جلست على حافة البئر القديم و فى يدها سبحة، وكانت تصلى قائلة:
"يا ربى يسوع المسيح ابن
الله ارحمنى انا الخاطئة ..."، هكذا علمتها الام الرئيسة عندما قدمت للرئيسة
فتاة فى السابعة و العشرين ربيعا سلبها نسكها نضارة جسدها و رضيت (بالصفقة) اذ
بودل الجسد بالبصيرة الروحية.
كانت تصلى بشفتيها بينما قلبها
المفعم حبا يلهج غبطة و سرورا .
وخطر لها خاطر, ان تتمشى و لكنها عادت لتأمر نفسها بالهدوء فى موضعها, تنظر
الى السماء الملبدة بالغيوم القطنية و المخصبة بلون الدم ثم تعود ليصطدم ناظريها
بسور الدير العتيق و قد برزت بعض قطع منه هامة بالانفصال عنه و قد بدت كشفاة
ممطوطة و كانها تتردد تود الاستئذان قبلا .
وعادت لتخفض بصرها نحو
الارض حيث لاحظت كومة صغيرة من الرمال و
نملة تود الصعود عليها، و امعنت النظر فاذا النملة كلما قاربت القمة فى صعودها
عادت لتهوى من حيث بدات.
ياربى يسوع ارحمنى انا الخاطئة
...
واستهوتها مراقبة النملة، ولكنها عادت لتؤنب
نفسها بأن الذين ذاقوا الحب الالهى تعلموا ان ينشغلوا بالله عما حولهم لا ان
ينشغلوا عن الله بما حولهم.. ولكن أليست كل الخليقة تمجد الله؟ أليس الانسان هو
كاهن الخليقة يقدم التسبيح عنها للخالق؟ ... افما نردد كل صباح فى الهوس الثالث,
سبحى الرب ايتها الوحوش و التنانين و كل ما يتحرك فى المياه؟
آه.. ولكنى ضعيفة و مبتدئة فى
الحب الالهى, احتاج ان اسبح انا اولا و اود ان انهل من النبع الذى ارتوى منه قبلى
الابرار الذين سبقونى الى المجد .
ياربى يسوع المسيح اعنى .. انى
اسبحك ياربى يسوع المسيح ..
و لكن مهلا فهم تعبوا سنوات و سنوات, حفروا و عمّقوا حتى وصلوا لهذا النبع
وما حفرهم و تعميقهم الا الاتضاع اللذى تدثرت به حياتهم ...
ياربى..
من لى بهذا الحب و من لى بهذا
الاتضاع؟ هل المحبة هى التى تقود الى الاتضاع ام الاتضاع هو الذى يولد الحب؟ قالت
لى الام ان المحبة هى الفضيلة الام، لها اولاد و بنات كثيرين اولهم اتضاع الفكر...
وانتبهت ماكرينا على وضع اقدام،
فاذا باثنتين من الراهبات- هما الام ميلانة و الام ثيؤدورة - تمران مقابلها، كانتا
كشبحين مرا فى هدوء و هما فى سيرهما لا عجرفة و لا انحلال ...
ما اجمل حياه
ملائكة الارض ..
ياربى يسوع المسيح ارحمنى انا
الخاطئة ...
اعطنى ان احبك و ان افيض من
محبتك على الذين هم حولى ...
ابادلهم حبا بحبا .. ازرع الحب فى كل مكان حتى فى الاماكن المجدبة و ارويها
بالصبر و طول الرجاء و تنميها انت ياربى .. و تصبح شجرة عظيمة وافرة فى ديرنا كما
اراد ذلك و صلى لاجله كثيرا شفيع ديرنا الانبا بفنوتيوس..
وانتبهت مرة اخرى فاذا بالناقوس
يدق يدعوهن الى المائدة و لكنها عادت الى خلوتها فهى لها تدبير خاص فى الاكل ...
اننى محمومة و مريضة بحبك .. ما
اجملك و ما اروعك , من لى بقلب يستوعب كل هذا الحب .. يا الهى انى لا احتمل كل هذا
الحنو فلطالما احسست بيدك تربت فى حنو فوق ظهرى و تسالنى ان اثق فى عنايتك و رفقتك
...
ياربى يسوع المسيح ارحمنى.
ياربى يسوع المسيح اعنى .
أنا أسبحك ياربى يسوع المسيح.
ورفعت يدها لتمسح باناملها قطرات
من الدموع تسللت من مقلتيها لتسيل فوق وجنتيها وهي تكمل قائلة: ما رأيتك يا رب
تغضب منى او تعاقبنى بل تتعقبنى فى كل موضع لتسبغ عليّ نعمتك .. حتى فى الاوقات
التى كانت فيها الغيرة من الاخت افدوكية تكاد تنهش صدرى، كنت تعزينى و تهمس فى
اذنى وقلبى قائلا انا عريس نفسك، انا كل ما تريدينه. متى يارب اشعر انه لا هدف لى
سواك؟ و متى تصبح انت كل رغباتى مجتمعة معا؟ نعم يارب يسوع المسيح اعطيت سرورا
لقلبى اوفر من الذين كثرت حنطتهم و خمرهم و زيتهم .. ياربى يسوع المسيح ارحمنى انا
الخاطئة ..
وجاء عصفور و حط على الشجيرة
المقابلة لها و راح يصدح فى طفولة و طلاقة كأنه يشاركها تسبيحها للرب القدوس .. هى
تشكر و تطلب حبا يتأجج فى داخلها و هو يشكر الحياة ، وهمّت بالوقوف, وعندها تذكرت
نملة الرمال و رجاءها و انحنت لترى فوجدتها تصعد للمرة الاخيرة حيث استقرت فوق
القمة تنظر هنا و هناك.
وخيل لماكرينا ان النملة لم تفرح بنصرتها على الرمال المفككة و لكنها تبحث
عن شىء اخر. ان النملة كل حياتها عمل و كل دقيقة لها ثمنها بالنسبة لها..
"دعنى من النمل و الرمال
الان".
ياربى يسوع المسيح اعنى.
ثم وقفت و انتصبت قامتها ومشت فى
هدوء متجهة نحو لا شىء ..
افدوكية .. افدوكية.. تلك الفتاة السمراء القصيرة، كم كنت اكرهها، و هى
تصغرنى بثلاث سنوات .. كم كنت احقد عليها حاسدة اياها على محبة الام الرئيسة و
باقى الامهات لها و كم كنت انظر اليها شذرا، و لكنها مع كل ذلك كانت تقابل جفاوتى
بقلب متسع و محبة تخجلنى.. ياربي يسوع المسيح ارحمنى انا الخاطئة.. ترى متى يارب
احب كل احد ولا اكره شيئا.. متى اصل بالحب الى عدم الكراهية اي كائن حتى من كان
خاطئا بل امنحه شيئا من الرثاء؟!
ثم تنهدت.. بينما المسبحة تدور
بين اصابعها..
متى اصبح الكل اطهارا فى عينى, لا افحص احدا ولا
احاكم احد بفكرى.. ان الحقيقة التى لا اريد ان ابلّها واداوم غض الطرف عنها هي ان
الكل افضل منى .. كذلك عندما يضيق صدرى بأحد فاللوم كل اللوم علىّ انا وحدى.. انا
الخاطئة .. انا الشريرة الديّانة..
إنى اسبحك ياربى يسوع المسيح.
وجاءت قطة صغيرة بيضاء وقفزت بجوارها تبحث عن الدفء.. وراحت ماكرينا تمرر
اصابعها عليها فى حنو بينما القطة جالسة تلعق فروها بلسانها..
أعاهدك يارى منذ هذه اللحظة.. لا,
بل اشتهى ياربى و اتمنى منذ الان ان احب الكل تلك المحبة التى احببتنا بها.. المحبة
التى لا تطلب ما لنفسها.. غير المغرضة.. احب الكل لكى اتمتع انا نفسى بحبك.. ثم
اعطيه انا لقريناتى فى هذه البرية.. لهذا جئت ياربى الى ارضنا.. ولهذا جئت انا
ايضا الى هذا الارض لآمارس الحب واتاجر به واربح وافرح. لكنى خاطئة فتحنن على
عبدتك..
ياربى يسوع المسيح ارحمنى انا
الخاطئة..
لاشىء لى هنا اشتهيه وليس هناك
ما يستهوينى..
ألم اعاهدك بهذا فى اليوم الاول
لدخولى هذا الدير.. أننى اذكرذلك اليوم ولن انساه ما حييت.. يوم ان حاربت انت
عنى.. حاربت وانتصرت لحسابى.. وتركت لى تلك النصرة رصيدا اسحب منه فيزداد يوما بعد
يوم.
أنا اسبحك يارب يسوع..
+ + +
وتذكرت ماحدث منذ ثلاث سنوات..
فقد تقدم شابا لخطبتها وكان
قريبا لها.. وفرحت امها ومعها كل افراد اسرتها.. وانتظر الجميع حتى عادت من خدمتها
بالكنيسة, حيث زفت لها الام هذه الشرى ظانة انها بذلك تدخل البهجة الى قلبها.. واما
هى فبعد انا اطالت السمع لهم, قالت فى وداعة انها قد عقدت النية على ان تحيا بقية
حياتها فى الدير.. تعوض مافاتتها من تقصير وتهب كل امالها للمسيح الذى احياها
واسلم ذاته عنها.. وطال النقاش ما بين حدة ولطف.. ووعد ووعيد, فلما نشرت امامهم
لواء الاصرار، صمتوا وقد بيتوا فى انفسهم امرا!
وفى صباح الثلاثاء توجه الاب والام
ومعهما ذلك الشاب الى الدير. فى ذلك اليوم استقبلتهم الام سوتيريا - مديرة الدير-
بحفاوة.. ووقتها كانت ماكرينا تمضى بعض ايام كخلوة فى الدير.
وجمعتهم حجرة الاستقبال المتواضعة , وقال الاب مفتتحا النقاش :
- نحن انما جئنا اليك لكى تعيننا فى اقناع ماكرينا فى العدول عن رأيها.
الأم سوتيريا: ولم؟
الشاب: الزواج انسب للفتيات، وماكرينا انسانة فاضلة ستكون الزوجة الفاضلة والام
الحنون , المدبرة ليتها حسنا.
الأم سوتيريا: الزواج بناسبها, ولكن خلاصها هو القضية الاخطر. واخشى ان هى
تزوجت رغما عنها و عاشت فى العالم، ان تفقد خلاصها.
الأم وقد لاح فى عنيها التحدى والضيق : او تقصدين ان كل الزوجات لا خلاص
لهن؟
الأم سوتيريا فى بشاشة : عفوك .. لا اقصد ذلك.. وانما لكل رسالتها فى هذه
الحياة, فنحن نحتاج الى الزوجة والام , والى الخادمة البتول و الى الراهبة سجينة
الحب فى مخدعها.
الأب مستفهما: ولكن ماكرينا فتاة حنونة فيها عاطفة الامومة..
الأم سوتيريا: ومن قال ان الرهبات تجردن من العاطفة؟.. بل انهن استطعن ان
يوجهن عواطفهن.
الشاب: وماكرينا فتاة جميلة يشتهيها اى شاب, ومن الخسارة ان تتردى فى هذا
المجهل..
الام سوتيريا: الزواج من اجل الجسد فقط, هو امتهان لذلك السر العظيم ولمعة
الجمال تتحول الى سأمة ودمامة مع الوقت, ومع ذلك فاذا كانت لها رغبة فى الزواج
فانى اوافق واشجعها, حينئذ هزت ماكرينا رأسها بالرفض.. وكانت تسمع صامتة طيلة هذا
الوقت..
فأردفت الام قائلة, دعوها و
شأنها, لا تحزنوا قلبها, ثم وجهت الحديث الى الشاب قائلة: وانت يا ابنى ثق ان الله
سيرسل لك الفتاة التى تناسبك و تفرح قلبك وتعينك فى حياتك، اما اذا كنت تحب
ماكرينا محبة حقيقيه روحية، فلتفرح بفرحها، ولا تدفعها إلى ما رغبة لها فيه.
الشاب: ولكن أليست هذه هي الأنانيه بعينها؟ أن تسعى فتاة في طلب سعادتها
وحدها، بينما يمكنها أن تؤدي دوراً ايجابياً في الحياة؟ إن الواجب فيما أرى أن
نشترك معاً في صنع نسيج الحياة لا أن ننسحب إلى هامشها ..
الام وقد تذرعت بالصبر: نعم
يا إبني فإننا أيضاً في نسيج الحياة، نضيف إلى هذا النسيج لونا خاصا وضروريا يضفي
جمالاً وبهجة على الرقعة كلها، حقيقي أنني أنا متكاسلة خاطئة، ولكن بقية الأمهات
كزهور فى حديقة هذا العالم الواسع..
إن الرهبنه فيما أعتقد هي خط الدفاع الأول عن الكنيسة .. لها الدور الخفي،
تحارب حربا خفية غير منظورة..
والفتاة التي تسعى في طلب العزلة عن العالم .. ليست أنانيه كما يحلو لك أن
تتهمها، لأن الأناني هو ذاك الذي يحب ما لنفسه ، واما تلك فقد تركت ما لنفسها، من
محبة الزوج ومتعة الأطفال والراحة التي يوفرها لها ذلك الزوج ، وخرجت تلتمس الغربة
والجوع والوحدة ..
الراهبة التي تصلي لأجل كل المتزوجات لكي تتحول البيوت إلى كنائس والقلوب
إلى مذابح، ويجد الله موضعاً في كل منزل يستريح فيه ويقول: هذا هو موضع راحتي ..
ثم أردفت الأم الرئيسة تقول .. بينما بدا الشاب وقد اعترته الدهشة وفغر فاه
مشدوها وكله آذاناً صاغية :
-
وماذا عنك؟ كيف ترى الحياة؟ وما هو موقع المسيح بالنسبة لحياتك واهتماماتك؟
وهز سؤالها أعماقه، وكأن الأم قد أصابت بسؤالها فيه عمقاً من أعماقه ..
وراحت تحدثه عن الخلاص الثمين الذي أهداه الله إلى البشرية وكيف التفاعل مع هذا
الفداء الإلهي .. ثم عن محبة الله ثم محبة القريب ..
وبهت الشاب .. وإتخذت كلمات الأم
موضعها في قلبه ، ولما كانت مائدة الأغابي قد أعدت .. قاموا وقامت معهم
ماكرينا .. يتناولون طعامهم .. صامتين ..
وبعد قليل غادروا الدير غير ناقمين ولا حاقدين .. قالوا لها ليكن لك
ماتريدين ، فقط تضرعي لأجلنا مع بقية الأمهات ..
+ + +
ياربي يسوع المسيح ابن الله أرحمني أنا الخاطئة ..
أذكر أنني لم أنم في تلك الليلة .. فلم يسع قلبي الفرحة ورحت ابكي من شدة
العزاء .. وانا أشكر مسيحي .. أشكرك ياربي يامن تهتم بخلاصي وحياتي ..
ياربي ..
واقتربت منها الأم أفدوكية فقامت لتقّبلها .. ثم يتجه اثنتيهما نحو قلاية
الأم العجوز يوستينا يعودانها ..