مرة اخرى نرفع انظارنا لنتطلع الى الثلاثة المعلقين على الصلبان، انهم يتشابهون فى حالتهم و كل منهم قد وصل الان الى نهاية رحلة الحياة و روحه تحوم على حافة الابدية، لكن ذلك المعلق في الوسط على الرغم من انه معرض لعاصفة هوجاء عاتية لكنه ينشر القلوع ليبحر في امان نحو ميناء الراحة و على العكس من ذلك نرى الاثنين الاخرين محطمين تماما تتهددهما احوال رهيبة و هما يصارعان الامواج، انهما في حياتهما قد فتحا قلبيهما للاوهام و قد اتبعا المسرات الوقتية ليعملا خطية تلو خطية الى ان القى القبض عليهما اخيرا كمجرمين و علقا على خشبة ليوفيا حق العدالة. ان زمان اللذة قصير لكن الندم يطول ..
و رغم ذلك فما اكثر الذين، كالقطيع الذي دخلته الارواح النجسة ، لا يتوقفون عن ان يلقوا انفسهم في هوة الهلاك خلف سالفيهم المخدوعين .
ان المذنبين قد علقا هناك و ساد الصمت عليهما لحظة، و لكنهما لم يستطيعا ان يحولا اعينهما عن الشخص العجيب المضرج بدمائه بجوارهما، و الذي تتجلى فيه القداسة بصورة حية لم تختف عنهما، و اخيرا يبدأ المذنب الذي على اليسار في الكلام مشتركا في عبارات التعيير و التجديف التى ينفثها الجمع تحت الصليب و يوجه كلامه لذاك المتوجه باكليل الشوك قائلا: "ان كنت انت المسيح خلص نفسك و ايانا".
و لم يكن من جواب و كانت الفرصة لا تزال سانحة للسارق و القاتل، و لكن لا خلاص للمستهزئ العنيد الذى تقسى قلبه و هو لا يريد ان يؤمن و اضطر الرب ان يتركه لمصيره المحتوم.
حول نظرك الان الى الاخر المعلق عن يمين المخلص و هنا تجد منظرا يتهيأ للظهور و سوف تنتعش نفوسنا برؤياه بعد السحابة القاتمة التي عبرت فوق ارواحنا بسبب المنظر السابق، ان المذنب الاخر يقدم لنا صورة اخرى جميلة على عكس الاولى، و هوان كان مذنبا نظير الاول و شريكا له في المصير المخيف، و مثله على حافة الجحيم، لكننا نراه يحطم قيود الشيطان و يطرحها عنه في اللحظة الاخيرة ثم يتقدم صاعدا طريقا ليس من المعتاد ان يطأها انسان و هو في اخر نسمة من الحياة حتى و ان كانت لا تزال تفصله بضع خطوات عن هوة الهلاك.
و لا نعرف بالتحديد ما الذي كان له التأثير المبارك على هذا المذنب محولا قلبه معه، و هو الذي قبل ذلك بقليل اشترك في حملة التعيير ضد يسوع، ربما كان ذلك بسبب صلاة الرب المؤثرة في طلب الغفران لقاتليه، و جلال العظمة و القداسة التي كانت تشع من هيئته و لكن يكفي ان نقول ان التغيير الذي حدث في نفس المجرم المسكين كان كاملا و حاسما و على الاقل بعد بداية للتجديد الكامل بعمل الروح القدس.
انه معلق هناك على الصليب و لكن كل الملامح التي تبدو على وجهه الذي ثبته نحو المخلص المتألم تكشف لنا عن خبايا نفسه الداخلية حيث نرى بوضوح ان الارواح الشريرة قد تفرقت عنه و ان سيلا من الافكار و المشاعر المقدسة يعبر في نفسه ، كما ان عبارات التعيير التي اشترك فيها شريكه في الالام اطلقت لسانهمن عقاله بعد ان كان في صمت بدافع الاحترام و التوقير و يحس الان ان من واجبه ان يقف في وجه حملة التعيير و التجديف و يمتنع عن الاشتراك في القول "ان كنت انت المسيح خلص نفسك و ايانا". انه يعرف اهمية هذه اللحظة الحاسمة و رهبتها اذ يقترب من الابدية و لا يحس باي رابطة تربطه برفيقه في الجريمة بعكس ما يحس به نحوذلك المتوج باكليل الشوك.
و ينتابه رعب شديد بسبب الكلمات الشريرة التي فاه بها شريكه في الالام فيقول له "او لا انت لا تخاف الله اذ انت تحت هذا الحكم بعينه؟" لقد اصابته رعدة عندما فكر في ذلك الشخص الذي هو ديان الاحياء و الاموات! و كم نراها مؤثرة للغاية هذه الدعوة للتوبة كما يوجهها مذنب لرفيقه! و لكن اسمعوه يكمل كلامه "اما نحن فبعدل جوزينا لاننا ننال استحقاق ما فعلنا!" انها لغة الاتضاع الحقيقي ثم تأملوه وهو يحكم على نفسه و يضع نفسه على قدم المساواة مع المنب الاخر! انها لغة الشجاعة التي بها يحرر نفسه من حبائل الخداع .
و دعونا نستمع اكثر الى هذا المذنب اذ يستطرد قائلا "واما هذا فلم يفعل شيئا ليس في محله"، و يا لها من شهادة جديدة عن براءة يسوع.
و الان يحدث امر يثير العجب و يرفع القناع الاخير عن عمل النعمة في قلب المذنب، و من كان يتوقع اننا نرى شيئا من هذا النوع على ذلك الجبل الرهيب! فبعد ان ينتهر المذنب التائب رفيقه المجدف يحول وجهه مرة اخرى نحو ذاك الذي امسى رجاءه الوحيد و هدف محبته و يقول له في اتضاع و انكسار و في هيبة و ثقة "اذكرني يارب متى جئت في ملكوتك".
هنا نجد نورا الهيا وسط الظلمة الحالكة، انه لا يقول يا معلم او يا سيد و لكنه يناديه بلقب الجلال "يا رب" و بذلك يعلن للواقفين ان هذا الذي يظهر كالدودة التي داستها الاقدام هو بنفسه ملك المجد السماوي. و يلقي بنفسه عليه في ثقة الاطفال و يتضرع اليه قائلا "اذكرني" و كم تتضمن هذه الصرخة! انها تعبير قوي يثبت حقيقة وجود عالم ات و لا يطلب المذنب الخلاص من الالام الجسدية التي يخور تحت ثقل وطأتها لكنه يبغي شيئا اسمى من ذلك .
ويضيف قائلا "متى جئت في ملكوتك" هل يريد ان يقول "ان كنت ستموت لكنك ستقوم في انتصار على القبر، و ملكوتك سيأتي و سيظل عرشك الى الابد"؟. انه بالتأكيد يقصد هذا المعنى كما انه يريد ان يقول"اليك قد دفه السلطان و سوف يرفرف علم السلام فوق كل مكان من الارض من اقصاها الى اقصاها و بعد ان تكون قد فرغت من تأسيس ملكوتك فعندئذ هبني انا المجرم المسكين ان اقبل بين احقر عبيدك.