اسمه موسى
موسى المسعودى
أو موسى البموسى
عشق الحياة النسكية منذ كان صغيراً، وروت له أمه الكثير
من قصص الآباء المجاهدين ونوادرهم داخل الأديرة وصراعاتهم مع الشياطين، وظهور
الملائكة لكثيرين منهم.
وأحب الرهبنة والرهبان، وحالما كان ينزل راهباً لأى أمر
فى قريته، ينطلق فى إثره، يلازمه مثل ظله ويرقب كلماته وتعليقاته وتصرفاته،
ويسجلها على صفحة عقله، بفخر وإعجاب وسرور لا يقدر على إخفائه.
وكان ينتظر بصبر فارغ، ذلك اليوم الذى فيه ينطلق من بيته
إلى الدير، ولعله سمع أيضاً فى ذلك الوقت عن القمص عبد المسيح المسعودى الكبير
الذى ترهب بالدير المحرق وانطلق بعد ذلك ليحيا فى دير البرموس، وكان يعتبر كل يوم
له فى العالم – بعيداً عن الدير – هو يوم ضائع!، إلى أن استطاع أخيراً أن يفلت من
قبضة عاطفة أمه و اخوته، حيث سمحوا له بأن يحقق ما يصبو إليه، فانطلق إلى برية
شيهيت، وعرج هناك على دير البرموس ..
بدا مطيعاً فى كل شئ ولكل أحد، عاش صغيراً يتعلم من
الذين حوله، وتنقل بين أعمال متعددة فى الدير واقتنى فضائلاً كثيرة، وتتلمذ على
آباء مباركين كثيرين، وأما الشئ الذى برع فيه فهو محبته الفائقة للصلاة,
فقد كان يقضى فيها من الوقت أكثر مما يقضى فى أى شئ اخر, كان يصلى بفهم وبلا حدود,
وتجاوز قانونه الروحى إلى ما فوق بكثير جداً, ودرب نفسه على صلب الجسد فى الصلاة, بل
أقر مرة إلى أحد الآباء بأنه يشعر بوقوف المسيح معه حالما يقف ليصلى.
وفشل
الملل فى الوصول إليه, وعندمات لحق به, أخفق فى الحرب معه, فقد كان يصلى مرة وهو
راكع على ركبتيه ويداه مبسوطتان لأعلى, ودفعة أخرى وهو منتصب القامة ويداه
مضمومتان نحو صدره, ودفعه ثالثة وهو مغمض العينين هامساً, وهو يصلى مرتلاً بصوت
أعلى قليلا.
كان
ينسى كل شئ وهو واقف على مذبح الصلاة, كانت الحضرة الإلهية تسبيه لدرجة أنه لا
يشعر بقدميه تلامسان الحصير الواقف فوقه, و إذا ناداه مناد من الخارج فما كان
يسمعه, كذلك إذا طرق بابه طارق, شعر وكأنه فى حلم..
ويمضى
الوقت, ويزداد وجهه إشراقاً وملائكية، ويزداد شغفه بالصلاة ، ولزم قلايته، فصار نادراً مايُرى فى الخارج ، لدرجة أن الآباء
عندما كانوا يعرضون عليه الخروج للاشتراك فى عمل ما، كان يعتذر، متعللاً بأن
الصلاة لذيذة وحلوة وفيها كفاية عن كل شئ ، وما كان يقول ذلك تباهياً وإنما فى
براءة كمن يتحدث مع نفسه.
وكثيرا
ما انشغل عنهم بالصلاة، وهم يعملون معاً، دون قصد منه ويعود ليتظاهر بميله إلى
النوم.
واحترم
كل الآباء مشاعره، ولكن ابوه الروحى كان يرقب هذه التطورات فى حذر وبين آن وأخر
كان يلفت نظر الاب موسى إلى ضرورة الاعتدال.
وجدير
بالذكر أن المسئولية تنتقل من المعترف إلى أب الاعتراف إذا توافر شرطين اساسين:
أولهما:
أن يصارح أب اعترافه فى كل شئ ولا يخفى عنه شيئاً.
وثانيهما:
أن يطيعه فى كل شئ. ولكن كما هو معروف الاعتراف ُيقبل ولا ينتزع!.
وحدث
فى سهرة الاحد الثاتى من شهر كيهك، أن لاحظ الآباء أن الأب موسى غير موجود
بالكنيسة، الأمر الذى يعد خروجا عن المألوف, فإن الآباء جميعا ً اعتادوا حضور
سهرات شهر كيهك وأسبوع البصخة معاً، بمن فيهم أولئك الذين لهم تدبير خاص
والمتوحدون.
وقام
ليلتها القمص مينا المحلاًوى رئيس الدير، ليفتقده فى قلايته.. وفوجئ عندما اقترب
منها، بأصوات غريبة صادرة منها، شئ يجمع بين القبح والهمس، وبدلا من أن يطرق الباب،
أصاغ السمع وما أشد دهشته حين أحس بأصوات تشبه فحيح الأفاعى. وتقزز الأب مينا
واستاء وأيقن أن هذا ماهو إلا (نذير شؤم) ولم يحاول أن يفسر مايسمع أو يحلل ما
يحدث، وإنما عاد أدراجه إلى الكنيسة، ساهماً
شارداً، يحس بضيق وعدم ارتياح. وعاد مرة أخرى قرب انتهاء السهرة، دون أن يلحظه أحد،
إلى قلاية موسى، وأرهف أذنيه ، ولكنه سمع صلاته وكأنه يزغرد، وتعجب وحفظ الأمر فى
قلبه.
وفى
الصباح قابله يمشى كعادته، بطيئاً بملابسه المتهرئة، ونعليه المرتقين، يهتز بجسده
النحيل، وسأله لماذا لم يأت إلى الكنيسة البارحة ليصلى ويسبح مع إخوته؟ فاعتذر فى
أدب راهب بأنه كان يشعر ببعض التعب، ولم يتخلص منه إلا عندما دق الناقوس يعلن بدء
رفع بخور باكر، وأنه حرم بركة المجمع (يقصد إخوته) ثم قال وهو يحك فى لحيته:
-
بإذن
المسيح السبت القادم..
ولم
يعلق الأب مينا، على الرغم من أن الشك كان ينهش صدره والخوف يؤرقه تجأه هذا الأب، ومضى
من فوره إلى القمص سمعان يسر له بمخاوفه ، ويلتمس منه التدخل لانقاذ ابنه.
كان
الأمر يبدو طبيعياً، أن راهباً يصلى ويحب الصلاة، ويقضى معها أغلب وقته ، كما يفعل
الأب موسى فينسى طعامه، ويتهرب من العمل مع أخوته، ويصلى بطريقة مطولة، ملحناً
الكلمات فى بطء غلب المألوف والعادة..
بل
أن كثيرا من الآباء تبكتوا من ضمائرهم بسبب المقارنة التى يعقدونها فيما بينهم
وبين هذا الأب ، وأصيب بعضهم من المبتدئين بصغر النفس.
ولكن
الذين جاهدوا وغلبوا فى الحياة الروحية، ودخلوا فى حرب مع الشياطين ، وغلب المسيح
لحسابهم ، وأصبحوا لا يجهلون حيل المحتال - بعد أن تمرسوا فى البرية بالحنكة والخبرة-
هؤلاء أطلقوا صفير الإنذار، وأضاءوا النور الأحمر.
وشهدت
ليلة السابع عشر من شهر كيهك، حديتا مطولاً بين الأب موسى أبيه الروحى القمص سمعان،
تخلله خلاف غير حاد لم يلبث أن تحول خالأً إلى عتاب ثم وعد بالأعتدال.
فى
تلك الليلة قال له أبوه الروحى فيما قال:
-
اتفقت معك على أن تصلى صلاة باكر، ونصف
الليل فقط، ثم يحفظ فكرك نقياً بقية الوقت، وهذا يكفى.
-
ولكنى أحب أن أصلى أكثر فما الضرر من ذلك.
-
الضرر ليس فى الصلاة ، وإنما هو فى عدم طاعتك.
-
أنا كسرت الطاعة لكى أصلى.
-
الخوف لئلا تكون صلاتك لأجل الصلاة فقط.
-
لا أفهم..
-
أخشى أن تكون صلاتك ، بدافع أن تكون راهباً مصلياً يرضى غروره فحسب ، بأنه وصل إلى
مرتبة عالية فى الصلاة ، ومعروف أن الصلاة هى حب وانسحاق ، وتوبة.
هذا
صحيح وهكذا أؤمن ولم نختلف.
-
لوكان إيمانك هو هذا ، لما حزنت وغضبت عندما نصحتك بتعديل تدبيرك فى الصلاة..
-
ولكن مارأى قدسك فى أننى أسمع أصواتاً مشجعة ، فى بعض الاوقات؟
-
مبارك، ولكن قد لا تكون أصواناً إلهية
بالضرورة فى كل مرة.
-
كما أنى أشعر بتعزية فى الصلاة ..الصلاة بكثرة على وجه الخصوص.
-
ربما لا تكون تعزية ، ولكنها شعور بالرضا عن النفس ، ومن يعمل هواه فقد أفسح
للشيطان- شيطان المجد الباطل- مكانا معه، وأما من يخضع لتدبير أبيه الروحى، فهذا
قد أثمر تمرة التضاع الشهية.
-
سأحاول.. ولكن تذكر قدسك أننى على مضض أطيعك.
-
تذكر يا إبنى أن الطريق الوسطى خلصت كثيرين.
اغفر لى وحاللنى، فالطريق طويل وشاق وأنا معدوم
الخبرة ، ليًن العظام.
وصلى له صلاة التحليل، وخرج وهو يبتهل لله فى
أمره لكى يرفع عنه الحرب التى أعلنها الشيطان، وكان يشعر أن عدو الخير قد التقطه، عندما
وجده كغنمة شاردة عن القطيع.
أما موسى فقد عادت الأفكار لتقلقه ، وعادت الشياطين
لتهجس فى فكره، أن أبيه الروحى ما قال له ذلك، إلا لغيرته منه، لأنه لم يصل إلى ما
وصل إليه هو.. وعاد يقول لنفسه محتجاً:
- من أوصى بألا نصلى ، وبدلاً من أن نتقدم فى
الصلاة، نقلل ما نصليه؟
ثم لوى شفتيه عجبا!
وبعد عامين انتقل ليسكن فى قلاية أخرى، بأمر من
رئيس الدير، لعل الحرب تهدأ، ولم تهدأ الحرب ، ولم يعتدل موسى فى سلوكه، بل لاحظ
الكل إنعزاله المرضى عنهم، ولم يعد بظهر مطلقاً فى ساحة الدير، ولم ير إلا ليأخذ
قليلا من الخبز أو البقول أو ليملأ زلعته العتيقة المكسورة, يحملها وهو يمشى على
مهل, بينما يطفح وجهه سروراً و زهواً وعيناه تقولان لكل من يقابله: (أين أنت منى
يا مسكين).
وبكى
أبوه, وقصد قلايته مرة أخرى..
وفى
هذه المرة, سجد أمامه وحاول تقبيل قدميه, وتوسل إليه أن يترك قلايته ويأتى ليسكن
معه لفترة, ولكن موسى صمت طويلاً حتى هدأ أبوه, ثم قال كمن ضاق بكتمان سر خطير:
- أتعلم يا أبى أن الملائكة قد جاءوا الىّ وباركونى؟
- وماذا أيضا يا مسكين؟
- باركونى فحسب.. وأضاءوا الموضع حولى, وشجعونى بكلمات كثيرة.
- كم مرة حضروا اليك؟
- ثمانى أو تسع مرات.
- ألم يقولوا لك شيئاً؟ شيئاً غير عادى؟
- لا لم يقولوا.. فقط كانت مناظرهم مبهجة.. وكلماتهم معزية..
وزفر
الأب سمعان زفرة محرقة, وهو منكس الرأس تحمله راحتيه, وبعد فترة من الصمت قال فى
مرارة:
- أرجوك إذا حدث ذلك مرة أخرى فأخبرنى أولا بأول..
وشوهد
ذات مرة, وهو أت من ناحية الهوكارية ( قرية قريبة من الدير) وفى يده كيسا به دجاجة
مذبوجة.. ثم دخل إلى قلايته, واعدها هناك مع شئ من الطبييخ, وخرج من القلاية ليدعو
إليه بعض الآباء, فأتوا وأكلوا معه, وصنع لهم أقداحاً من الشاى, وتكلم معهم بافراط
على غير عادته فى الفترة الأخيرة.
وانتهزوا
هم هذه الفرصة, وحاولوا أن يناقشوه, ويتناولون حالته وطفراته بالحديث, ولكن تهرب
من ذلك, فلما ضيّقوا عليه الخناق, استأذن منهم و خرج من القلاية, ولم يرجع إليها
إلا فى اليوم التالى, حيث كان كل منهم قد عاد إلى قلايته.
ولكن
الأب هدرا, وهو من المقربين منه, اقتحم هذا السياج الذى ضربه موسى حول نفسه, ودار
بينهم - ذات ليله - الحديث التالى:
قال
الأب هدرا: لعلك تصلى لأجلى, فأنا محتاج إلى طلبات ودموع كثيرة فى هذه الأيام.
أجاب
الأب موسى: الرب يعيننا جميعاً, صدقنى ليس أفضل من الصلاة, فهى الطريق إلى الله,
وهى السلام.. وهى عربون الملكوت الأبدي.
- نعم .. ولكنى ضعيف, وبالكاد أصلى متمما تدبيرى, أتعلم ماذا قال
لى أبى الروحى؟
- ماذا قال...؟
- قال .. متى كنت فى قلايتك, وطرق بابك طارق فاترك ما تعمله وحتى
إذا كنت تصلى, وافتح له واستقبله, واقضى له حاجته, ثم عد بعد ذلك إلى ما كنت
عليه..
- هراء..
نعم,
فما حسبهم يقولون لنا ذلك, إلا لحرصهم على إتمام أعمال الدير, من عجن وخبز وطحن
وزراعة واستقبال الضيوف وغيرها, تلك التى هى خدعة من الشيطان لكى يلهينا عن
الصلاة.
(ثم بانفعال, ويدين تطوحان فى الهواء)
- كل المسئولين يسلكون هكذا, لهم نفس المنهج, لا يتحدثون إلا عن
الطاعة, إن اللاهوت الذى يدرسونه ويدرّسونه هو لاهوت السلطة!, طاعة عمياء,
يريدوننا آلات فى أيديهم..
- مهلك يا أخى وعفوك, هم يعملون لأجل منفعتنا, ويعلمون أننا نحتاج
إلى تعليم, ويخافون علينا من الضربات اليمينية, ويودّون أن تسير الأمور رويدا
رويدا, يخشون من الطفرات, ويؤمنون بالكيفية لا الكمية..
- هراء .. كذب و خداع..
ربما
لا نعلم, كيف يود أبى أن يكبلنى ويحد من انطلاقى, لغيرته منى, نعم محض غيرة, وقلب
مفعم بالحقد.. ولكن لا بأس, فالله نظر إلى صبرى, وشجعنى, وأعلن لى ذلك مراراً.
وبدا
للأب هدرا أن الأب موسى مسبى بهذا الفكر فعاد ليقول له:
- إن الطاعة أفضل من الذبيحة, و الاستماع أفضل من لحم الكباش, و أن
التلميذ بطاعته يصبر أفضل من معلمه.
ولكن
موسى عزف عن الاذعان, ورفض أية مشورة, إلا تلك التى تأتى على هواه, وتختم على
رغباته..
وعرض
الأب هدرا على الأب موسى أن يستأذن رئيس الدير, فى أن يأتى ليعمل معه فى الزراعة,
ولكن موسى اعتذر بأنه يتعثر فى العمل مع الآخرين.
وتركه
الأب هدرا وهو مكسور الخاطر, يطلب سراً إلى أن يعتق أخاه المسبى.
وفى
الفترة التى أعقبت هذا, قلّ خروج الأب موسى من القلاية, أكثر من ذى قبل.
واعتاد
آباء من أديرة أخرى المجئ الى الدير للسؤال عنه, فقد أشيع أن أصابعه تضئ, وبأنه
يقف معلقاً, أى لا تلامس قدماه الأرض, وبأنه يختفى كثيراً من قلايته و من الدير,
فهو سائح, وبأن قلايته اختفت ذات مرة بجملتها من الدير ثم عادت مرة أخرى إلى موضعها..و ... و ....
وبدا
هو مكفهر الوجه, منحنى القامة, جادا فى أحاديثه القليلة جدا, وكأنه يحمل فوق كاهله
مصائب الشرق و الغرب إلى ان كانت ليلة..
حين
جاءته الملائكة, الذين حكى لأبيه عنهم, جاءوا بعد ان صلى صلاة نصف الليل, فى
الساعة الثانية و الربع صباحا, ومدحوه بكلام كثير, كمن يزفوا إليه بشرى رضا السماء
عنه, قالوا:
إن
الله أمر بمكافأتك لأجل جهادك وتعبك وسهرك وصبرك, أكثر من كل المجاهدين, وذلك بنفس
الطريقة التى أخد بها إيليا النبى..
وفغر
موسى فاه دهشة, وهو لا يصدق من هول المفاجأة فعادوا يؤكدون له ذلك, وبأنه يستحق كل
هذا المجد, وبأنه سوف يصل إلى بيعة الأبكار.
ثم
بلهجة هامسة محذرة وبصوت مملوء بالمكر:
ولكن
إحذر أن تخبر أباك بذلك, فإنه لن يصدقك لكونه لم يصل إلى قامتك وقداستك, وإذا سمع
منك ما سمعته الآن فإنه يمنعك, وتحرم أنت من تلك المكافأة, وهذا الشرف, وقد تحاربك
الشياطين, ويسقطونك عن رتبتك, ويتطرق التوانى - بعد ذلك - إلى قلبك, فتفقد
إكليلك..
فقال
بسرعة:
لا ..
لا يقلقكم هذا الامر.
فأكملوا
حديثهم قائلين:
بعد
غد, وفى منتصف الليل حوالى الساعة الواحدة من صباح السبت: وبعد أن تصلى طويلا
كعادتك, إصعد إلى السور البحرى للدير وفى الركن الشرقى منه, ثم انتظرنا هناك حيث
نجئ إليك بالمركبة فتأخذك إلى المجد.
وإحذر
أن تخبر أحد كما قلنا لك.
ثم اختفوا
كما جاءوا....
واهتزت
الدنيا أمام عينيه, ومادت الارض تحت قدميه, وراح فى غيبوبة لدقائق, وأفاق.. لا
يدرى ماذا يصنع؟ هل يفرح؟.. أم يبكى..؟
هل هو
موت, أم ارتفاع إلى المجد حقا؟..
هل
يقول لأبيه أم لا؟
ولكن
لماذا يتحير, ولماذا يقول لأبيه.. وأبوه لن يفهمه! بل سيحاول إعاقته..
ثم كيف
يعصى امراص إلهيا؟ وكيف يتشكك تجاه ما يشتهى البشر قاطبة فى الحصول عليه و الفوز
بيه..
ولم
ينم تلك الليلة.
وطيلة
النهار التالى .. لم يأكل . بل لم يصلّ ! ولماذا يصلى! والصلاة للمبتدئين فقط فى
الطريق الروحى ، و أما هو فقد وصل إلى أن دعاه الله إليه بكيفية لم تحدث قبلاً إلا
لواحد فقط ، هو القوى فى الأنبياء ، ايليا التشبى .
يالها
من كرامة .. كم كانوا يحتقروننى ويؤنبوننى ، ولكنى صمدت وكافحت و ثابرت ، و أخيراً
كلل الله جهادى ..
ثم
نقر بأصبعه على باب القلاية من الداخل .. وهو يغمغم مسروراً كمن يغنى "فاى بى
بى إيهوؤو (أى هذا هو اليوم .. وهى آية فى المزمور117)، ولم يعلم المسكين أنه كانت
طغمة شريرة، تردد بأصوات قبيحة، وفى نفس اللحظة .. نفس الأغنية ولكن فى موضع آخر
..
فاى
بى إيهوؤو فاى بى بى إيهوؤو
هو
يرددها فى حالة طرب بلا وعى ..
وهم
فى وعى كامل .. وفى شماتة ، وعلى أبواب نصر أكيد .
+ +
+
كانت
ليلة ليلاء ، قارسة البرد ، شديدة العواصف .. مظلمة الصفحة.
فى
تلك الساعة كان ثلاثة من الرهبان يحضرّون عجينة القربان، فى بيت لحم استعداداً
للقداس ، بمناسبة أحد أعياد القديسين .
وفى
حوالى الواحدة والنصف من صباح هذا السبت ، سمعوا صوت إرتطام شديد ، أعقبه صرخات
عظيمة تفتت الكبد ، ثم فى لحظات هدأ كل شيىء ..
وانتفض الآباء من مكانهم، وهم يرشمون ذواتهم
بعلامة الصليب المقدسة، ويصلون صلوات سريعة قصيرة ، وما عسى أن يكون الأمر؛
واتجهوا حيث كان مصدر الصوت وفى طريقهم إلى الباب البحرى للدير، سمعوا أصوت قهقهة
قبيحة ..عالية ومقززة مالبثت أن خفقت، ثم عادت لتعلو من جديد بنفس القبح ، ثم
تلاشت تماماً بعد ذلك وصار هدوء .
وما
أن فتح الآباء الثلاثة الباب وخرجوا ، حتى سمعوا أنيناً خافتاً متقطعاً ، عرفوا
مصدره .. جثة راهب متكومة غارقة فى بقعة كبيرة من الدم، و أشعلوا أعواد الثقاب،
فندت عنهم صرخة ، شقت سكون الليل .
أنه
الأب موسى!
وفى
لمح البصر، تعاون ثلاثتهم .. وحملوه مثل الميت .. إلى داخل الدير، وقد لحقهم رهط
من الرهبان ، كانوا يصلون ساهرين فى قلاليهم ، حين سمعوا الصراخ فجاءوا ..
وذهبوا
به إلى قلايته .. ولحقهم هناك الأب مكارى – وله دراية بالطب – وراح يمر بأصابعه
على جسمه، واكتشف كسوراً مضاعفة فى اليدين والساقين .. والضلوع .. واشتباه فى نزيف
داخلى وارتجاج بالمخ ..
وأسرع
يعمل له (جبيرة) فى مواضع الكسور .. وأراحوه على لوحة كبيرة من الخشب، و سقوه –
بصعوبة بالغة – كوباً من عصير الليمون ..
و
أفاق قليلاً ليئن أنيناً يقطع نياط القلوب .. ما لبث هذا أن تحوّل إلى صراخ ..
وتجمع باقى الآباء حوله .. وخارج قلايته ، وهم يتساءلون عما حدث ..
وجاء
القمص مينا رئيس الدير ، وطلب إلى الآباء – فى لطف وتوسل – أن يتركوه ليستريح، على
أن يقيموا صلوات لأجله، ثم جلس هو و اثنين آخرين منهم الأب مكارى ، يخففون عنه ،
ويرشون وجهه بالماء ، ويبدلون من وضعه على الفراش .. وهو لا يكف عن أنينه ..
ولم
يلبث أن راح فى غيبوبة.
وجلس
الآباء حوله ، تلّفهم الدهشة ، ويعتصرهم الألم والقلق عليه ، وخرجت حيرتهم فى
أسئلة وجهوها بعضهم لبعض .. ولكن لا أحد منهم يملك الاجابة .. ورفعوا قلوبهم
بالصلاة ..
وعاد
موسى من غفلته ، وراح يئن .. ولكنه مع الأنين طلب السماح والحل من كل الآباء ، وهم
بدورهم طمأنوه، وقال: أخطأت ولم أذعن لتحذير أبى ، وانسقت لغواية الشيطان .. خدعونى
..
واختنقت
عبراته، وحاول أن يبكى ، ولكنه لم يستطيع ، وتحول البكاء إلى أنين موجع مرة أخرى ،
وصرخات خافتة متقطعة ، والآباء يهوّنون عليه ويطلبون له الحل والغفران من الله .
وجاء
الأب سمعان مسرعاً منزعجاً ، ثم بكى و أخفى وجهه بكلتا يديه ، ولكن موسى لم يكن
يراه أو يسمعه فقد راح مرة أخرى فى غيبوبة .
وزهاء
ذلك النهار تأرجحت حالة الأب موسى ، ما بين يقظة يقضيها فى الصراخ والأنين وطلب
السماح والحل من الآباء ، وغفلة يغيب فيها عن كل ما حوله .. وكل من حوله ..
فى
اليوم التالى ، ازداد الألم ...والأنين والصراخ .. ورغم كل المسكّنات التى أعطيت
له .. ورغم ما يعرف عنه ، من احتماله الشديد ... كان واضحاً أنه فى ساعاته الأخيرة
.
وجاءت
القافلة، وربضت الجمال الخمسة عشر أمام نفس الباب الذى سقط الأب أمامه ، ولم يلتفت
إليها أحد من الرهبان ، ولم يهتموا بأن يدخلون ما تحمله من مؤن غذائية انتظروها
شهراً كاملاً، حتى الجمّالون أنفسهم، قد سرت القشعريرة فى ابدانهم عند سماعهم ما
حدث ..
وعند
الظهر أشار الأب موسى بيده للآباء ، فخرجوا وتركوه مع الأب سمعان ، وحكى له ما حدث
، بكلمات متقطعة وبطريقة مؤثرة أبكت أباه ، ودخل أحد الأباء فى تلك الأثناء ، يحمل
طعاماً وشراباً أعدّوه له ، ولكنه لم يستطع أن يأكل أويشرب .. وخرج الأب مرة أخرى
.
وعاد
موسى يكمل .. وفى النهاية صلى له الأب سمعان صلاة التحليل وشجعه وطمأنه وشكرا الله
الذى وهب له فرصة يقدم توبة ..
وعند
الغروب كان كل جسمه قد تورم ، و إسود لون وجهه ، وإنقطع عن الكلام ، ولكنه بين آن
و آخر كان يفتح عينيه يطلب بهما السماح فى توسل ، ثم راح فى غيبوبة استمرت حتى
مطلع فجر اليوم الثالث ..
ولم
يستطع الآباء أن يحملوه إلى أى مستشفى لئلا يموت فى الطريق من عناء السفر .. ولما
أحس القمص مينا بقرب النهاية ، دعا كل الأباء ليتباركوا منه .. ويصلون لأجله ،
وصلوا جميعاً فى قلايته صلاة الشكر ، أعقبها طلبة طويلة مؤثرة لأحد الشيوخ جعلتهم
يبكون ، ثم قبلوه جميعا واحدا واحدا.. ومضوا إلى قلاليهم..
وما هى إلا ساعة ونصف أى حوالى التاسعة والنصف
حتى شق سكون البرية البرية ناقوس يعلن انتقاله..
+ + +
وعلى
السلم المؤدى إلى الكنيسة الأثرية فى الدير ، جلس الأب مينا مع الأب سمعان يستمع
منه إلى ماحدث .. قال الأب سمعان:
قالوا له - أعداء البر والخير- سنأتى إليك من
فوق ، وتنتظرنا على السور- بجوار المطعمة – وفى الوقت المحدد، وكان المسكين فى
انتظارهم، سمع أصوات رعد وعواصف وبرق يظهر ويختفى ، ثم خيالات كثيرة ، وأصوات
مختلفة ، وخيّل إليه أن المركبة قد جاءت ، كبيرة وسريعة ، يطير بها أربعة خيول من
نار ، ثم أصبحت ملاصقة للسور ، وسمع هو من يقول له: تقدم.. اخطو نحو المركبة
وأذعن للصوت، ورفع قدمه اليمنى ليخطو نحو
المركبة ، فإذا بقدمه تزل، وينزلق من فوق السور ، ويتلاشى كل شىء، بينما هوى كحجر
عظيم على الأرض من ارتفاع تسعة أمتار، وسمع بنفسه قهقهتهم وسخريتهم ، بينم هو يصرخ
من الألم.
ثم قال الأب سمعان مستطردا :
نعم لقد اعترف بكل شىء.. وكشف كل أفكاره ،
ولعل الرب لم يسمح بأن يضيع تعبه وجهاده.. وقد ترك له فرصة يقدم فيها توبة لئلا
يفقد أبديته..
وأما الأب فليمون، وكان رجلا بارا تصرخ حياته
قداسة وشهادة حية للرب، طوال أيام حياته فى الدير، فقد خرج من بعد عدة أيام ليجلس
على احدى المصطبتين أمام الباب.
وحدث نحو منتصف الليل ، أن سمع صوت جلبة
وضوضاء أتية نحو الدير ، وإذا بطغمة من الشياطين ، قبيحة المنظر، أتت لتتفقد
الموضع الذى هزموا فيه الأب موسى ، وفى نفس التوقيت.
وكأن الأب قد جاء خصيصا لهذا الغرض! ، إذا ما
أن اقتربوا من الباب ، حتى صرخ فيهم باسم الرب أن لا يتحركوا من أماكنهم فتسمروا
فى مواضعهم وراح يصلى بصوت عال ، بزكاوة قلب وقداسة سريرة ، وبدالة شديدة لدى الله
.
وصرخت الشياطين، ولكنه لم يأبه بهم، وازداد
عويلهم وصراخهم، وراحوا يضربون الأرض بأقدام من حديد، ولكنه أهملهم وأطال فى
الصلاة ، وهم يتعذبون ، وطلب من الرب بصوت مسموع أن يخزيهم ، ويلحق بهم العار..
وازدادوا صراخا، وطلبوا إليه بتوسل أن يطلق
سراحهم.. وقال لهم كيف تتجرأون على خليقة الله أيها الأشرار وأنتم تعلمون أن مآلكم
هو البحيرة المتقدة بالنار..
فأجابوه بمناظرهم البشعة وأصواتهم القبيحة
بأنهم لم يحققوا مأربهم .. لأنه لم يمت قبل أن يتوب وهم لذلك أسفون، ووعدوه أن لا
يعودوا إلى هذا المكان مرة أخرى..
فرشمهم بعلامة الصليب المقدسة ثلاث مرات ..
وهو يقول ليخزيكم الرب عنا ، فإذا بهم يتحولون إلى دخان قذر ويختفون..
هذه هى أخر لقطة من حياة الأب المبارك المتنيح
القمص موسى المسعودى البرموسى الذى ولد عام 1566 ش الموافق 1850 م بإسم بشاى مرقص
بقرية الشيخ مسعود بطهطا وجاء للرهبنة فى عهد القمص يوحنا الأول عام 1589 ش
الموافق 1873 م وقد رسم قسا فى عام 1594 ش الموافق 1878 م فى عهد القمص يوحنا
الثانى ثم قمصا فى عام 1616 ش الموافق 1900 م فى عهد القمص مينا الأول . ثم تنيح
فى عهد القمص مينا المحلاوى رئيس الدير عام 1636 ش الموافق 1920 م
سردناها(
بتصرف) فى قالب قصصى .
الانبا مكاريوس