21 نوفمبر 2013

لحظة انارت حياة


اصابتها الحمى في منتصف السنة الثانية من عمرها تقريبا مما جعلها تحول عينيها الساخنتين الجافتين نحو الحائط بعيدا عن الضوء الذي كانت قبلا شديدة الولع به. والذي صار يبدو اقل شدة وبريقا عن ذي قبل. رأى الطبيب الذي فحصها ان ليست لها فرصة للحياة، ولكن قدرة الله شاءت ان يبرأ جسمها من الحمى ذات صباح بصورة مفاجئة وغامضة على نفس النحو الذي اصابتها به. تركتها الحمى في سجن رهيب بعد ان سلبتها حاستي النظر والسمع. وشيئا فشيئا اكتسبت التعود على الظلام والسكون اللذان شملاها ونسيت تماما ان الامر كان مختلفا تماما من قبل.

كانت قد بدأت في تعلم الكلام، لكن بعد ان اصابها المرض توقفت عن الحديث لانه لم يكن بوسعها ان تسمع ما يقوله الاخرون. حتى لفظة "ماء "التي كانت تنطقها صار طريقة نطقها لهذه الكلمة عسيرة الفهم على الاخرين. اعتادت وقتها على البقاء بين ذراعي امها طول اليوم واضعة يدها على وجهها لان شعورها بحركات شفتي والدتها كان يسعدها ويسليها. وحينما كبرت قليلا شعرت بالحاجة الى التواصل مع الاخرين وبدأت بعض الايماءات البسيطة تصدر عنها، فكانت هزة الرأس تعني "لا" و طأطأة الرأس تعني "نعم" وجذبة اليد تعني "تعال" ودفعة اليد تعني "اذهب" و هكذا...

ولما كانت اسرتها ميسورة الحال، فقد احضروا لها معلمة الى المنزل. كانت وقتها قد قاربت العام السابع من عمرها. كانت معلمتها تعرف ابجدية الايدي وقراءة النصوص المكتوبة بطريقة برايل وبدأت هذه المعلمة رحلة شاقة مع هذه الطفلة المسكينة لتعليمها. و كان اول ما قامت به ان اعطتها دمية، وبعد ان لعبت بها لفترة، قامت بتهجى كلمة دمية على يدها الصغيرة بلغة الاصابع، وفعلت نفس ما فعلته معلمتها. لم تكن تعلم انها تتهجى كلمة او ان هناك شيئا اسمه كلمات، كانت فقط وببساطة شديدة تقلد معلمتها. وظلت معلمتها تعلمها كلمات لاسابيع عديدة دون ان تعي ان لكل شئ اسما. وفي احدى المرات دار نزاع بين المعلمة وطفلتها على الكلمتين "كوب" و "ماء" اذ لم تستطع ان تفهم انهما مختلفتين. كانت معلمتها صبورة للغاية، فأخذتها الى بئر ماء بجوار البيت وكان ثمة شخص يسحب الماء بالطلمبة، وقامت معلمتها بوضع يدها في الماء المتدفق، وراحت تتهجى على اليد الاخرى ببطء اولا ثم بسرعة كلمة ماء. وقفت لحظات هادئة وكان انتباهها موجها نحو حركة اصبعها ثم بدا انها تذكرت شيئا كانت قد نسيته .. كانت لحظة عبقرية بالنسبة لها.. لحظة انارت حياتها بالكامل. ادركت معنى الماء بجوهره المستقل حين يتساقط من الطلمبة ولا يحتويه الكوب، و تذكرت لفظة "ماء" التي تعلمتها في صغرها، فأدركت فجأة ان الاشياء يمكن التعبير عنها باسماء ينطق بها الصوت البشري.. وكانت تلك البداية الحقيقية لرحلتها العظيمة مع التعلم. وتقول هي عن هذه اللحظة "لقد تكشف لي بطريقة ما احد اسرار اللغة.. لقد ايقظت تلك الكلمة الحية روحي واطلقتها من سجنها. غادرت البئر وانا اتحرق شوقا للتعلم، فقد عرفت ان لكل شئ اسما. وبدا لي ونحن في طريقنا للمنزل ان كل شئ ألمسه ملئ بالحياة".

وبعد تسعة شهور فقط من تعلمها للكلمة الاولى اصبح بمقدورها كتابة جمل كاملة. كما وجدت امامها نافذة مفتوحة على العالم من خلال التعلم بواسطة قراءة الكتب بلغة برايل. وكانت تدعو الكتب "اصدقائي" وساعدتها روحها الوثابة على اكمال دراستها حتى المرحلة الجامعية. لم تكن ترى الاستاذ المحاضر او تسمعه، بل كانت معلمتها تترجم لها المحاضرة على يدها بسرعة كبيرة باستخدام ابجدية الايدي، فكأنها كانت تسمع بيدها. واصبحت بذلك "حدثا تعليميا" لكونها اول شخص كفيف اصم يتلقى تعليما كاملا. واصبحت تجيد 3 لغات بالاضافة الى الانجليزية وهي الفرنسية و الالمانية واللاتينية، و قرأت كتبا لكل الادباء المشهورين في ايامها. ألفت العديد من الكتب والمقالات التي نشرت في الصحف والمجلات والدوريات في تلك الأيام. كما بذلت العديد من المحاولات المضنية لتعلم المحادثة، وهي الفتاة الصماء التي لم تسمع الكلام فكانت تضع يديها على حنجرة المعلمة وشفتيها حتى تتبين مخارج الحروف. ورغم هذه المحاولات المستميتة فإن كلامها لم يفهمه إلا المقربون منها. هذه هي "هيلين كيلر" معجزة المعوقين، الفتاة العمياء الصماء البكماء التي ضربت اروع الامثلة للتحدي. وتلك المعلمة هي "ان سوليفان" التي احاطت بهيلين احاطة النور بالمصباح المتقد. واضطلعت بمهمة هدم سجن هيلين واطلاق سراحها منه.
===
عزيزي القارئ لقد وقفت هيلين للحظات هادئة تذكرت خلالها ما قد نسيته من سنوات واكتشفت شيئا غيّر حياتها. انها لحظة انارت حياتها! ونحن ايضا قد نمر بلحظات تأمل هادئة يمكن ان تنير حياتنا وتغيرها للافضل.