جاء مرة صوت من السماء سمعه الجمع حول يسوع، و
يذكر البشير ان "الجمع الذي كان واقفا و سمع قال قد حدث رعد، و اخرون قد كلمه
ملاك". و لم يعرف احد بالضبط ما هو هذا الصوت العجيب، و لو ان الجميع اخذتهم
الدهشة و بهتوا، و تحرك فيهم احساس بالرهبة، تلك هي نفس مشاعرنا عندما نسمع صدى
الصرخة التي انبعثت من فوق الصليب. و انني اعترف ان نفسي بجملتها تهتز كلما فكرت
ان ادنو من عمق الآلام التي لا يسبر غورها، و التي انطلقت منها هذه الصرخة
"ايلي ايلي لما شبقتني". و كم اود ان انطرح على وجهي في صمت و خشوع امام
هذه الحادثة الرهيبة اكثر من ان اكتب او اتحدث عنها! من يستطيع ان يدرك هذا؟. ان
كان الذهن البشري قد وصل الى اخر حدود ادراكه هنا فلا زال الايمان يجد طريقه بين
هذه الظلال الكثيفة، يتقدمه نور الهي، و هذا النور يشع من وساطة المخلص. و دعونا
نتأمل الآن باكثر امعان مسترشدين بهذا النور، في الصرخة الرهيبة التي تصاعدت من
قلب الفادى المصلوب.
و بغتة يحدث شئ رهيب ! و تزاد دهشتنا و
يناتبنا الرعب و الفزع. فما كادت الشمس تتوسط قبة السماء، و اذ بها تخفي اشعتها و
كأن الارض لا تستحق بعد نورها، و ابتدأت السماء امام انظار الجميع تكسوها ظلمة
حالكة و هي صافية بغير غيوم، و تبدأ اولا بظهور الشفق كما يحدث عادة عندما يبتدئ
النهار يميل، ثم تتبعه ظلمة حالكة، و اخيرا يرخي الليل سدوله القاتمة و يبسط ظلالا
كثيفة كغطاء النعش، ليس فوق جبال اليهودية فحسب بل فوق كل الارض، و يصيب الفزع
مملكة الحيوان فتتجمع القطعان في الحقول و تسرع طيور السماء الى اوكارها، و جموع
الناس الذين تجمعوا عند الصليب يهرولون عائدين الى اورشليم و هم يصيحون و يصفقون
بايديهم و يقرعون صدورهم، و يصل الذعر و الهلع الى القصور و الاكواخ، و يحس من
فيها ان العالم يتهدده الخراب. لقد اطلع الاباء الاولون ومن بينهم اوريجانوس و
اوسابيوس علة ما سجله الوثنيون بشأن هذه الحادثة فيروى احدهم ان كسوف للشمس حدث في نفس الوقت الذي صلب فيه المسيح،
وان ذلك الكسوف الكلي المخيف لم يحدث قط من قبل في العالم. و يذكر تقليد قديم ما
شهد به ديونيسيوس الاريوباغي عن الظلمة الشمسية التي سبقت موت يسوع، عندما صاح
متعجبا "اما ان الاله نفسه يتألم في هذه اللحظة او انه يشارك آخر يجتاز
الالام".
ونحن الآن نقف مبهوتين امام هذه الظاهرة
المخيفة، التي لا يصعب على الاعمى ان يلمس فيها اصابع القدير، و لكن ماذا تدل عليه
هذه الاسرار العميقة؟ ان مدلول الظلمة المفاجئة يصل الى عمق ساحق اكثر مما تستطيع
ان تصل اليه محاولات تفسيرها. و السبب الرئيسي لهذه الظاهرة العجيبة هو لكي يسدل
ستارا، بطريقة عجيبة، على الحالة النفسية للمصلوب في هذا الوقت بالذات، بما فيها
من اسرار عميقة. و قد اخفى الرب نفسه عن انظار العالم خلف ستار كثيف من ظلمة الليل
المرعدة، كما لو كان خلف حجاب الهيكل، و قد مضت عليه الآن ثلاث ساعات وهو مغطى
بتلك الظلمة، انه في قدس الاقداس يقوم باعمال وظيفته الكهنوتية ، فهو هرون الحقيقي
و نفس الوقت الحمل للمحرقة.
وما تم بينه و بين ابيه في تلك الاثناء يظل
الى هذه اللحظة مختوما عليه كما بسبعة ختوم، مخفيا في اعماق الابدية. و لكننا نعلم
انه خلف ذلك الحجاب كان منهمكا في اعنف صراع، و قد سجل امجد انتصار، و توج طاعته
كبديل عنا بتاجها الاخير.
وتلك الظاهرة كانت تشير الى احتجاب شمس اخرى
غير الشمس الارضية، و ان الظلمة تغطي عالما آخر. انها تشير الى انقضاء يوم تعزية و
فرح، و الى ليل يبسط ظلمته على النفس، و قد اوشك آخر نجم ساطع ان يختفي من سمائها.
تصوروا انسانا خاليا من الخطية قدوسا و له طبيعة الهية، و قد حرم من نعمة حضور
ابيه السماوي، نراه منفيا بين مناظر الجحيم و لا يرى شيئا سوى صور الخطية و الموت،
تأملوا في حالته هذه ثم قولوا لي ان كانت لا تشابهها تماما ظلمة الليل الحالكة
التي غطت الارض.
ولذا كانت الصرخة المؤثرة "ايلي ايلي لما
شبقتني" التي ينقلها الينا البشيرون بنفس اللغة التى بها خرجت من فم القدوس،
و كأنهم خشوا ان يحجب نقلها لليونانية شيئا من مدلولها.
ان كل المؤمنين في كل العصور قد وقفوا مبهوتين
امام هذه الكلمات، و قد حاولوا عبثا ان يسبروا عمقها، و انتم تعلمون ان هذه
الكلمات يستهل بها المزمور الثاني و العشرون، الذي يصف فيه داود مسوقا من الروح
القدس نصيب البار من الالام و هو يتجول في عالم فاجر اثيم، بينما يربط هذه الالام
بالامه هو الشخصية. غير ان الوصف يتسع شيئا فشيئا الى ان تختفي حالة صاحب المزمور
و ظروفه الخاصة، و يجب ان يدرك المرء ان ثمة احداثا اكثر هولا و اهمية من تلك التي
حدثت في حياة داود تختلط في تعبيرات المزمور، و صورة متألم برئ لم يفعل ذنبا تزداد
وضوحا تدريجيا و قد تحققت تماما في حياة الرب يسوع. و في الصورة التي يصفها
المزمور نجد ان اثارا طفيفة منها قد حدثت في حياة داود، الامر الذي يجعلنا نبحث عن
تحقيق حرفي لها في حياة شخص آخر لأن المتألم الوارد ذكره في المزامير لا يبدو فقط
منبوذا من الارض كلها، و ليس فحسب كل من يراه يستهزئ به قائلا "اتكل على الرب
فلينجه، لينقذه لأنه سر به"، و ليس فقط يصرخ في شدة الالم "كالماء
انسكبت، انفصلت كل عظامي"، و "لصق لساني بحنكي و الى تراب الموت
تضعني"، لكنه ينبغي ان يجتاز ايضا فيما لم يختبره داود "ان تثقب يداه و
رجلاه، و ان يقتسم اعداؤه ثيابه بينهم، و ان يلقوا قرعة على لباسه".
ولكن هل حقا ان الله قد ترك المسيح و هو على
الصليب؟ وكيف يمكن ان يترك الله من كان واحدا معه. و لكنه وهو في عمق الالام و
بسببها انبعثت صرخته "الهي الهي لماذا تركتني!"، تغلب الحزن عليه حتى
تملكه احساس و كأنه قد نفى بعيدا عن الله، و سلم تماما لقوات الجحيم. و لم يقتصر
الامر عند حد ان سيطرت عليه كل الاهوال التي تولدت في العالم لكنه دخل بنفسه
المقدسة و بطريقة لا تدرك، في الاحساس بذنوبنا، و تجرع الكأس التي فاضت باجرة
خطايانا، و هى الموت الذي كانت تتضمنه اللعنة التى جاءت على الانسان.
ولم يسمع يسوع كلمة عطف من السماء، و لم ينتعش
و هو في حزنه الشديد برؤية ملاك، و احتجب عنه حقا وجه الاب. و ان كانت تجارب
جثسيماني قد قادت الرب يسوع الى منتهى حدود الطاعة، فان تجارب الصليب قد اوصلته
الى اعظم درجات البذل.