السماء تلامس الارض.. المجد العظيم يتحدث الى التراب.. الله يتكلم مع الانسان. وهكذا تصير اليه كلمة الله:
- قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدستك.جعلتك نبيا للشعوب.
وينصت ارميا ثم يتكلم الى خالقه في كثير من الخشوع:
- اه يا سيد الرب اني لا اعرف ان اتكلم لاني ولد.
وهنا يتحدث الفائق القدرة و الموجد من العدم:
- لا تقل اني ولد لانك الى كل من ارسلك اليه تذهب وتتكلم بكل ما امرك به. لا تخف من وجوههم لاني انا معك لانقذك ..
ويمد الرب يده ليلمس فم النبي الرقيق ثم يقول له:
- ها قد جعلت كلامي في فمك. انظر! قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس..
***
ويذهب ارميا يحمل عبء الرسالة و مجدها .. يغوص وسط شعبه .. و ينذره و يوبخه.. يئن معه و من اجله.. و حين يبصر خزي بني شعبه.. وشرود اهله.. يكون هكذا صراخه لهم:
"ابهتي ايتها السموات من هذا واقشعري وتحيري جدا يقول الرب. لان شعبي عمل شرين. تركوني انا ينبوع المياه الحية لينقروا لانفسهم ابارا ابارا مشققة لا تضبط ماء"(ار2: 13)
ويلتفت ارميا حوله .. فيجد الفساد قد عم.. حتى ان رجال الدين و الرعاة تركوا الحق وسعوا وراء الباطل.. فيحزن و يحتد و ينوح:
"احشائي احشائي . توجعني جدران قلبي .. ينوح قلبي فيّ.. لا استطيع السكوت.."(ار4: 18)
"الكهنة لم يقولوا اين هو الرب، و اهل الشريعة لم يعرفوني، و الرعاة عصوا عليّ، والانبياء تنبأوا ببعل وذهبوا وراء ما لا ينفع!"(ار2: 8)
هذا هو سر بكاء النبي الرقيق، فقد ترك الشعب العبادة الحقيقية و تمسكوا بالشكل دون الجوهر.. و كأنه اراد ان يوقظ فيهم حرية ماتت بالخطية..
"ارجعوا ايها البنون العصاة فاشفي عصيانكم.."(ار3: 14).
"لا تتكلوا على كلام الكذب قائلين هيكل الرب هيكل الرب هيكل الرب هو. لانكم ان اصلحتم اصلاحا طرقكم واعمالكم ان اجريتم عدلا بين الانسان وصاحبه. ان لم تظلموا الغريب واليتيم والارملة .. ولم تسفكوا دما زكيا في هذا الموضع.. ولم تسيروا وراء الهة اخرى .. فاني اسكنكم في هذا الموضع في الارض التي اعطيت لابائكم من الازل والى الابد. ها انكم متكلون على كلام الكذب الذي لا ينفع. اتسرقون وتقتلون وتزنون وتحلفون كذبا وتبخرون للبعل وتسيرون وراء الهة اخرى لم تعرفوها. ثم تاتون وتقفون امامي في هذا البيت الذي دعي باسمي عليه وتقولون قد انقذنا.حتى تعملوا كل هذه الرجاسات. هل صار هذا البيت الذي دعي باسمي عليه مغارة لصوص في اعينكم."(ار7: 4-11)
.. ولكن الشعب يزداد في شره .. ويقاومه .. يريد قتله .. و يتساءل النبي و هو يبكي .. وينظر الى الله الذي ارسله، في عتاب:
"لماذا تنجح طريق الاشرار.اطمأن كل الغادرين غدرا.. غرستهم فتأصلوا. نموا و اثمروا ثمرا.. وانت يارب عرفتني. رأيتني و اختبرت قلبي من جهتك..(ار12: 1)
وتتجمع السحب و يزداد قتامها.. ويمسك واحد من الكهنة ، الناظر الاول للهيكل، بالنبي و يضربه ويجعله في المقطرة.. فقد اراد ان يميت النبي او يميت الحق الذي يصرخ في وجوههم و يبكتهم. اما ارميا فكان دائما يبث شكواه . و في غضبة مقدسة يطلب قصاص الله العادل:
"فكروا علي افكارا قائلين لنهلك الشجرة بثمرها ونقطعه من ارض الاحياء فلا يذكر بعد اسمه. فيا رب الجنود القاضي العدل فاحص الكلى والقلب دعني ارى انتقامك منهم لاني لك كشفت دعواي.(ار11: 20)
***
وجلس ارميا يملي باروخ الكاتب حصيلة عمله النبوي خلال عشرين عاما مضت، ليقرأها في بيت الرب .. ويصل الدرج المكتوب الى الملك.. و ينصت الملك الى كلمات النبي و هو يتنبأ بالخراب.
"هانذا اجعل امامكم طريق الحياة وطريق الموت. الذي يقيم في هذه المدينة يموت بالسيف والجوع والوبا.والذي يخرج ويسقط الى الكلدانيين الذين يحاصرونكم يحيا وتصير نفسه له غنيمة. لاني قد جعلت وجهي على هذه المدينة للشر لا للخير يقول الرب. ليد ملك بابل تدفع فيحرقها بالنار..(ار21: 9)
ويستشيط الملك غضبا و يأخذ الدرج، يمزقه، ثم يلقيه في نار الكانون المتقد امامه، اذ كان الوقت شتاء.. ويعود الرب فيتكلم على فم ارميا النبي:
"هكذا قال الرب عن يهوياقيم ملك يهوذا. لا يكون له جالس على كرسي و تكون جثته مطروحة للحر نهارا و للبرد ليلا.. واعاقبه ونسله وعبيده على اثمهم واجلب عليهم وعلى سكان اورشليم وعلى رجال يهوذا كل الشر الذي كلمتهم عنه ولم يسمعوا..(ار36: 30)
.. وعاد ارميا في حزن شديد يكتب ثانية الدرج.. ذاك الذي احرقه الملك.. وكان ينتظر مجازاة الاشرار.. وخلاص الله العظيم.
وحاصر الكلدانيون اورشليم.. وجاء اليوم الذي توقعه النبي.. ويمسك الرؤساء بالنبي الباكي من اجلهم.. و يحملونه مسئولية اضعاف الروح المعنوية للرجال بسبب نبواته.. ويرضخ الملك لهم، و يلقي في السجن ارميا.. ثم يزداد خضبهم .. فيلقونه في جب عميق مظلم.. دلوه بالحبال و لما لم يكن في الجب ماء بل وحل فقد غاص ارميا بجسده النحيل في الوحل.. ينتظر الموت.. ويتحمل الالم من اجل قساوة قلب شعبه غير التائب.. هكذا كان صراخه من داخل الجب:
"دعوت باسمك يا رب من الجب الاسفل. لصوتي سمعت. لا تستر اذنك عن زفرتي عن صياحي"(مرا3: 56)
ولم ينقذ ارميا من هذا البئر المظلم الا خصي حبشي توسل الى الملك فرفعه واودعه دار السجن .. و بقى ارميا في السجن يسمع من مكانه نوح راحيل وهي تبكي على اولادها..
طصوت سمع في الرامة نوح بكاء مرّ. راحيل تبكي على اولادها وتأبى ان تتعزى عن اولادها لانهم ليسوا بموجودين(ار31: 15)
و تسقط المدينة في يد نبوخذ نصر.. و يفرج هذا الملك عن النبي النائح.. يكرمه فقد ظن ان كل ما حدث للنبي كان بسببه .. يحسن معاملته.. و يخيره بين الذهاب الى بابل او ان يبقى مع شعبه في وطنه.. ويظل ارميا مع بقية شعبه، يرثي لحالهم.. ويتحمل معهم قسوة الهزيمة .. وتشريد المدينة .. هكذا كان يرثي حال مدينته:
"كيف جلست وحدها المدينة الكثيرة الشعب.كيف صارت كارملة العظيمة في الامم.السيدة في البلدان صارت تحت الجزية. تبكي في الليل بكاءا ودموعها على خديها..(مرا1:1)
***
(قومي اهتفي في الليل في اول الهزع. اسكبي كمياه قلبك قبالة وجه السيد.ارفعي اليه يديك لاجل نفس اطفالك المغشي عليهم من الجوع في راس كل شارع ..)
***
( سكبت عيناي ينابيع ماء على سحق بنت شعبي. عيني تسكب ولا تكف بلا انقطاع حتى يشرف وينظر الرب من السماء! )