اصيب اخي بالسل واسرّ الطبيب الذي عالجه لوالدتي
بانه مصاب بالسل في اخر درجاته، وانه لن يحيا حتى نهاية فصل الربيع، واخذت والدتي
تبكي ثم توسلت الى اخي- محاذرة حتى لا يفزع- ان يذهب الى الكنيسة ويعترف بخطاياه
ويتناول القربان المقدس، ولكن توسلاتها اغضبته، واجابها ببعض عبارات التذمر. غير انه
على اية حال اخذ يكثر من التأمل، وادرك لتوه خطورة مرضه، وصلة ذلك بتوسل والدته
اليه ان يعترف ويتناول القربان المقدس.
واذكر ان اخي كان ينتابه السعال طوال الليل
فيجعل نومه متقطعا حتى اذا ما انبلج الصبح ارتدى ثيابه وجلس في مقعد مريح وجعل
يتأمل السماء.
اذكر اخي ايضا وهو يقول لأمي: اماه لا تنتحبي
يا عزيزتي، فلا تزال امامي فسحة في الحياة وسنفرح معا لان الحياة مسرة وبهجة".
فتجيبه امي قائلة: يا ولدي الحبيب، اي فرح
هذا؟ وانت تستلقي على فراشك محموما كل الليل والسعال يكاد يفجر صدرك.
فيجيبها قائلا: لا تبكي يا اماه ان الحياة
جنة نعيش فيها جميعا، ولكننا لا نريد ان نراها ، ولو اردنا لجعلنا الجنة على الارض
منذ الساعة".
وكان الجميع يعجبون لكلماته، لانه كان يتكلم
بقناعة تامة فكنا جميعا نبكي لشدة التأثر. وقد اخذ اصدقاؤنا يأتون لزيارتنا فكان
يقول لهم : "يا احبائي، ما الذي فعلته حتى استحق محبتكم، وكيف تستطيعون ان
تحبوا انسانا مثلي ولست ادري كيف لم ادرك هذه المحبة واقدرها من قبل؟".
وكان لا يفتأ يقول للخدم كلما جاءوا اليه:
ايها الاحباء، ايها اللطفاء، لماذا تجهدون انفسكم في خدمتي الى هذا الحد، فهل
استحق ان تخدموني؟ انني سأتعهدكم بالخدمة اذا قضت مشيئة الله بأن اعيش، لأن جميع
الناس يجب ان يخدموا بعضهم بعضا.
وكانت امي تهز رأسها وهي تصغي اليه، ثم تقول
: ان مرضك يا حبيبي هو الذي يدفعك الى هذا الكلام.
فكان يقول: امي العزيزة، يجب ان يكون في
الدنيا خدم وسادة، ولكن اذا سارت الامور جيدا فسأكون خادم خدامي، شأني في ذلك
شأنهم معي. واحب ان تعلمي يا اماه، ان كل واحد منا قد اخطأ بحق الاخرين وخطأي انا
افدح ممن سواه.
وقد ابتسمت امي ابتسامة طبيعية لهذا الكلام،
رافقتها الدموع، وقالت: "لماذا، كيف يمكن ان تكون قد اخطأت بحق جميع الناس،
وفقت الجميع في ذلك؟ ان اللصوص والقتلة كثيرون، اما انت فأية خطيئة اقترفت، حتى
تعتبر نفسك اعظم الناس ذنبا؟".
فقال: "اماه، يا فؤادي الصغير (وكان قد
بدأ عندئذ يستعمل عبارات تودد غريبة كهذه) يا بهجتي، صدقيني ان كل واحد مسؤول امام
جميع الناس وعن كل شئ. ولا ادري كيف افسر لك ذلك ولكني اشعر به الى حد الالم فكيف
اذا نستمر غاضبين دون ان ندرك سر الحياة؟
وهكذا كان ينهض كل يوم وقد ازداد فرحا ورقة
وامتلأت نفسه بالمحبة. وكان اذا جاء الطبيب يسأله مازحا: "والان ايها الطبيب هل
سأعيش الى الغد"؟ فيجيبه الطبيب: "انك ستعيش عدة ايام بل عدة اشهر
وسنين".
فيقول متعجبا: "اشهر وسنين! وما الحاجة
اليها كلها؟ ان يوما واحدا يكفي لكي يعرف الانسان السعادة كلها. يا اعزائي، لماذا
نتخاصم ونتباهى، ونحمل الضغائن على بعضنا بعضا؟ هلم نتبادل الحب والتقدير بعضنا
بعضا"
وقد قال الطبيب لامي عندما شيعته الى الباب:
"ان ابنك لن يعيش طويلا، فقد بدأ المرض يؤثر على دماغه".
وقد
توفي شقيقي في الاسبوع الثالث بعد عيد الفصح واعيا تماما الا انه كان عاجزا عن
الكلام قبيل وفاته. وكانت امارات السعادة تبدو عليه، وعيناه تتألقان وتتفقدنا
جميعا، وكان لا يفتأ يبتسم لنا و يومئ الينا ان نقترب منه ثم يخاطبنا بعبارات كلها
مودة حتى فاضت روحه.
دوستويفسكي