23 أكتوبر 2012

جثسيماني...الجهاد و الانتصار



الوقت ليل، و قد ترك الرب اورشليم مع الاحد عشر، و هو عالم بكل ما سيأتي عليه، ثم ينزل مع تلاميذه الى بستان جثسيماني، لقد كان المخلص يتأمل ما تشير اليه الرموز و هو يدخل البستان. و من المعروف ان الرب اعتاد ان يختلي في هذا المكان لذلك يذكر لوقا البشير ان الرب "مضى كالعادة" الي جبل الزيتون.
لقد مضى الآن وقت غير قليل منذ سبح الرب مع تلاميذه و على اثر ذلك غادروا العلية في اورشليم ، انه الآن يبدو في صمت و نفسه مثقلة للغاية. واحس كل واحد من التلاميذ بالتغير الذي طرأ على مشاعر السيد ، و لذلك لم يكن غريبا انه على اثر وصولهم باب البستان سمعوه يقول لهم في نغمة من التأثر الشديد "اجلسوا ههنا حتى امضي و اصلي هناك".
و يجلس التلاميذ عند مدخل البستان طاعة لامر سيدهم، بينما يصطحب معه بطرس و يعقوب و يوحنا ، فقد رأى من اللازم ان يكون هناك شهود عيان لمشهد جهاده، و لعل ما دفعه ايضا ان يأخذ معه التلاميذ هو شعور بشري مقدس بحاجته الى رفقة من المعزين المحبين يشجعونه في صراعه .
ان الآب الازلي بنفسه يشرف من علاه على هذا المشهد، و مرة بعد الاخرى يلقي الابن بنفسه بين يدى الآب في تضرع و لجاجة, و لا تزال كأس الاهوال تعبر عن المخلص الغارق في الآلام بل على النقيض تزداد مرارتها لحظة بعد الاخرى و يزداد الصراخ و تعلو الزفرات و يشتد الصراع في الصلاة و لكن الآب صامت و السماء تبدو كما لو كان احكم غلقها بالآف المصاريع و يسجل البشير لوقا القول "واذ كان في جهاد كان يصلي باشد لجاجة و صار عرقه كقطرات دم نازلة على الارض".
و لننظر ايضا الى تلاميذه الذين ملأوا مكيال حيرتنا امام هذه الامور الغامضة، فبينما كان السيد يصارع في جهاد لا يوصف نراهم قد غلب عليهم التعاس، و يوقظهم السيد و يطلب اليهم ان يسهروا معه، و لكنهم يغطون في النوم مرة اخرى غير عابئين به، تاركين السيد لآلامه، وواحد منهم هو الذي صرخ قائلا "لو شك الجميع فيك فانا لا اشك، و لو اضطررت ان اموت معك" و الآخر هو التلميذ المحبوب و الثالث هو الذي سبق و اعلن استعداده على تحمل الآلام عندما اتاه السؤال من السيد "اتستطيعان ان تشربا الكأس التي اشربها انا ، و ان تصطبغا بالصبغة التي اصطبغ بها انا؟".
و لنعود الآن و نتأمل عن اكثر قرب في هذا الصراع المرير في جثسيماني فلم يكد يسوع يخطو بضع خطوات داخل البستان مع تلاميذه الثلاثة ، حتى "ابتدأ امام عيونهم يحزن و يكتئب"، و في هذه الكلمات نجد اشارة الى ان شيئا لم يكن من قبل قد اتى عليه ، و يعطينا مرقس البشير بوصفه الدقيق لتفاصيل المشهد الرهيب فكرة اوضح عن الحزن الذي جاء على المخلص في قوله "ابتدأ يدهش" و هذه الكلمة في الاصل تتضمن حزنا مفاجئا بسبب شئ مخيف، و يريد البشير ان يعلن ان حزن يسوع كان بسبب مناظر من الخارج قد اقتحمته.
و عقب هذا يعود يسوع الى تلاميذه الثلاثة، و يتكلم اليهم بكلمات تلقي ضوءا على مقدار ما كان متثقلا به "نفسي حزينة جدا حتى الموت"، و هذه لا تكشف فحسب عن مقدار احزانه و لكن ايضا عن طبيعتها و نوعها، فنقرأ انه "كان في جهاد" او كما تترجم احيانا "كان يصارع مع الموت".
نلاحظ ايضا كيف يزداد حزنه كما يبدو من هذا الاعتراف الصريح "نفسي حزينة"، ثم يسرع الى تلاميذه الثلاثة كانسان يرحب باقل شئ يبعث على التعزية، و يتكلم مع تلاميذه كأخوة له قد يكون في مقدورهم ان يقدموا له معونة ، فيقول لهم "امكثوا هنا و اسهروا معي".
و بعد ان وجه اليهم هذه الكلمات افترق عنهم نحو رمية حجر، ثم جثا على ركبتيه، و خر على وجهه، و كانت تصعد منه انات و تضرعات من نفسه المثقلة بالحزن "ايها الاب كل شئ مستطاع لك، فاجز عني هذه الكأس، و لكن ليكن لا ما اريد بل ما تريد انت".
و قد يتساءل البعض "كيف يسأل المسيح عن امكانية فداء البشرية من غير الصليب، و بدون سفك دمه؟" لم يكن هذا ما يقصده المسيح، لقد كان سؤال الرب يختص بالاهوال الحالية، كأس جثسيماني ، فقد جرد نفسه من استخدام صفاته الالهية، و خاصة مقدرته التي لا تحد لكي يكون في وضع يجعله يسلك نفس طريق الايمان معنا، و على حد تعبير الرسول "ليتعلم الطاعة مم تألم به".
ان صلاة القدوس المتألم قد طرقت باب السماء بكل قوة، لكن لم تظفر اذنه بصدى فقد لزمت السماء الصمت، فنهض من تضرعه في حزن بالغ و اسرع الى تلاميذه لكنه وجدهم في سبات عميق، فأيقظهم موجها كلامه الى بطرس "يا سمعان انت نائم! اما قدرت ان تسهر معى ساعة واحدة؟!" سؤال حير التلميذ الجسور الذى امتلأ فمه منذ قليل باقسام الامانة حتى الموت، ثم يوجه الرب تحذيرا الى ثلاثتهم "اسهروا و صلوا لئلا تدخلوا في تجربة، اما الروح فنشيط و اما الجسد فضعيف".
ان الدافع الذي جعل الرب يسرع الى تلاميذه، ليس فقط شعوره بالحاجة الى من يواسيه، بل كان ايضا عطفه الشديد عليهم، اذ كانوا نظيره تحيط به قوات الظلمة و قد حانت الساعة التى قال عنها سابقا محذرا "ساعة الظلمة"، وكان من الضروري ان يجمعوا كل قواهم الروحية و الذهنية حتى لا يخوروا امام التجربة و يتعرضوا للشك و الانكار ثم الارتداد.
و يعود الرب مرة اخرى تحت ظلال البستان الكثيفة، و يصلي ثانية بطريقة تختلف قليلا عن الاولى "يا ابتاه ان لم يمكن ان تعبر عني هذه الكأس فلتكن مشيئتك"، و يذكر البشير انه في هذه المرة "كان يصلي بأشد لجاجة".
و بعد ان قام من الصلاة و رجع الى تلاميذه وجدهم "نياما من الحزن"، و كما يقول الكتاب "اذ كانت اعينهم ثقيلة من الحزن"، و في هذه الغيبوبة "لم يعلموا بماذا يجيبونه".
و للمرة الثالثة تركهم و مضى بمفرده و صلى نفس الكلمات و اذا بملاك يتراءى للمخلص، و يقترب منه "ليقويه"، و كان هذا الظهور سبب تعزية ليست بقليلة.
و ربما كانت ارسالية الملاك لاجل تقوية جسده المهدود و لانعاش روحه المغشى عليها، اذ نقرأ عنه انه بعدما اختفى الملاك "اذ كان في جهاد كان يصلي باشد لجاجة و صار عرقه كقطرات دم نازلة على الارض" يا له من منظر عجيب!.
و نود ان نشير مرة اخرى الى تلك الصلاة التي كثيرا ما يتعثر العالم بها، فمن الصعب جعلها تتفق مع محبة الرب للجنس البشري، و مع خضوعه لارادة الاب، ومع سابق علمه بكل الاشياء، ومع الهدوء الذي بدا عليه عندما اعلن عن الامه التي تنتظره، فكيف يرغب فجأة ان تعبر عنه الالام؟
اولا: بالنسبة لسابق علمه بكل الاشياء نكرر ما سبق ان ذكرناه ان الابن الازلي عندما اخلى نفسه في خضوع للاب كان هذا يتضمن انه اثناء تجواله في الارض عليه ان يتخلى و يجرد نفسه من الاستخدام غير المحدود لصفاته الالهية، و ان يسلك في طريق طاعة الايمان معنا، و يكمل نفسه فيه باعتباره رأسنا و رئيس كهنتنا ووسيطنا و "كعبد الرب" – وهذا هو لقبه في العهد القديم – كان عليه ان يخدم لا ان يأمر ، و ان يتعلم الطاعة لا ان يحكم، ان يصارع و يناضل لا ان ان يملك في راحة بعيدا عن اي ألم اوجهاد. و كيف يمكن ذلك لمن هو معادل لله، من غير ان يحد نفسه هكذا؟ ان كل الامه وو تجاربه كانت تعد خيالية و ليست حقيقية. انه لم يكف لحظة عن ان يكون هو الله حقيقة ، و لكنه منع نفسه من ممارسة كمالاته بحسبما كانت ارادة الاب السماوي.
ثانيا: نلاحظ ان الرب في جسيمانى لم يطلب ان يتخلص من الامه الشديدة عامة. و انما ان تعبر عنه الاهوال التي كان يمر بها انئذ، فكيف يرغب في شئ لا يتفق مع مشورة الاب، و هو  نفسه الذي عندما اراد التلاميذ اقناعه بالعدول عن تسليم نفسه، انتهرهم بشدة؟ و لكنه كان يسأل فقط ان كان ممكنا ان تعبر عنه الكأس، و كان يعني فقط تلك الكأس التى كانت مرارتها على لسانه.
ثالثا: هل كانت صلاة المسيح تتفق مع محبته للخطاة و مع خضوعه للاب السماوي؟ لقد طلب الرب ان تعبر الكأس عنه دون تعطيل لعمل الفداء. ووضع لامكانية عبور  الكأس عنه شروطا و حدودا، فلم يطلب ان تتدخل القدرة الالهية غير المحدودة لنجاته.
و بعد ان تأكد من تمسك الاب بالصمت المستمر، ان العالم لا يمكن فداؤه بطريقة اخرى سوى ان يشرب الكأس الى نهايتها، لم يعد يعبر بعد عن رغبته في ان تعبر الكأس عنه. و لم يعد يكرر هذه الصلاة.
وفرغت الكأس حتى ثغلها، و نهض المخلص من صلاته و اسرع الى تلاميذه! و قد تغيرت الآن تعبيرات وجهه و نغمة كلامه، و كل حركاته بما يشير الى القوة التي نالها، و الى احساسه بالانتصار، فقد خرج ظافرا من الصراع مستعدا لكل ما سيأتي عليه فيقول لتلاميذه "ناموا الآن و استريحوا، يكفي".
ثم يقول في ختام كلامه "قوموا هوذا الذي يسلمني قد اقترب". ان بطل اسرائيل يتقدم نيابة عنا ليقهر الموت و الجحيم و الشيطان. فدعونا نجثو له بكل اجلال و اكرام و نسير وراءه بالتهليل.