فى الروشتة) : راحة تامة فى السرير، ممنوع القيام بأى
مجهود ..
وفى طريق العودة إلى الدير، بقى ببنودة
صامتاً ، لم يتكلم سوى مرة واحدة قال فيها للأب اسحق : سامحنى . تعبتك ..
ورد
الأب اسحق فى بشاشة كمن يستنكر : لا تقل هكذا أنا أخذت بركتك (ألف سلامة لك ).
وفى
الدير كان الأب اسحق يطمئن كل من يسأله قائلاً : بسيطة .. خير ..
وابتدأ ببنودة يعود إلى نفسه ويتذكر تهاونه
،و إساءاته إلى اخوته .. ترى ماذا لو أنهى هذا
الألم حياتى؟ (هكذا حدّث نفسه ).
كان يبكى مرة من الألم ومرات من الندم على
توانيه وعلى الشرور التى صدرت عنه ، و دأب على أن يطلب إلى كل من يقابله – بضراعة
وانسحاق – أن يصلى لأجله .. ويلتمس مفغرتهم ، وهم بدورهم يطمئنونه بأنه أخوهم و
بأنهم متأكدون من أن محبتهم راسخة فى قلبه ، ومن ذلك :
أنه بينما كان الأب ويصا يعاوده فى القلاية ،
قال له :
-
أرجوك يا أبى أن تغفر لى من قلبك شىء اعترف لك به ، فأنا الذى أخذت كتاب ميامر ماراسحق الخاص بك ، وقمت بتغيير غلافه لأضع اسمى فوقه
بدلاً من إسمك ، سامحنى أرجوك ، أغوانى الشيطان وانسقت إلى غوايته ، والكتاب موجود
فى الطاقة التى خلفك ، ويمكنك الآن أن تأخذه لكى يستريح ضميرى .
الأب
ويصا : هو لك أيضاً ، ولا فرق بينى وبينك ، وسيظل عندك واعتبر أن كل ما عندى هو لك
ببنودة وقد انفجر باكياً
من التأثر : إن لم تأخذه فلن يكون لى راحة.
الأب ويصا : إذاً استسمحك فى نقله إلى مكتبة
الدير العامة.
- ليكن .. المهم أن يخرج من قلايتى ..ويرتاح
قلبى .
- أود أن يكون لى مالك من الرقة والضمير
اليقظ .
ومرت خمسة أسابيع ، وصحة ببنودة تتأرجح بين
التقدم و التأخر .
وازداد
الألم ، وزدات شكوته ، وعاد الآباء يطمئونه أنهم سيطلبون إلى الأب الرئيس أن يسمح
بعرضه على فريق آخر من المتخصصين بالقاهرة ..
ويجيب ببنودة بعينين ملؤهما الشكر و الأمل .
فى
المركز الطبى الجديد : قال استاذ جراحة المخ والأعصاب :
"لابد
من عمل أشعة للتأكد إن كان هناك أية أورام فى المخ ".
ثم
عاد الطبيب ليسأل ببنودة عما يشعر به ، فقال أنه يشعر منذ أيام بأن الأشياء تهتز
أمام عينيه ، أو يرى الشخص شخصين ، وأنه فاقد الشهيّة فى أغلب الأوقات ، وأنه يقوم
من النوم على أثر آلام شديدة فى رأسه من الخلف ، كما لم يحدث أنه نام – خلال
الأسابيع الثلاثة الماضية –
أكثر
من ساعتين متصلتين .
على أحر من الجمر كان الأب اسحق والأب
ارسانيوس ينتظران نتيجة الأشعة ، نعم فقد كان يساورهما الشك فى الأمر .
وجاءت
نتيجة الأشعة لتقع وقع الصاعقة على اثنيهما: ورم خبيث .. malignant
tumour .
ونظر أحدهما إلى الآخر فى ذهول وتأكدا أنها
حالة سرطان carcinoma (نوع من السرطان).
وبالطبع لم يكن ببنودة معهما ، ولكنه سمعهما
من الداخل ، وتظاهر بأنه لم يسمع شيئاً ، وحفظ الأمر فى قلبه .
وفى الطريق إلى الدير : حاولا بث روح الفرح
والرجاء مطمئنين اياه .. وحاول هو أيضا أن يجاريهم كأنه يستجيب لملاطفتهم .
وبدأت جلسات العلاج – أشعة راديوم -Radium للقضاء
على الخلايا السرطانيه ، وبدأ شعر رأسه يتساقط بعد أول جلسة باسبوع واحد .
كان ينزل إلى المركز الطبى كل خمسة عشر يوماً
، ثم يعود بعد الجلسة إلى قلايته يجتر آلامه النفسية والجسدية معاً .
وتمنى من قلبه أن يصنع اللة معجزة معه
ويشفيه ، ووقتها سيعود إلى السيرة الملائكية ، ويترك عنه العبث الصبيانى ، ويعوض
كل ما فاته ، ويحب اخوته ويبذل لأجلهم ..
كان يشتهى ساعة واحدة يستطيع أن يمشى فيها
دون مساعدة أحد .. أو يقف ليصلى بمفرده .
"نعم سأضبط نفسى ولسانى .. واحفظ
الكتاب المقدس عن ظهر قلب"، هكذا صلى باكياً.
وطلب إلى الكل بإلحاح أن يقيموا الصلوات
لأجله .
ولكن الألم سخر منه وتعقبه فى كل وقت ،
وفوجىء ذات يوم بأنه لايرى ! وفزع لذلك ..وصرخ صرخة مدوّية ، ولكن الألم فى رأسه
كان أقوى فأنساه ظلام عينيه ..
فى آخر جلسة قال الطبيب للراهب اسحق بصوت
خفيض : it's
hopeless .. وسمع ببنودة فى
هذه المرة أيضاً ، وكان يخفى عنهم أن له بعض الالمام بالانجليزية .. فهم أنه لا
أمل ..
واستطاع فى ذلك اليوم أن ينفرد بالطبيب حيث
قال له : أرجوك ، أنا راهب ، والمفروض أنى ميت : فلا أخاف الموت ، كما أنه لا زوجة
لى و لا أولاد أقلق بسببهم ، فهلا صنعت معى إحساناً وصارحتنى بالحقيقة، و أعدك
بأننى سوف أتقبلها كراهب شجاع يريد الانطلاق إلى الله. وتردد الطبيب محاولاً
التملص من الاجابة ، ولكن ببنودة ألح عليه ..
وإزاء هذا الإلحاح والإصرار قال الطبيب
وكأنه يلقى بقنبلة :
قدسك مصاب بسرطان فى المخ ...
فقال ببنودة بهدوء : عرفت ذلك ولكن اسألك عن
الأمل فى الشفاء .
فرد الطبيب غير المستطاع عند الناس مستطاع
عند الله والله أرانا فى حياتنا الطبية أنه قادر على صنع ما يعجز عنه الطب
..."شد حيلك يا أبونا".
أرسلوا له ذات يوم ، أن أسرته الجسدية
بالخارج يطلبون مقابلته ، وارسل يعتذر لهم .. ولكنهم أصّروا، ولما لم يستطع بسبب
تضعضع صحته (استسمح الآباء رئيس الدير ) لكى تتمكن أسرته من زيارته فى قلايته[1].
وكان لذلك فائدتين: الأولى توفير التعب
المضنى الناجم عن تحركه حتى بيت الضيافة، والثانية لكى لا تلاحظ اسرته إنه فاقد
البصر ..
وقد أوصوا أمه أن
الزيارة يجب ألا تزيد عن العشرة دقائق .. ووافقت ووعدت ..
ولم تعرفه والدته ، فقد شحب لونه ، وهزل جسمه
، وقد أبصرت إلى جواره علباً لا تحصى من الأدوية ، فإختلجت مشاعرها وبكت فأبكته
معها ، رقت له واستفسرت عن الأمر ، وحاول هو بدوره أن يطمئنها بأنه صداع شديد وسوف
ينتهى إن شاء الله .
وغادرت وهى متأثرة جداً.
إشتد الألم أكثر فأكثر، لدرجة أن ببنودة كان
يضرب رأسه فى الحائط فى يأس قاتل ، وكثيراً ما كان يطرد الأباء – الجلوس حوله – من
قلايته ، لا لشىء سوى لأنه لم يعد يطيق حتى نفسه .
وتمادى الداء فى إيذائه، فقد بدأت الخلايا
السرطانية فى إتلاف مراكز السمع والذاكرة معاً .
وأقعده اليأس فى
الفراش .. لا يتكلم لأنه لا يسمع ونادراً ماكان يأكل أو يشرب .
ثم بدأ يفكر أكثر من ذى قبل فى أبديته وذلك
كلما حضرته الذاكرة ..
نعم، فهو يعرف جيداً أنه الآن قاب قوسين أو
أدنى من الموت .
ولما رغب ذات يوم فى التناول من الأسرار
المقدسة ، انتبه الآباء إلى أن قلايته تبعد إلى حد ما عن الكنيسة مما يمثل جهداً
فائقاً فى الوصول اليها , فاستاذنوا احد الاباء و كان يسكن بجوار الكنيسة لافساح
مكانه للاب ببنودة لكى يتسنى له دخول الكنيسة بمجهود قليل .
و كان يحتاج عند دخوله الى
الكنيسة الى ثلاثة من الاباء لكى يعاونوه و لكنه لم يكن ليستطيع الجلوس اكثر من
نصف ساعة و كثيرا ما تململ فى جلسته و طلب الرجوع الى القلاية و كان عند ذلك يتذكر
كيف كان يترك القداسات و يجلس على المصطبة الطويلة الكائنة خلف مكتب الدير.
و تناوب الاباء على خدمته و
السهر على راحته و خدمته و كان يعاملهم فى ايامه الاخيرة معاملة خشنة و ذلك دون
قصد منه ثم يعود ليعتذر منهم و هم بدورهم يابون بذلك عليه و عليهم.
واذ لاح لمن الدير ان النهاية باتت وشيكة و بدا انه لا يستجيب للعلاج اشار عليهم احد الاباء الاساقفة اجراء جراحة له فى المخ .
و حقيقى انها مجازفة و لكن لئلا يلاموا من ضمائرهم فيما بعد. قالوا لا مناص من الجراحة.
و تمت الجراحة و انتظروا النتيجة بكثير من القلق و الارتياب و لكنهم انتظروا طويلا لعله يفيق من تاثير المخدر.
ولكنه لم يفق فى حين ان قلبه مازال ينبض والمخ ماض فى اعطاء اشاراته المعروفة .. هى غيوبة اذن..
والحقيقة انه لم يكن فى غيبوبة ولكنه لم يستطع ان يحرك راسه .
واسرعوا بنقله الى الدير ليتنيح هناك على حد تعبيرهم.. و كان هو بين الحين والاخر يفتح عينيه اللتان لا تريان او يتمم ببعض كلمات غير مفهومة .
وبعد يومين، وبينما كان الاب الرئيس يعاوده فى قلايته، سأل الاب اسحق بالانجليزية عن الحال.
فاجاب اسحق و غصة فى حلقه it's end ايام قلائل لا غير، و ربما ساعات .
شعر ببنودة و هو يصارع الموت بان الوجوم سائد على كل من بالدير و انهم كانوا يطلبون له الراحة من اتعابه لا سيما كلما سمعوا صرخاته المسعورة و هم داخل الكنيسة ...
و كان فى اليوم الاخير يرتمى فوق الحصير يصرخ و يشد فى لحيته و الاباء من حوله بين مشجع و دامع و باك.
واخيرا لاح للكل ان النهاية فى طريقها اليه او بالاحرى هو فى طريقه الى النهاية.
واجتمع الاباء عنده، يعزون، و يشجعون، بينما هو يرفس برجليه و يهذى بكلمات رديئة و غير مفهومة و فيما هم يتبادلون سير الاباء و اقوالهم كان ببنودة يحتضر.
-3-
في تلك الساعة دق باب قلايته .. دق.. ودق.. ودق، وبدأت صور الاباء الجلوس حوله في ان تختفي.. رويدا .. رويدا..
و عاد الباب ليطرق من جديد فى شدة وإلحاح وفتح ببنودة عينيه و جعل يفرك فيهما و تحسس راسه.. و اذ هو يحلم !
فقام مفزوعا و ضرب الغطاء كل قوة قدمه و قفز كمن صعقه التيار ليفتح الباب للاخ بلامون .
ووجد بلامون ليقول له: اخطات يا ابى! كان يجب ان اوقظك من ساعة كطلبك الىّ و لكنى نسيت ذلك.
و لم يرد ببنودة بل انفجر باكيا.
+ + +
فى العام الماضى مضيت الى الدير المذكور للتبرك من قديسيه و
رهبانه . وطلبت من الاباء هناك ان يمكنونى من مقابلة احد الشيوخ لاكشف له افكارى و
انتفع بخبرته و ابوته.
و انتظرت طويلا قبل ان ياتينى الاب ببنودة .. تشع من وجهه القداسة و الملائكية .. وتحدثت معه
قليلا ووجدت راحة ليست بقليلة .. ولكنه بعد دقائق استاذن منى معتذرا عن عدم امكانه
المواصلة فقد المّ به صداع خفيف!