"وَقَالَ لَهُمْ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ لَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ: "لِنَجْتَزْ إِلَى الْعَبْرِ". فَصَرَفُوا الْجَمْعَ وَأَخَذُوهُ كَمَا كَانَ فِي السَّفِينَةِ. وَكَانَتْ مَعَهُ أَيْضاً سُفُنٌ أُخْرَى صَغِيرَةٌ. فَحَدَثَ نَوْءُ رِيحٍ عَظِيمٌ، فَكَانَتِ الْأَمْوَاجُ تَضْرِبُ إِلَى السَّفِينَةِ حَتَّى صَارَتْ تَمْتَلِئُ. وَكَانَ هُوَ فِي الْمُؤَخَّرِ عَلَى وِسَادَةٍ نَائِماً. فَأَيْقَظُوهُ وَقَالُوا لَهُ: "يَا مُعَلِّمُ، أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟" فَقَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيحَ، وَقَالَ لِلْبَحْرِ: "اسْكُتْ. اِبْكَمْ". فَسَكَنَتِ الرِّيحُ وَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ. وَقَالَ لَهُمْ: "مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ هكَذَا؟ كَيْفَ لَا إِيمَانَ لَكُمْ؟" فَخَافُوا خَوْفاً عَظِيماً، وَقَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: "مَنْ هُوَ هذَا؟ فَإِنَّ الرِّيحَ أَيْضاً وَالْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!" (مرقس 4:35-41).
كان النهار قد مال ودنا المساء، فصرف التلاميذ الجمع وأخذوا المسيح وأقلعوا قاصدين شاطئ بحر الجليل الشرقي، ورافقتهم سفن أخرى صغيرة. وفي سيرهم تحت جنح الليل، نام المسيح على وسادة في مؤخر السفينة. ذُكر عنه أنه جاع وعطش وحزن وتعب وتنهد وبكى وابتهج. ولكن لم يُذكر مطلقاً أنه ضحك أو مرض أو خاف. ولم يُذكر أنه نام إلا في هذا الحادث. نام كابن الإنسان، فأعطى بذلك برهاناً قاطعاً على صدق بشريته. أما بالنظر إلى طبيعته الإلهية فلم يزل كلام المرنم صادقاً "لَا يَنْعَسُ وَلَا يَنَامُ" (مزمور 121:4). لا بل على رغم هذا النوم الجسدي، هو ساهر على رفقائه في السفينة وهم يسيّرونها ويلاحظون علامات النوء النازل عليهم من بين الجبال المحيطة بهذه البحيرة. كان التلاميذ قد قضوا أكثر أوقاتهم على هذا البحر، وقابلوا أنواء عديدة في مياهه، ولذلك بدأوا يهيئون القلوع والمجاديف، وكل ما يلزم، استعداداً لما قد يطرأ عليهم في النوء الهاجم.
لم يطل الوقت حتى غطت الأمواج السفينة وصارت تمتلئ فصاروا في خطر. سلمت قديماً من ذلك الطوفان الهائل في أيام نوح سفينة كانت تُقلُّ ثمانية أشخاص، هم عائلة نوح الصالح - فهل تسلم الآن البذرة الوحيدة للكنيسة المسيحية في العالم، وهي المسيح ورسله في هذه السفينة على بحر الجليل؟ أليست أهمية سلامة المسيح وتلاميذه مثل أهمية سلامة نوح وبنيه سام وحام ويافث؟
نرى في هذا النوء القوات المهلكة تتخذ نوم المسيح فرصة لتحاول إهلاكه وإهلاك تابعيه. ونتخيل هؤلاء الصيادين وحركاتهم العنيفة في مقاومة العاصفة، ونسمع صياحهم فوق هدير الريح وتلاطُم الأمواج، وهم يصرخون الواحد إلى الآخر بما هو جارٍ معه، وما يطلب كل واحد من الآخر أن يعمله. ننظر كيف يترنّحون من ملاطمة الأمواج في ظلام الليل الدامس، وهم يتعبون في تفريغ المياه من قعر السفينة، لأن السفينة في البحر الهائج يمكن أن تنجو، ولكن متى صار البحر الهائج في داخلها لا يمكن أن تنجو.. كما أن الإنسان الذي يهيج حوله نوء الشر في قلبه.. نوء المحيط لا يغرق، لكن الذي يهلك هو النوء الذي في النفوس... يصحُّ هذا القول في الكنيسة إجمالاً كما يصحّ في أفرادها، لأن الأشرار حولها لا يمكن أن يفنوها، لكن يهدمها الأشرار الذين فيها.
هل خطر للتلاميذ أن المسيح هو نائم "حرز وتميمة" يحفظ السفينة ومَنْ فيها من كل أذى؟ لا نظن. لأن الخوف جبارٌ يضعضع الرشد ويشتّت الإيمان متى كان ضعيفاً. نقصتهم الثقة بالمسيح وهو نائم، كما نقصتنا نحن الثقة بالمسيح وهو غائب عن الأبصار. وقد يكون أنهم لاحظوا اقتراب النوء قبل أن يقلعوا من البر، وربما كان إلحاح المسيح عليهم بأن يسافروا بعد محاولتهم البقاء في الميناء سبباً في أنهم ألقوا اللوم عليه. فكيف لا يزال نائماً على رغم ضجيج النوء وضجيج النوتية؟ كيف لا يبالي بهذا الخطر العظيم المحيط بهم؟
ربما قصد المسيح حتى بعد اشتداد النوء أن يمتحن إيمانهم. في البدء أمسكهم حبهم واحترامهم له عن إيقاظه لأنهم لا ينتظرون منه مساعدة في تدبير السفينة. لكن بعد أن فشل كل ما عندهم من الوسائل، لم يسَعْهم إلا أن يوقظوه. ألا يحقُّ لهم أن يطلبوا معونته في الخطر الشديد صارخين: "يا معلم، أما يهمك أننا نهلك؟". هل نسوا سريعاً ما تعلَّموه عن مقامه الإلهي وقدرته الفائقة، حتى ظنوا في جهالتهم أنه يُحتمل وقوع أقل ضرر لسفينة فيها الذي عرفوه رباً حقيقياً؟ أيقظوه فقام الذي "يَجْمَعُ كَنَدٍّ أَمْوَاهَ الْيَمِّ. يَجْعَلُ اللُّجَجَ فِي أَهْرَاءٍ". القائل: " أَنَا الَّذِي وَضَعْتُ الرَّمْلَ تُخُوماً لِلْبَحْرِ فَرِيضَةً أَبَدِيَّةً لَا يَتَعَدَّاهَا، فَتَتَلَاطَمُ وَلَا تَسْتَطِيعُ، وَتَعِجُّ أَمْوَاجُهُ وَلَا تَتَجَاوَزُهَا" (مزمور 33:7 ، إرميا 5:22).
لما استيقظ هذا السيد النائم رأى نوئين، الواحد في البحيرة، والآخر في صدور تلاميذه، فاهتم لهذا أكثر من ذاك. إنما بلطفه ابتدأ بتوبيخ النوء البحري، بينما كان التلاميذ أوْلَى بالتوبيخ، فقد كان يعلم أنهم لا يستفيدون بالتوبيخ إلا بعد أن يسكن النوء، فسكّته أولاً. تكلّم سلطان البحار وقال للبحر: "اسكت.. ابكم".
ليس كما ضرب موسى البحر بعصاه بأمر الرب، فخضع، بل بمجرد كلمته أخضعه، لأنه هو "الْمُتَنَطِّقُ بِالْقُدْرَةِ، الْمُهَدِّئُ عَجِيجَ الْبِحَارِ عَجِيجَ أَمْوَاجِهَا وَضَجِيجَ الْأُمَمِ" (مزمور 65:6 و7).
نحن نشهد له فنقول قول المرنم: "مَنْ مِثْلُكَ قَوِيٌّ... أَنْتَ مُتَسَلِّطٌ عَلَى كِبْرِيَاءِ الْبَحْرِ. عِنْدَ ارْتِفَاعِ لُجَجِهِ أَنْتَ تُسَكِّنُهَا. صَوْتُ الرَّبِّ عَلَى الْمِيَاهِ.. الرَّبُّ فَوْقَ الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ" (مزمور 89:8 و9 و29:3). فالذي ينتهر الآن بحر طبرية هو الذي انتهر قديماً بحر "سوف" فيبس، وسيَّرهم في اللجج كالبرية. تسلط آنئذٍ على البحر الأحمر خدمةً لجماعة خائفيه، وها هو يسكن هيجان بحر الجليل لمرور تلاميذه فيه، لأنه كما أن الخراف لا تعرف ولا تطيع إلا صوت راعيها، كذلك الرياح والأمواج لا تعرف ولا تطيع إلا صوت باريها. فبأمره سكتت الريح وصار هدوء عظيم. ولم يكن هذا الهدوء طبيعياً، لأن قانون الموج أن يزول تدريجياً بعد زوال الريح، فكانت هذه معجزة مزدوجة.
نعلم أن السر في الحياة اليومية هو السرّ في تلك السفينة المعذبة. أي أن السلامة للأشخاص وللكنيسة في وسط أنواء الحياة، تقوم بوجود المسيح في القلوب، وسائراً مع كنيسته، لينتهر قوات الشر، ويوجد الهدوء والظفر.
ولنا في تسكين المسيح هذا النوء لمحة من القصد الإلهي، بأن يعيد إلى الإنسان سلطته على الطبيعة التي فقدها بسقوطه، وذلك بواسطة عمله الفدائي. نرى هذا يتم على نوعين: أولاًبواسطة رقيّه الروحي، فيقابل مخاطر القوات الطبيعية وأضرارها دون ارتعاب. وثانياً: بواسطة رقيّه العلمي، فيستولي على كثير من هذه القوات ويتلافى أضرارها ويستخدم منافعها - كما يستخدم سرعة الرياح في توليد الكهرباء.
مثّلت الريح من خارج البحر المصائب الخارجية التي تنقضُّ على الإنسان، ومنها القُوى الطبيعية المهلكة للأجساد. ومثَّل التموُّج من داخل البحر التجارب الداخلية التي تثور في نفس الإنسان، وهي القوى الشيطانية المهلكة للنفوس. ففي تسكين المسيح هذا النوء المزدوج بالمعجزة المزدوجة، أعلن استعداده أن يعمل عملاً مزدوجاً في سفينة حياة الإنسان التي تتخبط في بحر هذا الدهر. وهو الذي يعطي الفوز على نوعي البلايا، والسلامة من شرهما. فالمصائب والتجارب هي كبوتقة الصائغ، التي لا تحوّل الذهب نحاساً ولا النحاس ذهباً، بل تُظهر الحقيقة وتزيل الإلتباس، وتزيد الذهب جلاءً وانفصالاً عن النحاس. هكذا التجارب لا تصيّر الصالح صالحاً ولا الشرير شريراً، لكنها تُظهر الحقيقة وتكشف عن شر الشرير وتزيده، وعن صلاح الصالح وتزيده.
أما النوء الثاني الذي كان في صدور التلاميذ فقد سكّنه المسيح بتوبيخ لطيف، عندما قال: "ما بالكم خائفين هكذا يا قليلي الإيمان؟ كيف لا إيمان لكم؟" فأظهر سلطانه في معالجة المصائب الخارجية، كما في ذلك معالجة التجارب الداخلية الأشدّ خطراً. فإنه يوقف النوعين متى شاء، وكان في ذلك خير، لأن سماح الله بالتجارب والمصائب، ليس إلا للخير. "اللّهَ أَمِينٌ، الَّذِي لَا يَدَعُكُمْ تُجَرَّبُونَ فَوْقَ مَا تَسْتَطِيعُونَ، بَلْ سَيَجْعَلُ مَعَ التَّجْرِبَةِ أَيْضاً الْمَنْفَذَ، لِتَسْتَطِيعُوا أَنْ تَحْتَمِلُوا" (1 كورنثوس 10:13).
كان النهار قد مال ودنا المساء، فصرف التلاميذ الجمع وأخذوا المسيح وأقلعوا قاصدين شاطئ بحر الجليل الشرقي، ورافقتهم سفن أخرى صغيرة. وفي سيرهم تحت جنح الليل، نام المسيح على وسادة في مؤخر السفينة. ذُكر عنه أنه جاع وعطش وحزن وتعب وتنهد وبكى وابتهج. ولكن لم يُذكر مطلقاً أنه ضحك أو مرض أو خاف. ولم يُذكر أنه نام إلا في هذا الحادث. نام كابن الإنسان، فأعطى بذلك برهاناً قاطعاً على صدق بشريته. أما بالنظر إلى طبيعته الإلهية فلم يزل كلام المرنم صادقاً "لَا يَنْعَسُ وَلَا يَنَامُ" (مزمور 121:4). لا بل على رغم هذا النوم الجسدي، هو ساهر على رفقائه في السفينة وهم يسيّرونها ويلاحظون علامات النوء النازل عليهم من بين الجبال المحيطة بهذه البحيرة. كان التلاميذ قد قضوا أكثر أوقاتهم على هذا البحر، وقابلوا أنواء عديدة في مياهه، ولذلك بدأوا يهيئون القلوع والمجاديف، وكل ما يلزم، استعداداً لما قد يطرأ عليهم في النوء الهاجم.
لم يطل الوقت حتى غطت الأمواج السفينة وصارت تمتلئ فصاروا في خطر. سلمت قديماً من ذلك الطوفان الهائل في أيام نوح سفينة كانت تُقلُّ ثمانية أشخاص، هم عائلة نوح الصالح - فهل تسلم الآن البذرة الوحيدة للكنيسة المسيحية في العالم، وهي المسيح ورسله في هذه السفينة على بحر الجليل؟ أليست أهمية سلامة المسيح وتلاميذه مثل أهمية سلامة نوح وبنيه سام وحام ويافث؟
نرى في هذا النوء القوات المهلكة تتخذ نوم المسيح فرصة لتحاول إهلاكه وإهلاك تابعيه. ونتخيل هؤلاء الصيادين وحركاتهم العنيفة في مقاومة العاصفة، ونسمع صياحهم فوق هدير الريح وتلاطُم الأمواج، وهم يصرخون الواحد إلى الآخر بما هو جارٍ معه، وما يطلب كل واحد من الآخر أن يعمله. ننظر كيف يترنّحون من ملاطمة الأمواج في ظلام الليل الدامس، وهم يتعبون في تفريغ المياه من قعر السفينة، لأن السفينة في البحر الهائج يمكن أن تنجو، ولكن متى صار البحر الهائج في داخلها لا يمكن أن تنجو.. كما أن الإنسان الذي يهيج حوله نوء الشر في قلبه.. نوء المحيط لا يغرق، لكن الذي يهلك هو النوء الذي في النفوس... يصحُّ هذا القول في الكنيسة إجمالاً كما يصحّ في أفرادها، لأن الأشرار حولها لا يمكن أن يفنوها، لكن يهدمها الأشرار الذين فيها.
هل خطر للتلاميذ أن المسيح هو نائم "حرز وتميمة" يحفظ السفينة ومَنْ فيها من كل أذى؟ لا نظن. لأن الخوف جبارٌ يضعضع الرشد ويشتّت الإيمان متى كان ضعيفاً. نقصتهم الثقة بالمسيح وهو نائم، كما نقصتنا نحن الثقة بالمسيح وهو غائب عن الأبصار. وقد يكون أنهم لاحظوا اقتراب النوء قبل أن يقلعوا من البر، وربما كان إلحاح المسيح عليهم بأن يسافروا بعد محاولتهم البقاء في الميناء سبباً في أنهم ألقوا اللوم عليه. فكيف لا يزال نائماً على رغم ضجيج النوء وضجيج النوتية؟ كيف لا يبالي بهذا الخطر العظيم المحيط بهم؟
ربما قصد المسيح حتى بعد اشتداد النوء أن يمتحن إيمانهم. في البدء أمسكهم حبهم واحترامهم له عن إيقاظه لأنهم لا ينتظرون منه مساعدة في تدبير السفينة. لكن بعد أن فشل كل ما عندهم من الوسائل، لم يسَعْهم إلا أن يوقظوه. ألا يحقُّ لهم أن يطلبوا معونته في الخطر الشديد صارخين: "يا معلم، أما يهمك أننا نهلك؟". هل نسوا سريعاً ما تعلَّموه عن مقامه الإلهي وقدرته الفائقة، حتى ظنوا في جهالتهم أنه يُحتمل وقوع أقل ضرر لسفينة فيها الذي عرفوه رباً حقيقياً؟ أيقظوه فقام الذي "يَجْمَعُ كَنَدٍّ أَمْوَاهَ الْيَمِّ. يَجْعَلُ اللُّجَجَ فِي أَهْرَاءٍ". القائل: " أَنَا الَّذِي وَضَعْتُ الرَّمْلَ تُخُوماً لِلْبَحْرِ فَرِيضَةً أَبَدِيَّةً لَا يَتَعَدَّاهَا، فَتَتَلَاطَمُ وَلَا تَسْتَطِيعُ، وَتَعِجُّ أَمْوَاجُهُ وَلَا تَتَجَاوَزُهَا" (مزمور 33:7 ، إرميا 5:22).
لما استيقظ هذا السيد النائم رأى نوئين، الواحد في البحيرة، والآخر في صدور تلاميذه، فاهتم لهذا أكثر من ذاك. إنما بلطفه ابتدأ بتوبيخ النوء البحري، بينما كان التلاميذ أوْلَى بالتوبيخ، فقد كان يعلم أنهم لا يستفيدون بالتوبيخ إلا بعد أن يسكن النوء، فسكّته أولاً. تكلّم سلطان البحار وقال للبحر: "اسكت.. ابكم".
ليس كما ضرب موسى البحر بعصاه بأمر الرب، فخضع، بل بمجرد كلمته أخضعه، لأنه هو "الْمُتَنَطِّقُ بِالْقُدْرَةِ، الْمُهَدِّئُ عَجِيجَ الْبِحَارِ عَجِيجَ أَمْوَاجِهَا وَضَجِيجَ الْأُمَمِ" (مزمور 65:6 و7).
نحن نشهد له فنقول قول المرنم: "مَنْ مِثْلُكَ قَوِيٌّ... أَنْتَ مُتَسَلِّطٌ عَلَى كِبْرِيَاءِ الْبَحْرِ. عِنْدَ ارْتِفَاعِ لُجَجِهِ أَنْتَ تُسَكِّنُهَا. صَوْتُ الرَّبِّ عَلَى الْمِيَاهِ.. الرَّبُّ فَوْقَ الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ" (مزمور 89:8 و9 و29:3). فالذي ينتهر الآن بحر طبرية هو الذي انتهر قديماً بحر "سوف" فيبس، وسيَّرهم في اللجج كالبرية. تسلط آنئذٍ على البحر الأحمر خدمةً لجماعة خائفيه، وها هو يسكن هيجان بحر الجليل لمرور تلاميذه فيه، لأنه كما أن الخراف لا تعرف ولا تطيع إلا صوت راعيها، كذلك الرياح والأمواج لا تعرف ولا تطيع إلا صوت باريها. فبأمره سكتت الريح وصار هدوء عظيم. ولم يكن هذا الهدوء طبيعياً، لأن قانون الموج أن يزول تدريجياً بعد زوال الريح، فكانت هذه معجزة مزدوجة.
نعلم أن السر في الحياة اليومية هو السرّ في تلك السفينة المعذبة. أي أن السلامة للأشخاص وللكنيسة في وسط أنواء الحياة، تقوم بوجود المسيح في القلوب، وسائراً مع كنيسته، لينتهر قوات الشر، ويوجد الهدوء والظفر.
ولنا في تسكين المسيح هذا النوء لمحة من القصد الإلهي، بأن يعيد إلى الإنسان سلطته على الطبيعة التي فقدها بسقوطه، وذلك بواسطة عمله الفدائي. نرى هذا يتم على نوعين: أولاًبواسطة رقيّه الروحي، فيقابل مخاطر القوات الطبيعية وأضرارها دون ارتعاب. وثانياً: بواسطة رقيّه العلمي، فيستولي على كثير من هذه القوات ويتلافى أضرارها ويستخدم منافعها - كما يستخدم سرعة الرياح في توليد الكهرباء.
مثّلت الريح من خارج البحر المصائب الخارجية التي تنقضُّ على الإنسان، ومنها القُوى الطبيعية المهلكة للأجساد. ومثَّل التموُّج من داخل البحر التجارب الداخلية التي تثور في نفس الإنسان، وهي القوى الشيطانية المهلكة للنفوس. ففي تسكين المسيح هذا النوء المزدوج بالمعجزة المزدوجة، أعلن استعداده أن يعمل عملاً مزدوجاً في سفينة حياة الإنسان التي تتخبط في بحر هذا الدهر. وهو الذي يعطي الفوز على نوعي البلايا، والسلامة من شرهما. فالمصائب والتجارب هي كبوتقة الصائغ، التي لا تحوّل الذهب نحاساً ولا النحاس ذهباً، بل تُظهر الحقيقة وتزيل الإلتباس، وتزيد الذهب جلاءً وانفصالاً عن النحاس. هكذا التجارب لا تصيّر الصالح صالحاً ولا الشرير شريراً، لكنها تُظهر الحقيقة وتكشف عن شر الشرير وتزيده، وعن صلاح الصالح وتزيده.
أما النوء الثاني الذي كان في صدور التلاميذ فقد سكّنه المسيح بتوبيخ لطيف، عندما قال: "ما بالكم خائفين هكذا يا قليلي الإيمان؟ كيف لا إيمان لكم؟" فأظهر سلطانه في معالجة المصائب الخارجية، كما في ذلك معالجة التجارب الداخلية الأشدّ خطراً. فإنه يوقف النوعين متى شاء، وكان في ذلك خير، لأن سماح الله بالتجارب والمصائب، ليس إلا للخير. "اللّهَ أَمِينٌ، الَّذِي لَا يَدَعُكُمْ تُجَرَّبُونَ فَوْقَ مَا تَسْتَطِيعُونَ، بَلْ سَيَجْعَلُ مَعَ التَّجْرِبَةِ أَيْضاً الْمَنْفَذَ، لِتَسْتَطِيعُوا أَنْ تَحْتَمِلُوا" (1 كورنثوس 10:13).