كان يبلغ من العمر خمسون عاما، يعيش عازبا، ويعمل كاتبا بمصلحة حكومية. وكان كثيرا ما يسرح بفكره وهو يسير في الشوارع ولا يلفت انتباهه شيئا، ولو نظر الى شئ فما كان ليرى فيه سوى سطورا نظيفة مكتوبة باحرف منمقة. فور عودته من عمله يجلس على المائدة على الفور، فيلتهم بسرعة حساء الكرنب وقطعة لحم بالبصل دون ان يحس ابدا بطعمها. وفي المساء يزور جاره ليلعب معه الورق وهو يرشف الشاي من الكوب الكبير مع قطعة من الخبز المحمص. ثم في الليل يأوى الى فراشه وهو يبتسم سلفا فغدا سيرزقه الله بشئ ما لينسخه. هكذا كانت تمضي حياة هذا الرجل الوادعة، هذا الرجل الذي رضى عن حظه بالاربعمئة روبل التي يتقاضاها في السنة، حتى لو مضى العمر ووصل الى نهايته.
ومنذ فترة قريبة بدأ اكاكي يحس بوخز في ظهره وكتفه وتفحص معطفه فوجد انه في مواضع ثلاثة وبالذات عند الظهر والكتفين، مثل الخيش تماما، فقد رق نسيجه الى درجة ان الهواء البارد صار ينفذ خلاله.
فأخذه الى الخيّاط الذي يقطن في شقة بالدور الرابع ويدعى (بترو). كان الخياط رغم فقده احدى عينيه يزاول بنجاح تصليح معاطف الموظفين وسراويلهم وما الى ذلك، كان يدعى جريجوري سابقا حين كان عبدا ثم اصبح يدعى بترو عندما اعتق.
وبينما كان اكاكي يصعد السلم المؤدي الى بترو اخذ يفكر في المبلغ الذي سيتقاضاه بترو وقرر الا يعطيه اكثر من روبلين. حين وصل رآه جالسا على طاولة خشبية عريضة واول ما لفت انتباهه كانت تلك الاصبع الكبيرة ذات الظفر المشوه. ومن رقبة بترو تدلت ثلة من الخيوط. كان منذ حوالي ثلاث دقائق يحاول ادخال الخيط في ثقب ابرة ولا يستطيع ولذلك كان ساخطا على العتمة، بل وحتى على الخيط نفسه وهو يدمدم بصوت خافت: "لا يدخل هذا الوغد، ايها الملعون، انهكتني!"
- مرحبا يا بترو.
- مرحبا بك يا سيدي، - ونظر بطرف عينه نحو يدي اكاكي رغبة منه في ان يعرف ما هو الصيد الذي جاء به اليه.
- هانذا قد جئت اليك، يا بترو، بهذا .. يعني..
وينبغي ان نعرف ان اكاكي كان يعبر عن افكاره في اغلب الاحوال بحروف الجر والظروف وادوات لا معنى لها. اما اذا كانت المسألة صعبة جدا فقد كان من عادته الا ينهي الجملة ابدا. ولذلك كان كثيرا ما يبدأ حديثه بهذه الكلمات: "هذا في الواقع .. يعني تماما .." وبعد ذلك لا يقول شيئا، وينسى هو نفسه، ويظن انه قد قال كل شئ.
- ما هذا؟ - قال بترو وهو يتفحص بعينه الوحيدة معطف اكاكي.
- وهانذا يا بترو ، يعني.. المعطف.. انظر، في كل مكان اخر باستثناء الظهر والكتفين ما زال متينا.. هذا كل شئ.. عمل قليل.
اخذ بترو المعطف وبسطه على الطاولة، وتفحصه طويلا، ثم هز رأسه، ثم قلّبه فجعل بطانته الى اعلى، وهز رأسه من جديد .. واخيرا قال:
- كلا، لا يمكن اصلاحه، ملبس بال.
- احس اكاكي عند سماعه هذه الكلمات بوخزة في قلبه.
- ولماذا لا يمكن اصلاحه؟ - قال بصوت ضارع كصوت الطفل تقريبا. – كل ما فيه انه اصبح خفيفا عند الكتفين، وانت لديك حتما قطعا من القماش تناسبه.
- نعم، يمكن ان اجد قطعا، القطع موجودة، - قال بترو. – لكن لا يمكن تثبيتها. النسيج مهترئ تماما. ما ان تلمسه الابرة حتى يتفسخ.
- حاول تثبيت قطعا. كيف اذن في الواقع يعني؟!
- كلا، لا يمكن عمل شئ. - قال بترو بحسم.
- يبدو انك ستضطر الى تفصيل واحد جديد.
- عند سماع كلمة "جديد" غامت عينا اكاكي واختلط امام نظره كل ما كان في الغرفة.
- واذا اضطررت الى معطف جديد فكيف يعني هو..
- تقصد كم يساوي؟
- نعم.
- ثلاث ورقات من فئة الخمسين. وزم شفتيه زمة ذات مغزى.
عنما خرج اكاكي الى الشارع كان كأنه في حلم، ومضى يحدث نفسه: "يا له من امر! يا لها من مشكلة! في الحقيقة لم اكن اظن ان المسألة يعني ستكون.". – وبعد فترة صمت استطرد: "هكذا اذاً. هذا حقا غير متوقع ابدا يعني.. ابدا لكن.. يا لها من مشكلة!" بعد ان قال ذلك وبدلا من ان يذهب الى البيت سار في اتجاه اخر تماما، وهو لايدري. وفي الطريق احتك به جامع قمامة بملابسه المتسخة، فلطخ له كتفه كله. وانهال عليه كوم من الملاط من قمة منزل يجرى بناؤه. فلم يلاحظ هذا كله. الى ان اصطدم بشخص مندفع، جعله ذلك ينتبه ويعود ادراجه للمنزل.
وفي المنزل بدأ يستجمع شتات افكاره، فرأى وضعه في صورته الحقيقية الواضحة واخذ يحدث نفسه لا بعبارات متقطعة، بل بحكمة وصراحة كأنما يتحدث الى زميل راجح يمكن ان تفضي اليه بأخص اسرار القلب. قال اكاكي: "لا، لايمكن. الكلام مع بترو الان مستحيل، فهو الان يعني.. يبدو ان زوجته تخاصمت معه بشكل ما في ذلك اليوم. الافضل ان اذهب اليه صباح اليوم التالي وعندها ادس في يده عشر كوبيكات وعندها سيلبي طلبي.
وبالفعل ذهب، كان بترو نعسان ورأسه مدلى نحو الارض. ورغم ذلك فما ان احس بقدومه حتى اعتدل وكأنما وخزه الشيطان، وقال: "تفضل" فدس اكاكي عشرة كوبيكات في يده.
فقال بترو: "اشكرك يا سيدي، بخصوص المعطف لا تقلق سأخيط لك واحدا جديدا". واراد اكاكي ان يفتح فمه ليتحدث عن التصليح، ولكن بترو لم يصغ اليه وقال: "سأخيط لك واحدا واحدا جديدا".
وعندها ادرك انه لا يمكن التنصل من تفصيل معطف جديد وانهار تماما. وبالفعل كيف يمكن ان يفصله؟ من اين له بالنقود؟ بالطبع يمكن الاعتماد جزئيا على المكافأةالقادمة بمناسبة العيد ولكن هذا المبلغ قد وزع وحددت اوجه صرفه سلفا منذ زمن بعيد. فقد كان من المطلوب اقتناء سروال جديد وقميصين جديدين وتسديد دين قديم لصاحب محل البقالة
كان معه خلال ادخاره عدة سنوات مبلغ اربعين روبلا. وهذا نصف المبلغ، ولكن من اين يأتي بالنصف الثاني؟ وفكر طويلا ثم قرر انه ينبغي عليه ان يخفّض نفقاته العادية، ولو خلال عام واحد على الاقل: ان يمتنع عن احتساء كوب الشاي الذي اعتاد تناوله كل مساء ولا يشعل الشمعة مساءا فاذا تطلب الامر للعمل فليذهب الى غرفة
بل تعود تماما على الجوع في المساء وفي المقابل لقد كان يتغذى معنويا وهو يحمل في خاطره الفكرة المبهجة عن اقتناء المعطف الجديد. ومنذ تلك اللحظة بدا وكأن وجوده اصبح اكثر اكتمالا وكأنما قد تزوج كأنما اصبح يلازمه شخص ما، كأنما لم يعد وحيد، بل وافقت شريكة حياة لطيفة على ان تمضي معه درب الحياة، ولم تكن شريكة الحياة تلك سوى المعطف و الحشوة القطنية السميكة والبطانة المتينة التى لا تعرف البلى. واصبح اكاكي اكثر حيوية بل واصبحت شخصيته اكثر صلابة كشخص حدد لنفسه هدفا وسعى اليه. وكان اكثر الخواطر التى تومض في ذهنه: "فماذل لو ركب فعلا ياقة من فراء السنسار؟" وكاد التفكير في ذلك يجعله نهبا للشرود. فذات مرة اوشك ان يخطئ زهو ينسخ الاوراق حتى انه صاح بصوت مسموع تقريبا: "اوه!" ورسم على نفسه علامة الصليب.
وكان كل شهر يزور بترو مرة على الاقل لكي يتحدث عن المعطف: واين يستحسن ان يشترى القماش ومن اي لون وبأي ثمن، وكان يعود من عنده مهموما قليلا، الا انه كان يعود راضيا دائما وهو يفكر انه سيأتي ذلك الوقت الذي سيشتري فيه كل ذلك ويصبح المعطف جاهزا، ل لقد سارت الامور بأسرع مما يتوقع. فخلافا لكل الاحلام قرر المدير لاكاكي لا اربعين او خمسة واربعين روبلا بل ستين. فقد اصبح لديه عشرون روبلا زيادة. وعجل ذلك بسير الامور. فبعد شهرين من الجوع البسيط اصبح لدى اكاكي ثمانين روبلا. واستغرق بترو اسبوعين في خياطة المعطف واخذ اثنى عشر روبلا اجرا، ولم يكن من الممكن اعطاؤه اقل من ذلك: فقد كانت الخياطة كلها بخيوط من الحرير وبخياطة دقيقة مزدوجة، ومر بترو على كل الخيوط باسنانه بعد ذلك مزيلا بها شتى النتوءات.
كان اكثر الايام مهابة في حياة اكاكي هو اليوم الذي جاءه فيه بترو بالمعطف وكان ذلك في الصباح قبيل خروجه للعمل. وجاء ذلك في وقت ليس هناك ما هو اكثر مناسبة منه: فقد بدأ بالفعل الصقيع الشديد. ولم ينس بترو ان يقول انه فقط لان محل يقع في شارع صغير وفوق ذلك يعرف اكاكي منذ فترة طويلة لذا تقاضى اجرا ضئيلا اما لو ذهب الى اخر فكانوا سيتقاضون منه خمسة وسبعين روبلا ولم يجادل اكاكي بترو فقد كان يخاف من تلك المبالغ المرتفعة الني كان يحلو لبترو ان يوهم بها الزبائن. فنقده اجره وشكره وخرج على الفور في المعطف الجديد للادارة.
وهرول الجميع يهنئون اكاكي على معطفه الجديد، اخذ في البداية يبتسم فقط ثم شعر بعد ذلك بالخجل وعندما اخذ الجميع وقد احاطوا به يقولون انه لابد من تدشين المعطف الجديد وانه ينبغي على الاقل ان يقيم لهم جميعا حفلا، ارتبك جدا ولم يعرف ماذا يفعل او بم يرد وكيف يتملص. وبعد مدة وكان قد احمرّ كله خجلا قال احد الموظفين وكان رئيس قسم بالادارة: "انا سأقيم لكم حفلا بدلا من اكاكي وادعوكم اليوم لتناول الشاي. كما ان اليوم بالمناسبة عيد ميلادي". وعلى الفور قبل الجميع الدعوة. واراد اكاكي ان يعتذر ولكن الجميع راحوا يقولون ان ذلك لا يليق وانه شئ معيب ومخجل.
عاد الى البيت في اسعد حالة ونزع المعطف وعلقه بحرص على الحائط وقد ملى عيناه مرة اخرى من جمال القماش والبطانة، ثم اخرج معطفه القديم عمدا بقصد المقارنة، تطلع اليه فضحك هو نفسه منه، فما ابعد الفرق بينهما! وظل بعد ذلك وطوال الغداء يضحك كلما خطرت له حالة معطفه السابق. وتناول الغداء بمرح، ولم ينسخ شيئا بعد الغداء، لم يمسك باية اوراق بخلاف المعتاد، بل تمرغ في فراشه قليلا حتى هبط الظلام. ثم ارتدى المعطف وخرج الى الشارع. كان على اكاكي ان يمر عبر بعض الشوارع المقفرة ذات الاضاءة الضعيفة.
كان مساعد رئيس الادارة يعيش في بحبوحة: فعلى سلم المدخل كان ثمة مصباح مضاء. عندما دخل الى الردهة وجد صفوفا من الاحذية وغلاية تنفث سحبا من البخار. وعلى الجدران علقت معاطف واردية وتناهى الى سمعه صخب ولغط اصبحا فجأة واضحين ورنانين عندما فتح الباب وخرج احدهم يحمل صينية غاصة بالاكواب الفارغة ودورق حليب وسلة من الكعك. كان واضحا ان الموظفين مجتمعون منذ مدة طويلة وقد احتسوا جميعا الشاي. بعد ان علق اكاكي معطفه بنفسه داخل الغربة وفي نفس الوقت لاحت امام ناظريه موائد لعب الورق واصم سمعه حديث متصاعد وجلبة مقاعد يحركونها فتوقف في وسط الغرفة مرتبكا تماما وهو يبحث او يحاول ان يجد لنفسه شيئا يفعله. ولكنهم كانوا قد لاحظوا وجوده، فاستقبلوه بالصياح ومضوا يلعبون وجلس هو يرقبهم ويحدق في وجه هذا وذاك وبعد فترة اخذ يتثاءب ويشعر بالسأم واراد ان يستأذن من رب الدار في الانصراف، ولكنهم لم يسمحوا له قائلين لابد من تناول بعض المرطبات اولا. وبعد ساعة قدموا العشاء المكون من سلطة وقطع من اللحم فوق الارز وقطع جاتوه. كانت الساعة قد جاوزت الثانية عشر وقد حان وقت عودته منذ زمن بعيد ولكيلا يحاول احد ان يستبقيه بطريقة ما خرج بهدوء وبحث عن معطفه في الردهة فوجده للاسف ملقى على الارض فتناوله ونفضه ونزع منه كل ما علق به وارتداه ونزل على السلم الى الشارع. كان الشارع لا يزال مضيئا. وكانت بعض المتاجر لا زالت مفتوحة.
سار اكاكي مرح النفس حتى انه هم بالركض فجأة لسبب مجهول. وسرعان ما امتدت امامه تلك الشوارع الخاوية التي لا تتسم بمرح خاص في النهار فما بالك في الليل. الثلج فقط هو الذي كان يلمع في الشوارع. واقترب من ذلك المكان الذي كان الشارع يتقاطع فيه مع ميدان كبير لا نهاية له . وهنا دخل الميدان باحساس لا ارادي بالخوف وكأنما كان قلبه يحدسه بشر. ونظر خلفه وتلفت حواليه. فبدا ما حوله وكأنه بحر. فقال في نفسه" كلا من الافضل الا انظر"، - وسار مغمض العينين وعندما فتحهما ليعرف هل اوشك الميدان على الانتهاء ام لا، رأى فجأة تحت انفه تقريبا شخصين، ولكنه لم يستطع ان يميز ملامح وجهيهما. وغامت عيناه وخفق قلبه بعنف "لن اسمح لكما ان تأخا معطفي!" – ولكن احدهما كان قد سدد له لكمة في وجهه ودمدم "حاول ان تصرخ ثانية" بعد بضعة دقائق عاد الى وعيه فنهض على قدميه ولم يكن هناك احد واحس ان المعطف ليس موجودا فاخذ يصرخ ولكن صوته كما بدا لم يكن ينوي ان يبلغ اخر الميدان. فانطلق يركض في يأس وهو لا يكف عن الصراخ.. بعد لحظات سار فاغرا فاه وهو يتخبط بين الارصفة. ولم يعلم كيف عاد للبيت ذلك المساء.
توجه في اليوم التالي لمأمور القسم، الذي بدلا من ان يوجه اهتمامه الى السرقة راح يسأله لماذا عاد متأخرا الى البيت؟ ألعله كان في احد الاماكن المشبوهة؟ حتى ان اكاكي احرج تماما وخرج من عنده وهو لا يعلم ماذا سيكون من امر معطفه. لقد غاب ذلك اليوم عن العمل وهو اليوم الذي غاب فيه في حياته.
نصحه البعض بالتوجه لاحد المسئولين الكبار الذي التفت نحوه وقال بصوت حاسم: اي خدمة؟
اما اكاكي فقد ارتبك قليلا ثم مضى يشرح له قضيته كيفما استطاع مع الاكثار من كلمة "يعني".. فقال انه كان لديه معطفا جديدا وها هو قد نهب بطريقة لا انسانية وانه توجه اليه لكي يكلم رئيس الشرطة. فرد عليه:
ما هذا؟ الا تعرف النظام؟ الى اين جئت؟ الا تعلم كيف تصرف الامور؟ كان ينبغي قبل كل شئ ان تقدم طلبا الى الادارة فيرفع الطلب الى رئيس القسم ثم الى نائب المأمور وعندئذ يرفعه الى..
ولكن يا صاحب المعالي..- كان اكاكي يحاول ان يستجمع ما تبقى له من شجاعة وكان عرقه يتصبب بصورة فظيعة.
انا يا صاحب المعالي لم اجرؤ على ازعاج معاليك الا لأن .. يعني.. لا يُعتمد عليهم.
ماذا؟ من اين جئت بهذه الجرأة؟ من اين جئت بهذه الافكار؟ ما هذا التمرد ضد الكبار؟ اتدري لمن تقول هذا الكلام؟ انني اسألك.
وهنا دق بقدمه رافعا صوته الى طبقة عالية جدا. اما اكاكي فصعق وترنح ولم يقو على الوقوف ولولا الحراس ركضوا اليه لانهار على الارض. وحملوه من الغرفة وهو منهار تماما.
سار اكاكي في الشارع وهبت عليه الريح الباردة كما هي العادة، و على الفور اصيب بالتهاب في حلقه، وعندما وصل الى البيت لم بكن بوسعه ان يتفوه بكلمة، وتورم بدنه كله. وعندما جاء الطبيب وجس نبضه لم يجد ما يشير به الى ربة البيت -التي لطيبتها اخذت على نفسها الاعتناء باكاكي في مرضه- سوى الكمادات. كان اكاكي يهذي من الحمى و توالت على ذهنه رؤى بلا انقطاع، كل رؤة اغرب من سابقتها: فمرة يرى الخياط، وتارة يطلب منه ان يصنع معطفا بفخاخ للصوص، وتارة كان يسأل لم معطفه القديم معلقا امامه على الحائط فلديه واحدا جديدا؟
واخيرا لفظ اكاكي اخر انفاسه. ولم توصد غرفته بالاختام الا لانه لم يكن لديه ورثة كما لم يكن لديه ممتلكات.
وقد انتشرت شائعات تقول انه عند احد الجسور كان هناك شبح في صورة موظف يستوقف المارة يبحث عن معطف مسروق.
اما المسؤول الكبير فقد احس بنوع من الاسف بعد انصراف اكاكي من عنده بهذه الصورة وحزن عندما علم ما اصاب اكاكي بسبب تعنيفه الصارم. ومنذ ذلك اليوم كان يتخيل دائما اكاكي واقفا امامه بوجهه الشاحب ولم ينجح في الانصراف عن تأنيب ضميره. وفي احد الايام احس بأحد ما يمسك بياقة معطفه بقوة. وعندما التفت رأى موظفا قصير القامة في معطف قديم مهترئ تماما فعرف انه اكاكي. كان وجه الموظف شاحبا بلون الثلج،وبدا ميتا تماما. ولكن رعب المسؤول الكبير فاق كل احد عندما رأى فم الميت ينفرج وتهب منه عليه رائحة القبور ويلفظ هذه الكلمات: آه. ها انت ذا اخيرا! اخيرا انا، يعني، امسكت بك من ياقتك! معطفك بالذات هو ما احتاج اليه! لم تسع لاسترداد معطفي. بل وعنفتني. حسنا. هات الان معطفك!" ووجد الموظفون المسؤول الكبير ينزع معطفه ويخرج مهرولا من مكان عمله. ويصرخ في سائق عربته: اسرع الى البيت!". وبات ليلته مضطربا وفي الصباح سألته ابنته اثناء تناول الشاي: لم انت شاحب يا ابي؟ لم يجب. وكف هذا المسؤول عن يقول لمرؤوسيه كلمات مثل: كيف تجرؤ، هل تفهم امام من انت" وكف عن الصوت العالي واصبح لطيفا، وكان لا يتفوه بكلمة الا بعد ان يستمع اولا لشرح الموضوع، كما لم يرد سائلا طالبا منه خدمة. ومن تلك اللحظة كف شبح الميت تماما عن الظهور.
جوجول