27 فبراير 2015

بم يحيا الانسان؟


ها هى واحدة من ضمن مجموعة قصص قصيرة لتولستوى وهو احد الأدباء والمفكرين الروس العظام الذين يشبعون روحك وفكرك ايها القارئ بشكل خرافي, تخرج منهم بوجبة روحية دسمة، ولا تملك سوى ان تصمت طويلا لتتنفس بعمق فلسفتهم. اقدم ملخصا لاحد قصصه، وارجو ان يكون دافعا للتمتع بانتاجه الفني القائم ليس على الإحداث والإثارة فقط, بل على الأفكار والصراعات النفسية وتحليل سيكولوجية الشخصيات.
 
نهض سيمون الاسكافي مبكرا وطاف ببعض المدينين له، لكي يأخذ ديونه ويشتري بها معطفا يقيه برد الشتاء، ولكنه لم يستطع ان يجمع سوى جزءا ضئيلا لا يكفي لشراء المعطف، ومن ثم قفل راجعا الى بيته وفي الطريق رأى من بعيد رجلا جالسا بلا حراك مستندا الى جدار الكنيسة، شبه عار. اخذ الرعب بمجامع قلب سيمون وبدأت الافكار تتقافز الى عقله: لعل احد اللصوص قتله وسلبه ماله ومن ثم تركه على هذه الحالة. لو اقحمت نفسي في هذا الامر فلن اواجه سوى المتاعب. وتعمد سيمون ان يسير قرب الكنيسة لعله يراه عن كثب.
وبعد ان جاوزه قليلا استدار ونظر خلفه، ولاحظ ان الرجل لم يعد مستندا بل كان يتحرك كما لو كان يريد ان يقول شيئا. داهم سيمون شعور بالخوف اكبر واستبد به القلق والتساؤل: ايهما افضل، ان اعود اليه، ام ان اواصل السير؟ اذا دنوت منه فقد يحدث ما لا تحمد عقباه. ومن يدريني ماذا يكون هذا؟ هل يمكن ان يأتي الى هذا المكان الموحش لغرض صالح؟ اذا ذهبت اليه فقد يقوم علىّ ويخمد انفاسي، ولا سبيل للهرب او النجاة، وحتى اذا لم افعل ذلك الا يكون ذلك عبئا ثقيلا عليّ؟ ماذا يمكن ان اقدم لهذا الرجل العاري؟ لا استطيع ان اعطيه ما بقى لي من ملابس.. يا رب اعني حتى انجو بنفسي. وحثّ خطاه ولكن ضميره انّبه في قسوة وعنف فتلكأ في المسير.. ما هذا الذي تفعله يا سيمون؟ قد يكون هذا المسكين في النزع الاخير بسبب الحاجة او الفاقة! وانت تهرب في خوف؟.. ماذا تملك ايها البائس حتى تخشى من قطاع الطرق؟ لا، لا يا سيمون، انه امر مخجل ما تفعله حقا.
وقفل راجعا واقترب من الغريب العاري وامسك به من مرفقه واعانه على النهوض، ثم القى معطفه على الرجل. وهمّ سيمون بخلع طاقيته حتى يضعها على رأس الغريب، ولكنه ما كاد يفعل هذا حتى لدغه البرد القارس وقفز الى ذهنه خاطر اني اصلع اما هذا الشاب فعنده ثروة من الشعر المجعد. وهكذا سار سيمون يتبعه الغريب الذي لم يتخلف او يتعثر اثناء سيره.
- من اي بلد انت؟
- لست من هذا البلد.
- هل انت هارب من عدو او انسان ما؟
- لم يسئ اليّ احد.. انه عقاب الله. لا شك ان الله ضابط الكل. لكن هذا لا يمنع ان نجد مأوى. اين تريد ان تذهب؟
- الى اي مكان، الكل سواء عندي.   
عندما وصلا البيت وقرع سيمون الباب. صاحت ماترينا:
- اين المعطف؟ ما هذا الغريب؟ العله احد اصدقاء السوء؟
- كفاك يا ماترينا! اضبطي لسانك.
قدمت ماترينا الطعام لهما.. وظل الغريب مقيما عند سيمون لبعض الوقت ومن ثم عرض عليه ان يعاونه في عمله كصانع للاحذية. وافق الغريب وعمل معه لستة سنوات لاحظ فيها سيمون انه لم يبتسم خلالها الا 3 مرات. الى ان جاء يوم وجاءت سيدة معها فتاتين تطلب صنع احذية لها. لاحظ الجميع ان الغريب يشع منه نورا عجيبا. وفي الحال اتجهت انظارهم نحوه فوجدوه جالسا وقد عقد يديه على ركبتيه، بينما شخصت عيناه الى السماء وتلألأت على شفتيه ابتسامة.
اقترب سيمون وسأل بتعجب: هلا تخبرني بحقيقتك. ان نورا يشع منك نورا.
- انا، يشرق مني النور؟ لقد كنت تحت العقاب اما الان فقد سامحني الله.
- لم لم تبتسم منذ رأيتك سوى 3 مرات؟
لقد ابتسمت في المرات الثلاثة، لانني تعلمت في كل مرة حقيقة من الحقائق: تعلمت الحقيقة الاولى حين اشفقت زوجتك عليّ. تعلمت الحقيقة الثانية حين طلب الثري حذاءا يدوم معه عاما كاملا. تعلمت الحقيقة الثالثة حين رأيت الصغيرتان وكنت اعرفهما قبلا.
- لكن لماذا عاقبك الله؟
لقد خالفت الله، فلقد ارسلني الله لكي اقبض روح امرأة فوجدت بجوارها طفلتين توأم وضعتهما قبل ساعات. عندما رأتني المرأة ادركت مهمتي على الفور فأجهشت بالبكاء وقالت يا ملاك الله ان زوجي قد دفن منذ فترة وجيزة بعد ان سقطت عليه احدى الاشجار وليس لي اخت ولا ام ولا عمة. من يعتني بهاتين اليتيمتين؟ اسألك الا تنزع روحي حتى ارضعهما واطعمهما على الاقل حتى يشتد ساعداهما ويقويا على المشي فقط. واستمعت لرجاءها وطرت راجعا الى السماء وبررت نفسي امام القدير:
- لم استطع، فالاطفال لا يستطيعوا الحياة دون ام و اب. فقال لي:
- اذهب الى الارض واقبض روح المرأة وتعلم ثلاث امور.
الاول، الشئ الذي يسكن في الانسان. الثاني، الشئ الذي لا يزاد له. الثالث، الشئ الذي يحيا به الانسان.
وفعلت ذلك، قبضت روح المرأة فتدحرجت على الفراش واستقرت على قدم الصغيرة فالتوت قدمها وطرت راجعا الى السماء ولكن هبت عاصفة وجف جناحاي. صعدت روح المرأة وحدها بينما انا سقطت على قارعة الطريق. الى ان رأيتك تمر وسمعتك تتحدث مع نفسك، فقلت:
- هانذا اهلك من البرد، وها هو الانسان مشغول بكسوة جسده وطعام اسرته، كيف يحصل لي على هذا الكفاف؟ هل يمكن ان يقدم هذا البائس معونة ما؟    
ولكن حينما اقتربت مني لاعانتي، وجدتك وقد امتلأت بالحياة ورأيت الله كائنا فيه.
وحين احتدت زوجتك ماترينا وجدتها مخيفة ومرعبة، كانت تنفث من فمها رائحة الموت. لم استطع ان اتنفس لأن روائح كريهة ملأت المكان. كانت تريد ان تطردني الى العراء. كنت اعلم انها لو نفذت وعيدها فموتها وشيك لا محالة. وعلى حين غرة حدثتها انت عن محبة الله، وتغيرت في الحال واحضرت الطعام. لم اعد ارى الموت في قسمات وجهها فقد عادت الى الحياة، وفيها ايضا عاينت صورة الله. لحظتها ابتسمت لأني وجدت اجابة السؤال الاول. بقى السؤالين الاخرين.
حين جاء الثري يطلب صنع حذاءا يدوم عاما كاملا، رأيت خلفه زميلي ملاك الموت وتعجبت ان هذا الرجل يرتب اموره لعام مقبل بينما لا يعلم انه سيفارق الحياة قبل حلول المساء، وهذا الذي اعده لمن يكون؟ لقد علمت ان احدا لا يقدر ان يزيد على قامته ذراعا واحدا فكم بالحري عمره.
 وفي هذا العام السادس اقبلت صغيرتان وما كدت اراهما حتى عرفت فيهما ابنتا المرأة التي قبضت روحها. ها هي امرأة غريبة قامت على تربيتهما وعاملتهما كأنهما ابنتاها.