26 أكتوبر 2012

طعنة الحربة


اذ نعود الى مشهد الالام فوق الجلجثة، نجد تغييرا عظيما قد حدث، الصمت المطبق يخيم على الصلبان الثلاثة، و الموت نشر اجنحته السوداء على المصلوبين، و تفرق الجمع الذي كان محتشدا في مكان الصليب، و هم في تأثر عميق وندم بالغ، و يبدو انه حتى الرفقة القليلة من النسوة المخلصات، بعد ان كدن يقعن حائرات من فرط الحزن و الالم، قد رجعن الى المدينة، و لذلك لا نجد هناك سوى الحراس الرومان، و معهم التلميذ الذي كان يسوع يحبه، الذي بعد ان آوى مريم في بيته الآمن، لم يستطع ان يقاوم الرغبة الشديدة في العودة ثانية للمكان، حيث كان من تحبه نفسه معلقا على الصليب، ومن تريده ان يكون شاهدا للمشهد الاخير في الجلجثة  افضل من هذا التلميذ اليقظ الذي له العواطف المقدسة؟ انه يدوّن لنا بكل بساطة كل ما رآه.
اما الكهنة و الفريسيون الذين اعتادوا ان يصفوا عن البعوضة و يبلعون الجمل، فانهم ينصرفون عن الجريمة الدموية التى ارتكبوها الى الاهتمام بعادة كانت سائدة في اسرائيل تقضي برفع اجساد المذنبين من على الصلبان، ليدفنوا قبل ان تغيب الشمس، و هذه العادة كانت تستند الى وصية الهية تقول "واذا كان على انسان خطية حقها الموت فقتل و علقته على خشبة فلا تبت جثته على الخشبة بل تدفنه في ذلك اليوم لأن المعلق ملعون من الله، فلا تنجس ارضك التي يعطيك الرب الهك نصيبا"(تث21: 22، 23).
و هذه الوصية الغريبة كان يصعب علينا كثيرا تفسيرها لو لم يقدم لنا روح الرب المفتاح لها، و اذ ان الله يعد الذين يعلقون على الخشبة انهم ملعونون منه، فقد دفعت هذه الحقيقة المعتبرين في اسرائيل ان يستنتجوا ان الوصية ترمز الى شئ معين، لأن الانسان الشرير الذي لا يقدم للموت بهذه الوسيلة لا يمكن اعتباره انه اقل لعنة من آخر يعلق جسده علنا امام الجميع، ومن هنا نجد ان الوصية الالهية يدفن الجسد والوعد المتضمن فيها: ان توارى اللعنة من على الارض بدفن الجسد، قد اماطت اللثام عن رجاء معز انه بالحق في الامكان محو الخطية و ازالتها.
لكن، بديهي ان الامر لا يمكن ان يتم بمجرد دفن المذنبين الذين قضوا نحبهم، لذلك خطرت بالبال الفكرة ان زوال اللعنة، بحسب المشورة الازلية، سيتحقق في المستقبل بموت و دفن شخصية بارزة يحيطها الغموض، و هذه الافكار التي خطرت للمؤمنين من اليهود كانت تتفق مع فكر الله الذي لم يكن يقصد بالوصية الخاصة بدفن المذنبين الذين يقتلون و يعلقون، الا اشارة عن فداء المسيح في المستقبل "المسيح افتدانا من لعنة الناموس اذ صار لعنة لاجلنا لأنه مكتوب ملعون كل من علق على خشبة لتصير (بدلا من اللعنة) بركة ابراهيم للامم في المسيح يسوع"(غلا3: 13، 14).
ولهذا فكم يبدو لنا المشهد في الجلجثة عميقا في معانيه! والقوم الذين يقومون بدورهم هناك، انهم في الحقيقة لا يعلمون ما هم يفعلونه، و لكن هذا لا يمنع من ان يكونوا منقادين بيد العناية الالهية. و هكذا نراهم يمضون بنفس واحدة الى بيلاطس و يطلبون اليه ان تكسر سيقان المذنبين الثلاثة.
و لا يتردد بيلاطس ان يجيبهم الىطلبهم و يرسل للفور مجموعة من العسكر الى ساحة الصليب، ليكسروا سيقان المذنبينو يتأكدوا انهم قد ماتوا فعلا و كان هذا يعد عمل رحمة للمصلوبين، ليعجلوا بموتهم بأن تكسر سيقانهم بقضيب من الحديد، و بعد ذلك يضربونهم على صدورهم الضربة القاضية، و بعد ان اتموا هذا العمل مع المذنبين الآخرين جاءوا الى يسوع، و كانت الادلة تشير بوضوح انه قد مات، و لم تعد بعد حاجة الى كسر ساقيه خاصة وان واحدا من العسكر طعن جنبه بالحربة.
ويبدو ان هذا العمل ليست له اهمية تذكر ، و لكن يوحنا البشير الذي حرص على تدوينه ينظر اليه نظرة مختلفة، فهو يرى في هذه الحقيقة المزدوجة عدم كسر ساقي المخلص و طعنه بالحربة في جنبه، تدخلا الهيا تمت به نبوتان من العهد القديم، فيقول "لأن هذا كان ليتم الكتاب القائل عظم لا يكسر منه" و هذا قد ذكر عن خروف الفصح (خر12: 46).
وفي طعنة الرمح يرى البشير اتمام نص كتابي آخر، فيستطرد قائلا "وايضا يقول كتاب آخر سينظر الى الذين طعنوه" اذ تأتي الى ذاكرته كلمة الرب على لسان النبي "وافيض على بيت داود و على سكان اورشليم روح النعمة و التضرعات فينظرون الى الذين طعنوه"(زك12: 10).
والمعنى الوحيد الحقيقي لهذه الكلمات التي ذكرت بروح النبوة، قد صار واضحا للكثيرين، و سيكون هكذا لكثيرين غيرهم بل للعالم كله، اما في يوم النعمة او في يوم الدينونة، فالذين انكروا على المسيح حقه في الاكرام اللائق به اما ان يستنيروا بالروح القدس و ينظرون اليه بعيون باكية وقلوب ضارعة و الا فانهم سيختبرون ما سبق و اعلنه الرسول في سفر الرؤيا "هوذا يأتى مع السحاب و ستنظره كل عين و الذين طعنوه و ينوح عليه جميع قبائل الارض، نعم امين".