4 ديسمبر 2014

راعي الخنازير


نشأ يوثام في اسرة تحيا حياة صارمة، وتتبع كل الطقوس اليهودية بحرفية. واتبع هو كل هذه القواعد طالما كان في المنزل ولكن ما ان شب عن الطوق حتى اصبح يخرج كثيرا مع اصحابه، وكان الكثير منهم من غير اليهود (الامميون)، و بدأ في تكسير هذه القواعد واحدا تلو الاخر. اكل لحم الخنزير مع اصحابه بفرحة غامرة وسكر ولعب القمار والقى النكات المهينة لشعبه ..
وبطبيعة الحال غضب والده ووبخه عدة مرات واخيرا طرده من المنزل، لذا ذهب وعاش مع احد اصدقائه. ثم بعد فترة بدأ يسأم الحياة على الطريقة الاممية. وجد ان حياته هذه لا تقوده الى شئ. فقرر ان يقف عند هذا الحد ويبدأ في تكوين نفسه اي يعمل ويكسب المال وبالتالي يصبح ذو شأن.
فكر في الامر كثيرا وقرر اخيرا ان يبدأ العمل كراع خنازير. اولا: لان هذا العمل يدر دخلا كثيرا. ثانيا: انه وسيلة للازدراء من المجتمع الذي تربى فيه وقوانينه الصارمة.
تقلب في العمل شيئا فشيئا من راع لاخر وشيئا فشيئا ادخر المال وشق طريقه ببطء في الحياة وتمكن اخيرا ان يشارك ثلاثة اخرين – وكانوا يونانيين- في تربية قطيع كبير من الخنازير. وفي سن الاربعين اصبح واحدا من كبار رجال الاعمال، ومن ثم عاد الى موطنه.
لم يمض وقت طويل حتى سمع بخبر موت صديق طفولته بينيا فقد مرض بحمى خبيثة من نوع ما ورغم ان الحدث كان مأساويا لكنه لم يعن الكثير بالنسبة له. فقد كان قد كف عن الاهتمام باحوال الاخرين منذ زمن طويل. لكن من الواضح ان حادث موته قد نال من شقيقه دانيال هو الاخر. لم يمر طويل عن الجنازة حتى بدأ الصراخ والشتائم واللعنات تسمع من منزله، وظهر القلق الشديد على ملامح والديه المسنين. كان الكل يتحدث عما حدث لهذا الشاب غريب الاطوار.
مرت الايام وذات يوم بينما كان يوثام يراجع حسابات العمل في بيته، سمع من على بعد اصوات صراخ مروعة. قفز مفزوعا واذا بالصرخات تتزايد وتتعاقب باستمرار مرتفعة اعلى واعلى فذهبت الى الباب لارى ماذا يحدث في الخارج. وهنا رأيت دانيال عاريا تماما، يصرخ بأعلى صوته، ويلوح بذراعيه، ضاربا على جسده، ومهرولا في الشارع اتيا تجاهي.   
وكلما اقترب اكثر، كلما استطعت ان ارى الجروح التي تنزف هنا وهناك على فخذيه، بطنه، صدره، ووجهه، وبين الحين والاخر كان يضرب نفسه او يفقأ جرح جديد باظافره.
توقف امام باب منزل يوثام للحظات محدقا في وجهه وبدأ في اطلاق الشتائم والسباب عليه. وقف مندهشا يشاهد ويسمع. حتى وقف شعر رأسه وبدأ يرتجف ويتساءل: هل تملكه الشيطان؟ ان لم يكن كذلك فما هو سبب ما يحدث امامه؟
اخذ دانيال يسب ويلعن كل من تواجد بالطريق اثناء ابتعاده وعندما وصل الى حافة المدينة عبر شق في الجبل واتجه الى المقابر. بعد ذلك لم يراه احد في البلدة مرة اخرى. ولكنهم كثيرا ما كانوا يرونه في القبور، عاريا تماما ركض هنا وهناك، وهو يصرخ ويمزق جسده ويجرح نفسه بالحجارة. كنا جميعا خائفين منه لذا تجنبوا القبور قدر استطاعتهم.   
واخيرا قرر بعض كبار البلدة ان الوقت قد حان للتصرف في هذه المسألة. وجمعوا اول فريق من الرجال واتفقوا معهم على مباغتته والقبض عليه. وعندما وقع في ايديهم ربطوه بحبل قوي جارين اياه الى بيت اسرته ولكنه قطع الحبل وكأنه خيط وهرب مرة اخرى الى القبور. ثم حاولوا مر اخرى ولكنهم قيدوه هذه المرة بسلسلة من حديد. ولكنه بطريقة ما كسر السلسلة. اخيرا حينما يأسوا قرروا تركه. فبالرغم مما هو عليه الا انه لم يكن يؤذي احدا الا نفسه.
ولكن بعض من اهل القرية بنوا له مأوى وكانوا يتركون له القليل من الطعام  هناك. وقد اسموه بـ "المعتوه" ثم غيروا الاسم الى "لجئون" لانهم اعتقدوا ان الكثير من الارواح  الشريرة تسكن فيه.
وذات يوم بعد مرور عدة سنوات كان يعمل في مكتبه عندما سمع صوت ضجيج عال في بابه سارع الى الباب فوجد ياسون هناك – وهو احد رعاة الخنازير يعمل لديه- يلهث، حاول التقاط انفاسه ثم قال:
- سيدي! الخنازير.. لقد نفقوا كلهم.  ركضوا ثم القوا انفسهم من على الجرف الى البحر فغرقوا جميعا.
- ما هذا الذي تقوله؟ هل جننت؟
- كم قلت يا سيدي، لقد جنوا كلهم وقفزوا من على الجرف الى البحر فغرقوا.
- هيا يا فتى فكلامك لا معنى له ولا يصدقه عاقل. الخنازير لا تتصرف على هذا النحو. من المستحيل ان يندفعوا هكذا بلا سبب..
وبينما هو يتحدث جاء راع اخر يركض مثل سابقه وغير قادر على التقاط انفاسه.
- ما الذي حدث؟ ماذا عن الخنازير؟
- حسنا يا  سيدي. كنت ماشيا ذهابا وايابا، اشرف على الاولاد والقطعان عندما رأيت  مجموعة من الرجال حوالى اثنى عشرة رجلا قادمين نحونا من بحر طبرية. فجأة ظهر المعتوه امامنا من العدم وبدأ بالصراخ يشير للجماعة القادمة وعندما اقتربت لارى ماذا يحدث وعلى بعد مسافة قصيرة رأيت واحدا من الرجال من الواضح انه الربي يسوع يقول شيئا للمعتوه. صرخ المعتوه بصوت عال:
- ما لي ولك يا يسوع ابن الله العلي؟ استحلفك بالله الا تعذبني!
لكن يسوع قال: ايها الروح النجس اخرج منه.
ثم سأله: ما اسمك؟
- اسمي لجئون. لاننا كثيرون.
ثم سمعناه يقول – والصوت خارج من الشياطين التي تسكنه: لا ترسلنا الى خارج المنطقة.
- حسنا. واشار يسوع الى قطعان الخنازير وقال لهم : اذهبوا.
وفي لحظة جن جنون القطيع كله واندفع بعنف وقفز من اعلى التل الى البحر. لم يتبق اي منهم.
- هل تعني غرقوا كلهم؟ الالفي خنزير.. يا للكارثة!.. هذه كل ثروتي ضاعت في لمحة بصر..
كانت قبضته مضمومة ويضغط على اسنانه بعصبية وهو يقول: "من هو يسوع هذا؟"، وجرى الدم في عروقه حتى اوشكت على الانفجار. في الواقع كان محظوظا حيث لم ينفجر اي وعاء دموي برأسه. ثم صاح: "لسوف اذهب اليه واجعله يندم على مجيئه لبلدتنا".
عندما خرج كان رعاة القطعان الاخرين قد خرجوا ايضا في طريقهم الى يسوع. كان عددهم عشرة وكانوا متأهبين للشجار معه ولطرده.
عندما وصلوا وجدوا جمعا من الناس ملتفين حول دانيال الذي كان يجلس عند قدمي يسوع مرتديا ثيابا نظيفة، يبدو ان عقله رجع اليه. عندما التقت نظراتهما ابتسم دانيال لصديقه القديم. لم يكن كالسابق – المعتوه المتشرد الغاضب. كما لم تكن تلك النظرات الجافة التي اعتادها منه قبل ان يجن. لقد كان دانيال ميتا فعاش.
اذهله الموقف بل اخافه. فمن يا ترى هذا الذي له سلطان على الارواح الشريرة؟ ولكن خسارته الفادحة في قطعانه لم تترك مشاعر الاعجاب تختلجه اكثر من دقيقتان. فهو قد فقد الفا من الخنازير بينما باقي الرعاة العشرة الاخرين يمتلكون مجتمعين الالف الاخرين. كان الجميع محدقا به منتظرين رد فعله الغاضب، ولكنه بدا واقفا مثل جرو صغير عللى استعداد للتزلف والتذلل لسيده، ويبدو ان الرعاة الاخرين شاركوه هذا الاحساس، حيث انهم ظلوا صامتين ينتظرون منه ان يبادر بالخطوة الاولى.    
راح يوثام يستجمع شجاعته وحاول ان يثور ويحتد ولكنه اخيرا خاطب يسوع قائلا:
- يا سيد، اعني يا سيدي. لا تسئ فهم ما سأقوله. ولكن مجيئك قد تسبب في حدوث كارثة كبيرة لنا. اقصد ان اقول اننا فقدنا الكثير من المال. و ... نحن لا نعرف كيف نعوّض ذلك. اذا كنت تنوي البقاء هنا لمدة اطول – ولا تسئ فهمي في هذا ايضا- فهل من الممكن يا سيدي، هل لي ان ارجوك ان تترك بلدتنا في اقرب وقت؟ انا متأكد من انك ستتفهم الامر، فنحن لا يمكننا تحمل مثل هذه الاشياء هنا، وهذا..." ثم لم يجد ما يقوله. 
تنهد يسوع ووقف صامتا ينظر اليه ثم قال:
- الا يهمك امر دانيال؟، قال هذا وهو ينظر اليه نظرات عميقة اخترقت نفسه فحول دانيال وجهه خجلا. ثم التفت يسوع الى اتباعه وقال:
- لنذهب من هنا.
فاستدار الجميع واتجهوا الى البحيرة، وتبعهم دانيال. لكن ما ان لمحه يسوع خلفه حتى سأله: ماذا تريد؟
سجد دانيال على ركبتيه وقال: يا معلم، اريد ان اتبعك. اسمح لي ان اذهب معك ولسوف اخدمك كل ايام حياتي.
امسكه يسوع بيده مقيما اياه بلطف: لا يا دانيال، هناك شئ اخر اريدك ان تفعله. عد  الى عائلتك وبلدتك واخبرهم كم صنع الرب بك ورحمك.
نظر دانيال الى اسفل وتنهد صامتا لبرهة ثم قال: سأفعل.
استغرق بعض الوقت حتى افاق من ذهول وعاد الى بيته اخيرا والافكار تجتاحه:
- بأي حق قتل يسوع هذه الخنازير؟ هذا ليس عدلا. فقد عملت بجد طوال حياتي حتى اصبحت لدي هذه الثروة.
ولكن رنت في اذنيه كلمات يسوع وتصوره واقف امامه يسأله بصوته العميق العذب، وهو يحاول ان يدافع عما يجيش به صدره من حزن وغيظ. كان سؤال يسوع يلح: اما يهمك امر دانيال؟
- ولكن ماذا عن خنازيري؟ لقد فقدت الف خنزير. فقدت ثروتي.
- الا يهمك امر دانيال؟
- لماذا يجب ان اهتم بأمر دانيال؟ وما الذي قدمه دانيال لي؟
- الا يهمك امر دانيال؟
- لقد سئمت من دانيال. يا ليتني لم اعرفه على الاطلاق. لماذا لم تشفيه دون ان تقتل كل ما لدي من خنازير؟
- هل تهتم لامر الخنازير اكثر من دانيال؟

- لكن الخنازير قد ذهبت الان، ولن يمكنك استعادتها. هل ستتمسك بذكرى مجموعة من الخنازير النافقة؟
- هل من المفترض ان افقد ثروتي واقول: شكرا لك يا رب.
- يمكنك ان تقول ما تريد. لكن يجب ان تختار الان اذا كنت ستتمسك بحزنك وغضبك من اجل الثروة المفقودة، او ان تفرح من اجل دانيال.
- اوه. اصمت. انا لست بارا. كل ما اريده هو خنازيري.
ثم اخيرا قام وهو يحاول ان ينهي صراعه الداخلي مع نفسه الذي بدا انه لا ينتهي، ونهض من فراشه ينفض عنه مشاعر الكابة القاتمة التي اكتنفته. لم يرد ان يستسلم. لكنه بدأ يتساءل عما اذا كان حقا يريد ان يكمل في مهنة رعى الخنازير ام لا. رمى ثانية بنفسه في خضم الاعمال التجارية.  وبعد عشرة ايام جاء دانيال لزيارته. شعر باستياء شديد لزيارته ولكنه لم يرد ان يهينه، ولذا فقد جلس صامتا. ولكن يبدو ان دانيال لم يلحظ استياءه فقد ظل يردد مرارا وتكرارا بكل بساطة قائلا: "انظر  ما فعله الله بي!". لم يتمكن يوناثان من تجنب تأثير كلماته حيث انه كان يرى وجهه المبتسم والحيوية الجديدة بادية عليه، ولكن قلبه كان لا يزال مغلقا. واكتفى بالقول انه مسرور لما فعله الله بي. لم يستطع ان يستمر في الكذب لذا فبعد فترة صارحه قائلا:
- انا اعرف ان ما فعله الله كان امرا جيدا ومبهجا. لقد شفاك ولكني فقدت الف خنزير.
- ولكن كما تعلم، اذا كنت املك اي عدد من الخنازير، لكنت دفعتها كلها وانا سعيد لاصبح ما انا عليه الان.
- لكنها كانت خنازيري انا لا انت.
اتسعت حدقتا دانيال للحظة ثم ابتسم في وجهه وقال: لا تغضب. ثم بلع ريقه ونهض وغادر.
في الايام التالية عندما كان يجلس مع نفسه ومهما جادل مع نفسه لم يستطع ابدا الهروب من كلمات دانيال:
- انظر ما فعله الله بي.
وكثيرا ما كان يجيب: 
- نعم، ولكن ماذا عن الخنازير؟
ثم تطارده كلمات يسوع: 
- اما يهمك امر دانيال؟
كم كان يتوق لمحو تلك الكلمات من ذاكرته.
بعد اسبوعان جاء دانيال يطرق بابه ثانية. عندما رآه كان على وشك ان يغلق الباب في وجهه، لكن شيئا ما منعه من هذه الوقاحة. جلسا صامتين لبضع دقائق، ثم بادره دانيال قائلا: 
- الا تزال حزينا؟
- نعم، انا حزين.
- لكن يا يوثام لا يجب ان تكون حزينا. لقد رأيت ما فعله الله بي، يمكنك ان تطلب منه ان يفعل المثل بالنسبة لك ايضا.
- انا لا اريد منه اي شئ.
- لكن الا تعلم ان الله يستطيع ان يغمر حياتك بالفرح، فلماذا تعيش حزينا؟
- هذا ليس عدل. اه، اخرج من بيتي. دعني وشأني.
توقف دانيال، هز رأسه واجاب:
- حسنا سأتركك وشأنك، لكني متأكد ان الله لن يتخل عنك.
في تلك الليلة استولى عليه الارق، لم يستطع النوم لذا فقد غادر المنزل يهيم على وجهه مشي لساعات دون ان يشعر حتى وصل الى حافة البلدة فجلس على صخرة وقد ارهقه التفكير.ادرك يوثام في النهاية انه مضطر ان يختار اما الحزن الابدي على فقد الخنازير، او قبول الله في حياته والفرح به. ادرك انه لم يكن يريد هذه الخنازير. في الواقع طوال الايام الماضية منذ الحادث وهو لم يعد يحب ان يراها كما كان في الماضي. لقد كان يعلم انه يريد الله لذا فمع اول شعاع شمس جثا على ركبتيه والقى بنفسه بين يدى المراحم الالهية وصلى قائلا:
يا الله، قد كنت احاربك كل حياتي.
لقد سئمت من هذا الامر.
ارجوك، المس حياتي الان.
اغفر لي ورد لي بهجة خلاصك.
وللتو علم ان الله سمع لصلاته وغمر السلام قلبه.
===
على الرغم ان اليهود كانوا يكرهون الخنازير لأنها حيوانات نجسة بحسب الشريعة الا ان بعض اليهود كانوا يقومون بتربيتها لبيعها لليونانيين والرومانيين

موضوعات ذات صلة