الوقت الآن حوالي الساعة التاسعة، اي الثالثة
بعد الظهر، و لم يمض وقت على الصرخة الرهيبة التي تصاعدت من قلب يسوع "ايلي
ايلي لما شبقتني" حتى تعود الشمس الى الظهور نافضة عنها مسوحها السوداء. و
تنظر السماء الى الارض باشفاق، و لكن هذا لا يدل على ان الظلمة الشديدة التي غطت
نفس الفادي قد انقشعت، و لكنها لا تزال مستمرة حتى لحظة انطلاقه. و من وسط هذه
الظلمة الحالكة تبعث الى مسامعنا هذه الكلمة "انا عطشان" و بذلك تتم
كلمات المزمور69 في هذه المرحلة الاخيرة من الام الرب.
انه يجتاز الآن المرحلة التي يصفه فيها روح
النبوة في المزمور و هو يقول "تعبت من صراخي، يبس حلقي، كلت عيناي من انتظار
الهي، اقترب الى نفسي فكها، بسبب اعدائي افدني، العار قد كسر قلبي فمرضت،انتظرت
رقة فلم تكن و معزين فلم اجد". ثم يختتم هذه الايات بهذه الكلمات العميقة
"يجعلون في طعامي علقما و في عطشي يسقونني خلا". وكل هذه تتم فيه شيئا
فشيئا كلما تقدمت به الالام.
و لكن ما هو الوجع الذي تدل عليه هذه الصرخة
"انا عطشان"؟ لقد كان اولا بسبب الالام الجسدية. فكم كان المخلص في
اعياء و اجهاد عندما وصل الى الجلجثة! و قد مضى عليه الآن نحو ست ساعات و هو معلق
على الصليب حتى جفت الاوعية الدموية في جسده المقدس، فتسري في كيانه حمى شديدة، و
يلتصق لسانه بفكيه، و هذا العذاب اكثر ايلاما مما يسببه العطش للماء، فتفكروا في
ان مخلص العالم قد اختبر ايضا هذا النوع من العطش، و يصل الى هذه الدرجة من العوز،
و هو الذي غناه لا يستقصى، و لكنه لاجلنا احتمل كل هذا "لكي نستغنى نحن ايضا
بفقره".
و لكن الصرخة التي انبعثت من فوق الصليب تشير
الى شئ امر من العذاب الجسدي. الا يذكرنا هذا بالوصف الرهيب الذي جاء في حديث الرب
عن العالم الآخر؟ و الا يأتي في ذاكرتنا بذلك الرجل الغني الذي كان و هو في الارض
يلبس البز و الارجوان و يتنعم كل يوم مترفها، و لكن بعد ان اكتسحه الموت و نزل الى
الهاوية صار في الم و عذاب، و هو يئن من جراء عطش داخلي في نفسه، فنادى ابراهيم
طالبا اليه ان يرسل لعازر ليغمس طرف اصبعه بماء و يبرد لسانه الذي اكتوى من
اللهيب، و لكن طلبه قد رفض بلا رحمة رغم التوسلات التى كانت تقرع بشدة على ابواب
السماء و هى منبعثة من المساكن التي يغطيها الليل الابدي.
وكل من اشرق له نور الروح القدس على الكلمات
"تأديب سلامنا عليه و بحبرره شفينا" لابد ان يتعجب بحق ان لم يكن الوسيط
العظيم قد اختبر بالفعل نصيب الرجل المذكور في مثل الرب – ان لم يكن قد ذاق كل
العذابات التي تقع على الذين هم تحت الدينونة، لكن قد اختبر ذلك بالحقيقة! و لاشك
ان الاحتقار و الاستهزاء الذي وصل الى سمعه من تحت الصليب كما تعبر عنه هذه
الكلمات "اتركوه، لنرى هل يأتي ايليا ليخلصه" لم يكن الا انعكاسا باهتا
عن الهجمات التى كان لابد ان يتحملها خلف ستار المنظور.
وخلف المنظور كانت تحيط به اجناد بليعال، و
قوات الظلمة كانت تصوب سهامها النارية نحوه. و من هذا القفر المخيف جاءت الكلمة
"انا عطشان" و ذلك لكى ينقذنا من العطش الابدي، و يا له من ينبوع دائم
من التعزية قد فتحه لنا هو بعطشه.