فى بطء شديد خرج الراهب الشيخ من باب قلايته الملاصقة للكنيسة، خرج يتحسس طريقه ، يحمل عبء الستين عاما ، ويجر ما خلفت له من أمراض مختلفة. يلوح بعصاه بلطف ذات اليمين وذات اليسار، علّها ترتطم بشئ فيتعرف إلى طريقه .. وربما ليتأكد أنه ليس هناك ما يصطدم به .
وقبل أن يحقق بضع خطوات، هرع إليه راهب شاب ،
لثم يده وسأله إلام يحتاج؟ ثم قاده فى إشفاق ، وابتسامة على ثغره ، حتى وصل إلى (
مصطبة) قريبة أجلسه فوقها برفق، ثم استأذنه فى الإنصراف وهو يطلب إليه أن يدعو له
، وقال الشيخ عبارته المشهورة : ( الله يساعدك على خلاص نفسك ) .
وفى جلسته لا يبد حراكا .. لا شئ سوى صوته
الذى يرتفع بين الفنية والفنية ، مرددا مديحة قديمة ورثها عن الذين سبقوه، أو
ترتيلة حملها معه من قريته ، وهو فى ذلك له طريقة مؤثرة ، فقد جمع صوته الحانى بين
رنتى الحزن والفرح معا ، ويشعر كل من يسمعه أن الصوت قادم من بعيد ، بعيد جدا، من
الأبدية ، يشعر أنه يرنم هناك فوق في السماء، ثم يصل الصوت إلى الذين يسمعون عبر
كثافة ثقيلة من الزمن والمادة.
ثم أنه لا يهدى مديحه إلى أخر ، ولا يروم إلا
لذة التسبيح ، يدخل بها فى هدوء إلى المحفل الإلهى .
كما أن لترتيله خاصة عجيبة ، فهو يبكت ويشجع
فى أن .
ويمضى الوقت .. وهو لا يعرف الساعة .. ولا
المواعيد، ولا يستطيع أن يفرق بين الليل والنهار ، فإذا دق ناقوس الكنيسة ، صحبوه
إلى هناك ، وإذا دق ناقوس المائدة ، صحبوه إلى المائدة ! لايسأل عن الساعة! ثم أنه
لا يعرف مكانا فى الدير ، أقصد لا يعرف كيف يصل إلى أى مرفق من مرافق الدير دون
مساعدة أخر.
إنه محمول على عناية الله ورعايته..
وتطول
جلسته على( المصطبة) فينهض بنفس البطء والهدوء ويتأهب لرحلة الرجوع ،
وطولها عشرون مترا فقط ! حتى يصل إلى قلايته ، نفس العمل الشاق ! ويلمحه راهب أخر
ويتطوع بمرافقته إلى القلاية..
فإذا جاء موعد النوم ، أتى راهب شاب يعينه
رئيس الدير لخدمته، يفتح هذا باب قلاية الشيخ فى هدوء ليطمئن إلى مرقد الشيخ ، ثم
يطلب بركته وصلواته ، ويخرج ثم يغلق الباب من الخارج.
إلى أن يحين موعد ناقوس صلوات وتسبحة نصف
الليل ، فيعود إلى القلاية ليصحبه إلى الكنيسة ، يضع يده فى يد الأب الشيخ ويقتاده
فى صمت مطبق إلى هناك ، والشيخ فى هذا وذاك مطمئن ، لا يسأل ولا يستفسر .. فهو
يعرف أنهم يقضون له حاجاته عندما يحين موعدها، وهو موقن أنه بين أيدى أخوته التى
سبقت فأيدتها يد الله الأمينة..
كل وجبة طعام ، عندما يدق الناقوص، يأتى
الراهب ويصحبه من يده ويتجه به نحو المائدة، يجلس ويأكل من يده فى صمت، ثم يذهب
معه ليغسل يديه وفمه، ويناوله فنجان الشاى، ثم يرجع مصحوبا به إلى قلايته، أو إلى
جلسته فوق المصطبة ، كذلك عندما يحين الوقت
الاسبوعى يحضر نفس الراهب ويعد له حمّامه ، ويغسل له
ملابسه .
وبالجملة
يصبح الراهب الذى يخدم الشيخ بمثابة عين له .
+ + +
ويدق
ناقوص نصف الليل ذات يوم ، كعادته الساعة الرابعة من كل صباح ، ويمضى الراهب إلى
قلاية الشيخ ، ويدفع بابها برفق إلى الداخل ويناديه :
هيا
يا أبى ، فقد دقّ الناقوص ، بنا إلى الكنيسة لنسبح .
أى
ناقوص و أية تسبحة؟
الراهب
فى صبر واضح :
ناقوص
تسبحة نصف الليل .
باركك
الله يا ولدى ، لعلك نسيت أو تحلم !
أبداً
يا أبى.
كيف
ذلك يا إبنى ، وقد دقّ الناقوص منذ ساعات وذهبت إلى الكنيسة .
الراهب
الشاب مداعباً :
أى
ناقوص و أية كنيسة؟
لقد
سبحت ، وصليت القداس .
رباه
.. انك تحلم مافى ذلك من شك .
ابداً
صدقنى ، لقد كان القداس جميلاً ، لا أذكر أننى تعزيت مثلما شعرت بالتعزية هذا
الصباح ، ولكن قل لى ألم تأت أنت إلىّ وصحبتنى إلى الكنيسة ؟
و
أسف الراهب الشاب فى نفسه ، ورشم ذاته بعلامة الصليب ، و اعتقد أن الشيخ قد لفحه
هوس مفاجىء ، أو أن الأمر اختلط عليه ، إنه لم يسأل مرة واحدة عن الساعة (الوقت)
أو الناقوس ، بل قد تمضى ساعات وهو جالس لا يدرى كم مضى من الوقت ..
ومدّ
يده ليلتقط يد الشيخ ، ولكن الشيخ سحب يده ، وزجره فى براءة ، وعاد ليقول:
كان
القداس جميلاً ، وكذلك الأب الذى صلى كان صوته ملائكياً، ألا تصدقنى ؟! لقد تناولت
من السر المقدس .
وتذرع
الراهب بالصبر الذى تعلّمه من بطء الشيخ، وهمّ أن يعيده إلى صوابه ، ولكن الشيخ مد
يده فى هدوء ، فشدّ طرف ثوبه ، ليفسح ليده مكاناً فى جيبه ، ثم بعد مجهود قليل
أخرج قطعة (أولوجية)1 ثم دفعها إلى الراهب ، الذى إنحنى بدوره و إلتقطها بأصابعه ، فإذا
بها طازجة ، فى حين أنهم حتى تلك الساعة من الصباح ، لم يكونوا قد قاموا بصنع
القربان بعد .
واندهش
أيمّا اندهاش ، وصمت قليلاً، ثم عاد ليقول للشيخ: أرو لى ما حدث بالتدقيق.
أجاب
الشيخ : ليس هناك أكثر مما قلت لك ، ولكن لماذا لم تأت معنا ؟ واضح أنه صحبنى راهب
آخر غيرك ، لماذا نمت حتى الآن؟ ..
ولم
يرد الراهب ، ولكنه انطلق إلى أب الدير يروى له ما سمعه وهو يلهث ، ويفطن الأب إلى
ما حدث ، فيصحب بعض الآباء إلى الكنيسة الأثرية الكائنة تحت الأرض ، ليفاجأوا هناك
بالبخور يعبّىء المكان ، و الأوانى متروكة على المذبح دون أن تجمع ، وقطرات من
الماء فوق المذبح أمام كرسى الكأس .
وعاد
الآباء وقد غمرتهم الفرحة ، وشملتهم
التعزية إلى قلاية الشيخ ، يشرحون له ما حدث ، ويتلقّى الشيخ الكلام بهدوء عجيب
وصمت مطبق ، خال من الدهشة ولم يسأل عن شىء بل هز رأسه قليلاً .
هذه
الواقعة رواها لى الشيخ نفسه قبل نياحته بعشر سنوات .
واسم
الشيخ : الأب الراهب / اندراوس الصموئيلى.
الانبا مكاريوس
_________
1أولوجية
كلمة يونانية معناها "كلمة حلوة"، وقد أطلقت على لقمة البركة التى
يوزعها الكاهن على الشعب عقب القداس، لأنها كانت توزع مع كلمة منفعة لكل أحد.